أرقام

أرقام

هذه المؤشرات الحضارية

تتعدد التعريفات حـول كلمة "الحضارة"، كـما تتعدد الاجتهادات حـول المؤشرات التي يمكن الاسترشاد بها لقيـاس التقدم الحضـاري. وبينما يظل الخلاف قائما حـول الجوانب الثقافية والاجتماعيـة فإن المؤشرات المادية تظل دائما سهلة القياس.

في فترة سابقة كان استهلاك الحديد مؤشرا لامتلاك وسائل التقدم الحضاري، فمن الحديد يأتي العمران، وتتعدد وسائل النقل، وتشيد المصـانع وتولد الآلات.. هكذا كان يمكن القول إن تزايد استهلاك الفرد من الحديد يعطي مؤشرا لامتلاكـه لكل هذه الأدوات أو بعضها، ولكن مع تقدم العلوم والتكنولوجيا دخلت بدائل الحديد منافسة له، فلم تعد أرقامه وحدها كافية.

على النقيض من ذلك، ظلت مجموعة الطاقة من فحم وغاز ونفط وكهرباء وطاقة رياح وطاقة شمسية.. ظلت هذه المجموعة - ببدائلها المختلفـة - مؤشرا متصاعدا يقيس تقـدم مستوى المعيشـة ومدى انتشار الأدوات المادية لحضارة العصر ابتـداء من المصنع، إلى وسائل النقل المتعددة.. ووصولا إلى المسكن وما تحوزه ست البيت. وبطبيعة الحال فقد حدث انقلاب في كل ذلك خـلال الحقب الأخيرة. تعـددت مصـادر الطـاقـة واستخداماتها.. وتزايد متوسط استهلاك الفرد بعد أن تمت - تقريبا - ميكنة كل شيء في حياته.. ولكن ذلك المتوسط ظل مرتبطا بمتوسط ما يحوزه الإنسان في مجتمع ما من دخل يتيـح له هذا المستوى أو ذاك من المعيشة. مستوى البلد أو المجتمع له انعكاسه ومستوى دخل الفـرد لـه انعكـاس آخـر.. وبينما تعتمـد المرأة الإفريقيـة في العديد من البلدان على حطب الوقود أو روث البهائم لتغـذيـة مطبخها، وبينما تقضي كثير من الإفـريقيات عـددا كبيرا من أيـام كل شهـر في جمع الأحطاب.. فإن الوقود البديل في بيت المرأة الأوربية أو الأمريكية: كهرباء وغاز يغـذيان أدوات حديثة من المكنسة والمدفـأة والثلاجـة وتكييـف الهواء وأجهزة الطهي وأجهزة الوقاية من التلوث.

إنهما نمطـان من الحياة.. ومستـويان مختلفـان من الاستهلاك، وبما يجعلنا نقول إن أرقـام الاستهلاك من الطاقة تعطي مؤشرا أساسيا حول مستوى الحياة ومدى امتلاك أدوات الحضارة الحديثة.

دول القاع وماذا يجري لها؟

خلال عشرين عاما تمتد بين عامي 1971 و 1992 وطبقا لتقرير البنك الدولي: التنمية في العالم (1994) فقد زاد متوسط استخدام الطاقـة، وأصبح نصيب الفرد مما يسميه الخـبراء مكافآت النفط (1447) كيلو جراما (عام 92) في مقابل (1154) كيلو جراما عام (1971) أي أن نسبة الزيادة خلال عشرين عاما تصل إلى الربع تقريبا.. ولكن هذه الزيادة لم تكن عامة.. كـانت هناك قفزات تشير لتقدم مستويات المعيشة.. وكانت هناك تراجعات تشير إلى العكس.. والمفارقة واضحـة حيث تسجل بلد مثل تشاد أو بوركينافاسو متوسط استهلاك للفرد لا يزيد على 16 كيلو جراما.. في مقابل 7662 كيلو جراما في الولايات المتحـدة و 5395 كيلو جـراما في السـويد و5100 كيلو جرام في بلجيكا.

الهوة شاسعة، فإذا تأملنا الخريطة وبدأنا من القاع لـوجدنا (42) بلدا مما يطلق عليها البنك الدولي صفة اقتصاديات منخفضة الدخل، والتي يقل فيها متوسط نصيب الفرد من الناتج القومي عن (675) دولارا في السنة.. هذه البلدان تضاعف فيها متوسط الاستهلاك بين عامي (71) و (92)، لكنها ظلت في قاع العالم حيث لم يزد المتوسط في العام الأخير للمقارنة على (338) كيلو جراما..و.. ينخفض الرقم إلى (15) كيلو جراما في بوتان وسبعة كيلو جرامات في الصومال، و (21) كيلو جراما في إثيـوبيا.. بينما يـرتفع المتـوسط في دولـة من نفس المجموعة هي مصر إلى (586) كيلو جراما.. وفي الصين (600) كيلو جرام.

