مائة عام على الحلم الصهيوني.. ثلاثة تواريخ مقتطعة

مائة عام على الحلم الصهيوني.. ثلاثة تواريخ مقتطعة

حديث الشهر
ربما كنا من أكثر الشعوب تذكرا للماضي بما فيه من تواريخ وأثقال مطمورة. ولكننا بالتأكيد أبعدها عن استخلاص التجربة والعبرة من أحداث هذا التاريخ، فمعظم الثقافات تحمل معنى خاصا لتذكر الأيام والحوادث، وتمر الأجيال جيلا بعد جيل وتبقى بعض حوادث التاريخ عالقة في الأذهان، تضيف إلىها الذاكرة الشعبية الكثير من التفاصيل المتخيلة وتنقص منها أيضا ولا يبقى منها إلا خلاصة التجربة والدرس المستفاد ولكن تاريخنا يتحول تدريجيا إلى قيد آسر من الصعب الفكاك منه.

ويذكرنا هذا الشهر نحن العرب بحادثة الحوادث التي مازالت ذيولها تتكرر كل يوم على صفحات الصحف أو في المنتديات السياسية، إنها مناسبة مرور مائة عام على أول مؤتمر صهيوني عقد في أوربا يهدف إلى جعل فلسطين وطنا قوميا لليهود وذكرى مرور ثمانين عاما على وعد أرثر بلفور وزير الخارجية البريطاني وقتها، الذي صدر في الثاني من نوفمبر ،1917 وكذلك مرور عشرين سنة على زيارة الرئيس أنور السادات للقدس، إنها حوادث قد تبدو منفردة وبعيدة عن بعضها البعض، ولكن هناك خيطا واحدا يجمعها جميعا في أتون هو الصراع الدامي الذي لم تكتمل فصوله بعد في أرض عربية هي فلسطين وما حولها، لأن معظم التداعيات التي أثرت في هذه المنطقة العربية بكل خيبات الأمل وضياع الأحلام قد نبتت من جذوة هذا الصراع المدمر.

يلجأ الناس إذن للتاريخ ليستخلصوا عبرة منه، وليغيروا من سلوكهم من جراء هذه الخبرة سواء أكانت سارة أو سيئة وليتفادوا ما حدث في السابق من سلبيات ويؤكدوا الإيجابيات، وحتى يفعلوا ذلك لابد من معاودة قراءة التاريخ قراءة صحيحة غير متحيزة وغير محرفة وقليلا ما يفعلون.

عند قراءة تاريخ الدعوة الصهيونية بتفاصيلها، وقراءة ردود الفعل العربية، يخرج المراقب الفطن بأن هناك الكثير مما فاتنا تعلمه، ويتضح لنا الفرق بين فهم وهضم العصر وأدواته، وبين تجاهلها والركون إلى ما عرفناه في السابق، لقد أخذتنا في كثير من المواقف العاطفة الجياشة، وردود الفعل المتسرعة وغير الرصينة، وكلما وجدنا أنفسنا في مواجهة تراكم الظلم البين فيما حدث لأهلنا العرب في فلسطين، زادنا ذلك حماسا دون تخطيط أو تفكير، ولجأنا إلى بعض ردود الفعل السريعة وغير المحسوبة، التي غالبا ما تأتي نتائجها معاكسة لما أردنا، والنتيجة أننا نقدم لعدونا مستودعا من الذرائع يستخدمه ضدنا متى شاء وكيف شاء، والعودة لقراءة هذا الموضوع هي عودة حزينة لأن كل التضحيات التي قدمت وكل الشهداء الذين سقطوا على الأرض من مجمل العرب كل العرب وكل المشردين واللاجئين لم يتسن لتضحياتهم أن تصل إلى أي نتيجة مبتغاة حتى الآن، وذلك في ظني بسبب فشلنا في الفهم الصحيح لوسائل العصر، وبعدنا عن مواجهة التحدي الحضاري بالوسائل الملائمة لذلك، فقد خاضت الدعوة الصهيونية ومن ثم إسرائيل أشكالا من التحالفات والتحالفات المضادة، وكان الهدف دائما واضحا لا يتغير، تتعدد الوسائل ويبقى ذلك الهدف واحدا وهو خلق "وطن قومي لليهود"، وساهم تغير الأهداف العربية من الدعوة لملاقاة التحدي الإسرائيلي إلى محاولة نسف بلدان عربية من الخريطة، إلى خلافات عقيم في تشتيت الجهد وإضاعة الطاقات.

مائة عام على الدعوة

في عام 1897 عقد المؤتمر الصهيوني الأول في مدينة بازل السويسرية، وقد كان المفكر الرئيسي خلف هذا المؤتمر هو هرتزل الصحفي النمساوي اليهودي الذي أخذ على عاتقه وضع الخطوط العريضة لمعالم الطريق إلى دولة يهودية في فلسطين، هذا الصحفي الذي مات وهو في سن صغيرة نسبيا، لم يكرس لهذه الدعوة من سني عمره إلا ثماني سنوات فقط، وهنا أحد الأخطاء الكبرى في قراءتنا للدعوة الصهيونية، فهي ليست دعوة فردية، ولم تكن انطلاقاتها في السنوات الأخيرة من القرن التاسع عشر فقط، بل كانت في الحقيقة نتاج فكر وممارسات سياسية سادت معظم القرن التاسع عشر الأوربي، ولم تكن تيارا وحيدا بل كانت جماعية وتتسم بالتعددية، فالهجرة اليهودية إلى فلسطين لغايات دينية كانت موجودة على مر القرون، وبدأ ظهور اليهود في فلسطين بشكل ملحوظ منذ بداية القرن التاسع عشر، كانوا أقلية نعم، وعاشوا على الصدقات التي يرسلها لهم أبناء جلدتهم من يهود أوربا، وقد كان المشهد فى أوربا القرن التاسع عشر مختلفا، فهو قرن الأفكار الجديدة التي ودعت ممارسات القرون الوسطى بعد أن شهدت الاكتشافات الجغرافية والعلمية أن العالم ليس أوربا فقط، وشهد هذا القرن صراعا بين التسامح الاجتماعي والديني، الذي ينادي به الداعون إلى الحرية، وبين المتمسكين بالأفكار القديمة، وكان اليهود جزءا من هذا الصراع، فبعضهم اعتقد أن اللاسامية أو اضطهاد اليهود في أوربا في طريقه إلى الاضمحلال، وكانت هناك شواهد في أوربا على ذلك، خاصة أوربا الشمالية الصناعية، ولكن أيضا كانت هناك شواهد على أن اللاسامية في طريقها إلى النهوض، وكانت المفارقة التي شهدنا كثيرا منها حتى في القرن الحالي أن اللبرالية السياسية قد تقود أيضا في بعض حالاتها للتعصب.

وقد احتدم النقاش بين يهود أوربا، بين المدرستين، فقد رأوا أن القيصرية الروسية قد حددت حركة اليهود في مقاطعات معينة في بولندا الغربية وجنوب روسيا، صحيح أن بعض هذه المقاطعات كان أكبر حجما حتى من مساحة فرنسا، إلا أن هذه المقاطعات سميت بحزام الاستيطان، وتدفقت الهجرة خارج روسيا القيصرية باتجاه أوربا بسبب القوانين التي فرضت التفرقة على اليهود، وكذلك باتجاه العالم الجديد الولايات المتحدة الأمريكية. وخاض اليهود فيما بينهم الحرب على الجانبين، جانب يقول بالاندماج في المجتمعات الغربية المتحررة من العنصرية والانصهار في هذه المجتمعات كمواطنين عاديين، وجانب آخر يدعو إلى إيجاد أرض تجمع اليهود لأن الاضطهاد والعزلة التي جرى عليها تاريخهم في أوربا لابد أن توقظ حتى في البلدان الليبرالية بعض عناصر الاضطهاد.

عند هذه النقطة تقدم الفكر السياسي ليقدم الحل، فقد قدم مويز مندلسون فكرة فصل الدين اليهودي عن القومية اليهودية، لأن أماني القرون الوسطى التوراتية لم تقدم لليهود إلا الاضطهاد والشتات في مقابل أجواء الحرية الغربية المتفتحة التي تدعو اليهود للتجنس بجنسيات بلدانهم التي ولدوا فيها والخروج من "الجيتو" الضيق والدخول معهم في معترك الحضارة الغربية الصاعدة، وقد وافق على صحة هذه الدعوة جمهور من الحاخامات، واعتنقها كثير من اليهود في أوربا الغربية، وبرر بعضهم ذلك بأن صهيون الوارد في التوراة إنما هو رمز على سيادة العدل والإصلاح دون أمل في استرجاع فلسطين. أما المدرسة الفكرية الثانية فقد وصلت الدين بالقومية بالعلم الحديث وأنكرت تلك الفتوى المارقة بنسيان فلسطين، وقدم موزيس هس الألماني الاشتراكي من بين كتاب آخرين، نظرية تقول إن من المستحيل أن ينهض اليهود في الشتات الأوربي المسيحي ويجب إقامة دولة يهودية في فلسطين كشرط مسبق لإعادة اليهودية، أضافت هذه المدرسة أن ذلك لن يتحقق واليهود لا يعملون بفلاحة الأرض، فالأرض والزراعة يجب أن يتعلم اليهود كيف يعتنون بها ويتقنونها، وأضاف أحد غلاتهم "إن الله يفضل أن يعيش مع أبنائه "اليهود" في أرضهم "فلسطين" ولو لم يتقيدوا بتعاليم التوراة على أن يظلوا في الشتات متقيدين بها".

هكذا كان الحوار والنقاش دائرا في أوساط اليهود الأوربيين في معظم القرن التاسع عشر، ومن المفارقات التاريخية أن الحريات التي تبنتها أوربا الغربية ساعدت اليهود في تلك القارة على تمحيص الفكرتين، إما الاندماج في المجتمعات التي يعيشون فيها، أو سعي حثيث وغير متوان للعودة إلى التاريخ الديني الذي يدعوهم إليه المتشددون منهم، ولم تكن صفوف اليهود موحدة، بل كانت الأغلبية مع الذوبان والاندماج في المجتمعات التي فتحت لهم أبواب المساواة، والأقلية مع الاستفادة من هذا التسامح الذي اعتبروه مؤقتا للدعوة والعمل على إنشاء حركة سياسية قومية للعودة إلى فلسطين. وفي أجواء هذه الحريات فإن أي شكل من الاضطهاد ضد اليهود في أوربا كان يقابل بدعاية ضخمة ومضادة، يتجمع حولها اليهود في هذه البلدان، ولم تكن أوربا قد تخلصت من بقايا العنصرية ولا أحسبها قد تخلصت تماما اليوم من تلك الشائبة، وقد جاءت الحوادث المتفرقة الأشكال من الاضطهاد الفردي كقضية دارفوس الشهيرة، وهو جندي فرنسي من الديانة اليهودية حوكم في فرنسا في نهاية القرن الماضي "1894" بتهمة الخيانة العظمى وقد تآلبت عليه وسائل الإعلام واتهمته دون دليل وتصدى للدفاع عنه الأديب الفرنسي المعروف أميل زولا حتى ظهرت براءته، وجاءت هذه القضية لإقناع بعض اليهود بأن اللبرالية ليست بالضرورة حصنا لعدم ظهور اللاسامية، وبالتالي فإن البحث الجاد والدعوة لقيام وطن قومي لليهود هو المخرج الوحيد، وقد تراكمت أمثال هذه الدعوات وأوصلت إلى محصلة هي المؤتمر الصهيوني الأول في بازل في سويسرا.

مؤتمر بازل وما بعده

كانت أهداف مؤتمر بازل عديدة، ولكن الأهم من ذلك أنه ترجم هذه الأهداف إلى وسائل عمل، وعلينا أن نتذكر هنا أن العقول التي اجتمعت في بازل كانت هي نتاجا للعقلية الغربية التي عاشت في وسطها، عقلية القرن التاسع عشر الأوربية، التي آمنت بالتنظيم واتباع المنهج وتحويل الفعل إلى عمل منظم، فقد قام المؤتمر على خلق مؤسسات، أهمها كانت المنظمة الصهيونية ذاتها، وقد أصبح المؤتمر هيئتها العليا، أقامت المنظمة فروعا تابعة لها في العديد من البلدان الأوربية وأمريكا على أساس اللامركزية والتوافق مع القوانين السائدة في أي مجتمع تقوم فيه المراكز، وأقامت بجانب ذلك مؤسستين مهمتين هما "الصندوق اليهودي للإعمار" ،1899 و"الصندوق القومي اليهوديط 1901. وقد ارتبطت فروع المنظمة الصهيونية طوعا باتحاد عام، وأقرت مبدأ التعددية في التعامل بين الفروع النشطة، وضمان تمويل دائم من اشتراكات الأعضاء عبر نظام "الشاغل" ولم يكن هذا النظام اشتراكا إلا بالاسم فقد كان في الواقع جباية يهودية مازالت مستمرة، وكل مائة شخص يدفعون الشاغل يمثلهم بالانتخاب شخص واحد في المؤتمر، فأصبحت المنظمة متمثلة بالديمقراطية الغربية، وليست مرتبطة بشخص، وشعبية في آن، وفوق ذلك كله لها تمويل شعبي متدفق، ولم تكتف المنظمة بذلك بل قامت بتأسيس الشركات المساهمة لتمويل الهجرة إلى فلسطين، إما عن طريق تشجيع المهاجرين أو شراء الأراضي العربية.

الهجرة إلى فلسطين

في نفس الوقت فإن الهجرة اليهودية إلى فلسطين ظلت مستمرة على قاعدة الدافع الديني حتى قبل أن يبرز طابعها القوي، إلا أن الفترة ما بين انعقاد المؤتمر الصهيوني الأول ونهاية الحرب العالمية الأولى شهدت أول تدفق للهجرة اليهودية إلى فلسطين على قاعدة الانجذاب القومي، وعندما يقرأ المتابع اليوم التاريخ الشخصي لكثير من القيادات الصهيونية في فلسطين والتي أثرت في تطور التوسع الإسرائيلي يجد أن أصولها من هذه الموجات التي كان معظمها من أوربا الشرقية، وهي التي شكلت النواة البشرية اللازمة للمجتمع الإسرائيلي، فلم تكن لديها خبرات متنوعة وحديثة فقط، بل وحملت أيضا نظرية اجتماعية "اشتراكية" نتيجة احتكاكها بالفكر الغربي خاصة السابق للثورة البلشفية التي كانت أندية أوربا السياسية حبلى به، لذلك نجد أن أول أشكال الاستيطان اليهودي وأهمها في فلسطين في هذه المرحلة هو التجارب الأولى للقرية الجماعية التعاونية "الكيبوتس"، إلا أن التدفق الأهم للهجرة جاء بعد صدور وعد بلفور سنة 1917، وحتى هذا الوعد لم يأت من فراغ بل كان نتيجة عمل دءوب قامت به الزعامة اليهودية المؤمنة بالصهيونية خلف الأبواب المغلقة للسياسة الأوربية في سنوات حاسمة من التاريخ، ومناورتها التي كانت محددة الهدف ولكنها مرنة كل المرونة في الوسائل، ونجد عند دراسة خلفيات هذا الوعد شخصيات صهيونية بريطانية وفرنسية وأمريكية، نجد حاييم وايزمن البريطاني "1874 ـ 1952" وهو أول رئيس للدولة اليهودية فيما بعد، لقد وصل إلى ما وصل إليه من نفوذ في الساحة السياسية البريطانية، من خلال عمله ككيميائي واكتشافه لمادة "الأسيتون" المادة الأساسية لصنع المطاط الصناعي الذي كانت إنجلترا في أمس الحاجة إليه لتسيير آلتها العسكرية وقت الحرب، وقد أغناها عن استيراده من الخارج، ومكنه هذا الاكتشاف، ودأبه السياسي من أن يكون من الفاعلين والمؤثرين في السياسة البريطانية، وهناك شخصية مثل لويس برانديس "1856 ـ 1949" اليهودي الأمريكي ذي النفوذ في الإدارة الأمريكية، والذي كان له دور مهم في إقناع الإدارة الأمريكية وقت الرئيس ودرو ويلسون، ومن الخلفيات المهمة للوعد ظروف الحرب العالمية الأولى، وخلفية الاتفاق البريطاني ـ الفرنسي فيما سمي لاحقا باتفاق سايكس ـ بيكو، فعندما عرفت المنظمة الصهيونية بهذا ا لاتفاق وبنية تقسيم الممتلكات العثمانية العربية بين القوى الغربية، أرادت أن يكون لها مكان في التركة، ومن غرائب التاريخ أنه لولا قيام الثورة البلشفية في روسيا، وخروجها من الحرب العالمية الأولى لكانت قد شاركت وأخذت قسمتها من الأناضول "بتركيا" أيضا لأن اتفاق سايكس ـ بيكو كان ثلاثيا يضم روسيا بجانب بريطانيا وفرنسا.

وبعد عدة صياغات وتعديلات وافقت عليها إدارة ودرو ويلسون في واشنطن في النهاية صدر وعد بلفور في الثاني من نوفمبر 1917 والذي كان نصه "إن بريطانيا تنظر بعطف إلى إنشاء وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين" وكان هذا الوعد دافعا جديدا ومحركا لتدفق الهجرة القومية اليهودية لفلسطين، ولاشك في أن الدعم الذي حصلت عليه الدعوة الصهيونية من القوى المؤثرة خاصة بريطانيا هو الذي حول هذا الحلم غير المنطقي حتى لدى شرائح كبيرة من يهود أوربا إلى دولة حقيقية منتزعة من قلب شعب آخر، هذا الدعم هو الذي حقق في النهاية الحلم المستحيل، ولكن يجب ألا يجادل عاقل أيضا في أن الجهد الذي بذله الصهاينة أنفسهم كان جهدا على مستويات عديدة ساعد في تحقيق ذلك الحلم، وبشهادة شخصية مثل وليد الخالدي الذي أشار في دراسته السابقة الذكر، إلى ما يؤكد ذلك، فقد قال وأقتطف هنا نصا من دراسته المطولة: لقد "أنجزت الصهيونية ما أنجزته اجتماعيا وسياسيا بفضل بريطانيا وتشريعاتها الانتدابية، وقمعها العسكري للمقاومة الفلسطينية، لكنها أنجزته أيضا بفضل زعامتها الفذة ومتانة تنظيمها، واستعداد اليهود للتضحية والعطاء لتحقيق أهدافها في فلسطين".

لا يمكن اعتبار أن الحديث السابق من شخص يعرف ما يقول هو محض إعجاب بالعدو، بقدر اعتباره توعية لكل من يريد أن يعرف ويتدبر خاصة من الجيل العربي الجديد، أن العمل الجاد والمتواصل للوصول إلى الهدف يحتاج إلى أكثر من التمني والشعارات، يحتاج إلى صبر وخطة مرنة وتنظيم حديث وعلم ووعي سياسي يأخذ بالتعددية والديمقراطية لصالح المجموع.

رد الفعل العربي

بيت القصيد أن مجتمعا ذا خبرة غربية متقدمة قد جاء إلى أرض خصبة، ومجتمع مازال وعيه في طور التفتح، ريفي أصلا، وبعيد عن الوعي التنظيمي الحديث، بقي طويلا مرهونا في أيدي العثمانيين ثم الإنجليز من بعدهم. ونعود مرة أخرى إلى إشارة وليد الخالدي في هذا الصدد، وهي إشارة علمية لا تشوبها رؤى التمني فهو يقول:"سنكتفي بذكر بعض ملامح الدول الكامنة في المجتمع اليهودي المتنامي في فلسطين أثناء الانتداب البريطاني، فمن حيث البنية الاقتصادية والاجتماعية الأساسية، وبسبب نوعية المهاجرين الثقافية وتوافر رأس المال الخارجي اتخذ المجتمع "اليهودي" بنية المجتمعات الصناعية الغربية، فنسبة إنتاج اليهود في قطاع التعدين والبناء عام 1947 من مجموع إنتاجهم كانت 37%، وهي قريبة "وقت ذاك" من نسبة الإنتاج في بريطانيا "44%" بينما نسبة إنتاج العرب من الفلسطينيين كانت 14%، وكانت نسبة إنتاج اليهود في قطاع الزراعة لا تتعدى 12%، بينما نسبة العرب في هذا القطاع كانت 41%، أما في حقل الخدمات الاجتماعية فكان حضور الطلاب "بين سن 5 ـ 14 سنة" إلى المدارس في اليهود 97% و32% للعرب".

وفي الكثير من حالات المقارنة التي قد لا يتسع لها المقام هنا ولكنها موثقة من باحثين عرب نتعرف على البعد الشاسع للمستعمرين اليهود في قطاعات التعليم والتنظيم العمالي والتنظيم السياسي، في حين أن العرب كانوا قد بدأوا بالكاد تعلم بعض هذه الخبرات الغربية، ونتيجة لذلك فإن الحروب التي خاضوها بعد ذلك كانت حروبا غير متكافئة من حيث الإعداد والاستعداد، وليس من حيث الإخلاص والحماس، في حرب 48 كما في حرب 67 كان الفارق الإعدادي واضحا، في الحرب الأولى، والتي مع الأسف حتى اليوم لم يؤرخ لها عربيا بشكل جاد وشامل، هزمت جيوش خمس دولة عربية، وأخرج ثلاثة أرباع المليون فلسطيني من ديارهم وأصبحوا لاجئين، واحتلت إسرائيل مدنهم وقراهم، فأزيلت معالمها ووزعت الغنائم على كبار ضباط الجيش والمدنيين وكبار السياسيين، تحقيقا للحلم الصهيوني، وفي حرب 67 استولت إسرائيل بعد قتال لم يدم أكثر من ستة أيام على مساحة من الأرض العربية تساوي ثلاثة أضعاف مساحتها قبل العدوان، وهجرت ربع مليون لاجئ جديد من الفلسطينيين ومائة ألف من أهالي الجولان ومئات الألوف من بدو سيناء، وفي هذه المرحلة الطويلة أيضا تلقت إسرائيل بعض المساعدة من العرب، خاصة بعد قيامها مباشرة، عندما أفرغت الدول العربية ما لديها من يهود على فلسطين" بخفة وقلة بصيرة مذهلة"، وشكل السواد الأعظم منهم "مستودعا لا قاع له من الحقد والبغضاء على العرب، وضع كله بتصرف الأحزاب الإسرائيلية اليمينية".

زيارة الرئيس السادات وما بعدها

بدأت المقال بالحديث عن التواريخ، وكانت زيارة السادات إلى القدس أحدها، فقد مر عليها هذا العام من السنين عشرون، ولم أكن أريد أن أخلط تاريخ الماضي بالحاضر لولا قراءتي لكتاب بطرس بطرس غالي "طريق مصر إلى القدس" وأعتقد أن هذا الكتاب من الكتب الأخيرة التي كتبت بكثير من التأني، خاصة فيما حدث في كامب ديفيد، ما قبله وما بعده، ولم يكتب ذلك دون نقد، فقد انتقد البيروقراطية المصرية إلى درجة "أن الأمريكان كانوا يقفون على التعليمات من القاهرة قبل أن يعرفها الوفد المفاوض" ولكن الكتاب كتب بروح أقرب إلى روح الباحث من روح السياسي المبرر، أو الطامح المداح، ويستطيع القارئ أن يتابع الخط الأكثر تكرارا في الكتاب وهو أن السادات قد وصل إلى قناعة أن الحروب مع إسرائيل لن توصل إلى نتائج يريدها أو يستحقها العرب، لسبب واضح هو أن إسرائيل تحتفظ بترسانة أسلحة، ومساعدات من الغرب شاملة وغير منقطعة، وفوق ذلك كله تحتفظ بقدرة عسكرية ذات كفاءة عالية، تدعمها ترسانة نووية، في الجانب الآخر فإن الاعتماد على الاتحاد السوفييتي لتحقيق نتائج على الأرض هو في سبيل المراهنة الخاسرة، لأن الاتحاد السوفييتي له مصالح قد تتقاطع لمرحلة مع مصالح العرب ولكنها ليست دائمة، وربما كان إخراج السادات لكل ذلك في سياسة محددة كان إخراجا غير موفق، وهذا ما ينتقده شخص مثل بطرس غالي، ولكن الواضح من التفاصيل التي سردها غالي ـ وقد شارك مشاركة فعالة في تلك المرحلة ـ أن مصر كانت حريصة على حقوق الفلسطينيين، ولا يخفي غالي بعض امتعاضه من شخصيات إسرائيلية سياسية، ولعل موقفه من مناحيم بيجن واضح في الكتاب، ولكنه أيضا يصف الفرق بين التعامل الإسرائيلي مع القضايا السياسية وتعامل الجانب العربي مع هذه القضايا، الجماعية في مواجهة الفردية أي العمل الجماعي المنظم، في مواجهة الهبات العاطفية التي لا تخضع لأي تخطيط. ويعجب بطرس غالي ولكن ليس دون غصة من محاولات الاغتيالات للمسئولين السياسيين المصريين في ذلك الوقت مثل يوسف السباعي أو بعض السفراء المصريين، وهل لهذه العمليات أي مسوغات سياسية، هنا يضعنا التساؤل مثل ما وضعنا في السابق وهو بأي الأشكال والوسائل يمكن مقاومة الاحتلال الإسرائيلي، هل يتم ذلك بالوسائل التقليدية مثل توريط الجيوش العربية كما حاولت بعض المنظمات؟ أم عن طريق استنباط الحلول المناسبة لكل مرحلة كما فعلت بالضبط الحركة الصهيونية نفسها؟ ولعل بعض عبارات بطرس غالي لافتة للنظر إبان اجتماعات أنور السادات ومناحيم بيجن في الإسماعيلية، عندما جاء رئيس الوزراء الإسرائيلي لزيارة مصر ردا على زيارة السادات للقدس، وكانت جهود وزارة الخارجية المصرية تتركز على ضرورة توسيع اللقاءات المصرية ـ الإسرائيلية وحضور الفلسطينيين. يقول بطرس غالي "ولكن جهودنا تعرضت للفشل مرة بعد أخرى لأن العرب رفضوا مبادرة السادات، ولأن الإسرائيليين ظلوا يضغطون من أجل صلح منفرد مع مصر يستبعد منه الفلسطينيون، وهكذا نشأ تحالف موضوعي غريب بين الرافضين العرب والمتشددين الإسرائيليين .

وفي مكان آخر يضيف بطرس غالي قوله إشارة إلى مقررات مؤتمر بغداد "وسرعان ما تبين لنا أن مقررات مؤتمر بغداد لم تؤد إلا إلى مزيد من التصلب في موقف إسرائيل، واعتقد واضعو السياسة الإسرائيليون أن عزلتنا "عن العرب" أضعفت موقفنا التفاوضي وكانوا على حق".

هذه العبارات تستحق منا الوقوف أمامها، وتأملها في ضوء ما حصل، فإن النهاية المنطقية والسلبية في حومة الصراع الطويل مع الاستيطان اليهودي هي أن خروج مصر قد سبب ضررا كبيراً للقضية نفسها، وللمصالح العربية، وبرغم المقاطعة السياسية العربية لمصر التي أخذت أفضل سنوات السبعينيات والثمانينيات، وضيعت الفرص الممكنة لحل أقرب للعدالة، عادت الأمور إلى التوازن في نهاية الأمر وبدأت مصر تلعب دورها، ولكن بعد أن وقع المحذور.

وربما يقول قائل إن الطريقة التي اتبعها السادات والتكتيك الذي تبناه كان يمكن أن يكون أفضل، وقد يكون ذلك صحيحا، بل إن بطرس غالي نفسه يلوح بذلك، فقد نقل عن أيمر اتلس سفير الولايات المتحدة الأمريكية أنه نقل إلى بطرس غالي بعد سنوات قولا على لسان هنري كيسنجر أنه سأل الأخير: "لماذا وقع السادات هذه المعاهدة "كامب ديفيد" لقد كان بوسعي أن أحصل له على ما هو أكثر كثيرا" ولكن الصحيح أيضا أن العرب لم يكن لديهم خطة أو تصور متفق عليه يأخذ بالحسبان القدرة والقوة.

الموعد الجديد

نحتاج نحن العرب إلى أن نعود من جديد وبتجرد موضوعي لدراسة التاريخ الماضي مع الحركة الصهيونية لنعرف على أي الوجوه حدثت المواجهة، وأين التقصير، والأهم من ذلك ما هي الوسائل الحديثة والمتاحة في ضوء التطورات الحاصلة اليوم في المجتمع الإسرائيلي الذي أصبح ليس غربيا كما كان في بدء الدولة، ولم يعد مختلطا كما كان حتى انهيار الاتحاد السوفييتي، إنما أصبح أكثر تعقيدا وأقل قدرة على الاستمرار كما كان. ولعل أهم مثال على هذا ما نشره الكاتب الإسرائيلي المطلع على أحوال إسرائيل الحديثة والمعاصرة يارون إزراحي بعنوان "الرصاصات المطاطية" يصف التغيرات الحادثة في المجتمع الإسرائيلي من اغتيال رئيس الوزراء السابق إسحق رابين ونجاح نتنياهو في الانتخابات الأخيرة وهزيمة شيمون بيريز على أنها جزء من صراع وتغير جذري يتكون في المجتمع الإسرائيلي، هذا الصراع كما يراه إزراحي بين العقل والعمل الجماعي الذي شكل "الحلم" الصهيوني وبين الفردية والفئوية التي يتبناها قطاع أوسع من الإسرائيليين، والذي يحول المجتمع الإسرائيلي من مجتمع دفاعي موحد بخرافة "الخلاص القومي" إلى مجتمع منتعش اقتصاديا عليه أن يتيح الفرص لكل مواطنيه، وليس هناك في نظر إزراحي منطقة تشهد هذا التغير أكثر من وجهة النظر الإسرائيلية المتسائلة عن قيمة استخدام القوة كوسيلة لتحقيق الأمن والاحتفاظ بالأرض وتحقيق الاستقلال.

في مشهد افتتاحي يقول المؤلف: "انه في إحدى ليالي يناير من سنة 1988، بعد حوالي أربعة أسابيع على الانتفاضة الفلسطينية، كنت جالسا في غرفة العائلة في المنزل أشاهد التلفزيون، كان والدي ياريز البالغ من العمر ثماني وأربعين سنة جالسا خلفي وابني البالغ السادسة عشرة من عمره أريل جالسا قريبا من قدمي، والصور في التلفزيون تتغير من اشتباك مع الفلسطينيين إلى اشتباك آخر، وفجأة توقفت الكاميرا على جندي إسرائيلي كان يتميز بالغضب وهو يوجه فتحة بندقيته سريعة الطلقات على مجموعة من الفلسطينيين الصغار الذين يصرخون ويرمون الأحجار، شعرت بعرق بارد ينساب في سلسلة ظهري رغم البرد، وتملكتني رغبة عارمة بأن أغطي عيني والدي بيميني، بينما بطريقة ما أفتح عيني ولدي بيساري. بعد ذلك عرفت أسباب هذه الرغبة فهي جزئيا لتغطية عيني والدي الذي شب على الحلم الصهيوني حتى لا يعرف ما حدث لهذا الحلم، وتصميمي على أن أوفر الألم على ابني حتى يمكن أن يبعد نفسه جزئيا عن هذا الحلم.. لقد كانت تلك المواجهة نقطة تحول".

هكذا هناك من يكتب الآن عن تحول ما حدث في معظم سنوات القرن العشرين في هذه المنطقة المنكوبة كي يعيد النظر فيما تم، فهل نتوقع أن يأتي جيل بعدنا ينظر إلى حوادث التاريخ وأنها مرت مع معاناتها دون أن يستخلص منها أحد دروسا مستفادة؟!

 

محمد الرميحي

 
  




غلاف الكتاب