إنها الفروق الشاسعة حتى داخل المجموعة الواحدة، مجموعة منخفضي الدخل..

الأخطر، وهو ما تسجله الأرقـام أن بعض البلدان كانت أفضل منذ عشرين عاما!.

لقـد تراجع الاستهـلاك في الصومـال إلى أقل من النصف..وفي موزمبيق إلى الثلث.. كـما تراجع في تنزانيا وسيراليـون وأوغندا بنسب مختلفـة.. وكـان التراجع مصحـوبا بتراجع الدخل. وأحيانا بالاضطرابات السياسية والاقتصادية! إنها المأساة تعكس الطاقة أحد جوانبها.

دول القمة: الإمارات هي الأولى!

على العكـس من ذلك تأتي دول القمـة، ذات الاقتصاديات مرتفعة الدخل، وهي 23 بلـدا، يزيد متوسط نصيب الفرد فيها من الناتج القومي الإجمالي على 8356 دولارا أمريكيا و.. هنا نلاحظ أن هوة الدخل بين الأغنياء والفقراء تكاد تقترب من هوة الاستهلاك في الطاقـة.. فتسجل المجموعة الأولى ما بين ثلاثة عشر وخمسة عشر ضعفا في مستوى الدخل ومستوى استهلاك الطاقة بالقياس للمجموعة الثانية.

من المجموعة الأخيرة والتي تتمتع بمتوسط استهلاك طاقة قدره (5101) كيلو جرام عام 1992، نلاحظ أن نسبة النمو خلال العشرين عاما الأخيرة ليست ضخمة ولم تزد على 25%.. والسبب واضح أنها قد حققت مبكرا درجة عالية من التقدم، بينما ظلت مجموعة العالم الثالث بحاجة إلى قفزات أوسع.

في هذا الإطار يكاد استهلاك الأمريكى من الطاقة لا يتغير تقريبا بين عامي المقارنة. وفي هذا الإطـار تسجل إسرائيل متوسطا قدره 2367 كيلو جراما أي نحو أربعة أضعاف المتوسط في مصر.. وتسجل بلدان مثل بلجيكا وفنلنـدا والسويد وأستراليا أكثر من ضعف هذا المتوسط الذي سجلته إسرائيل..بينما تسجل كندا والولايات المتحدة أكثر من ثلاثة أضعافها.

المفاجـأة أن هناك دولة عربية هي الإمارات العربية المتحـدة تقف على رأس الهرم في جدول كبـار مستهلكي الطاقة.

إنها الأولى في العالم كله وبما يصل إلى نحـو ضعف الـدولة التـاليـة لها وهي كنـدا حيث يصل متـوسط الاستهلاك في الإمارات إلى (14631) كيلو جراما في السنة مقابل (7912) كيلو جراما في كندا.

هل تستمر الخريطة على هذا النحو في القرن الـواحد والعشرين؟.. هل تستمر أرقام الطاقة ناطقة بلسان العوز والثراء.. التخلف والتقدم؟

دلالة الأرقـام سوف تستمر، لكن مواقع الدول لابد أن تختلف وإن ارتبط ذلك بمحددات اقتصادية من بينها: القدرة على إنتاج الطاقة التجارية وامتلاكها.

في هذا المجال، يتوقع الخبراء أن تلعب. زيادة استهلاك الطـاقـة دورها في أسعار النفط فيصل سعر البرميل إلى خمسين دولارا عام (2010)، كما تنبأ بذلك خبير أمريكي أمام مؤتمر عالمي للتنمية الاقتصادية انعقد في مدريد في خريف 1994.

أيضا، وفي إطار التوقعات تأتي قضية البدائل، ونمو مصادر مثل طاقـة الرياح.. وقـد سجلت إحدى الدول الأوربية وهي الدانمارك رقما قياسيا فاعتمدت في (10%) من إنتاج الكهرباء.. على طاقة الرياح!

الأرقـام تحمل الكثير، لكنهـا كما تشير لمواطن التقدم والتخلف، فإنها ثشير في نفس الوقت لمصادر التلوث في العالم.. فكلما زاد الإنسان من استخدام أنواع بعينها من الطاقة، زاد تلويثه لبيئته.. وبما يجعلنا نتساءل: هل يكون المستقبل إذن لنوع من الطاقـة النظيفة؟.. وهل يعتذر إنسان العـالم الأول لإنسان العالم الثالث لأنه أفسد عالمه؟

القضيـة مـوضع اهتمام المجتمـع الدولي على أي حال.

 

محمود المراغي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات