فضائح الثقافة ومفارقاتها

فضائح الثقافة ومفارقاتها

مصدر الكلام هنا هو ما حدث من تغيرات هائلة وسريعة في مشهد العالم، وعلى نحو تغيرت معه خارطة العلاقة بالأشياء، جراء الثورة الإلكترونية والعولمة الكاسحة.

والحدث إنما يسبب اضطرابا في المفاهيم، بقدر ما يحمل على إعادة التفكير في نماذج الرؤية والتصنيف، أو على إعادة النظر في طرق المعاملة والتسيير، خاصة أن الثورة الإعلامية لا تطال في أثرها الاقتصاد والمنتجات المادية لاغير، بل تطال أيضا الثقافة والمنتجات الرمزية.

هذا ما يحدث على أرض الواقع، فالثقافة آخذة في التغير، سواء من حيث أُطرها ووسائلها، أو من حيث معاييرها وآليات إنتاجها. إنها لم تعد كما كانت عليه في عصر المطبعة والكتاب أو الصحيفة، بعد الدخول في عصر الحاسوب وبنوك المعلومات.

يكفي أن نذكر أن البحث الأكاديمي الذي كان يستغرق شهورا من أعمال الجمع للمصادر أو ترتيب للمعلومات، لا يستغرق سوى أيام معدودات، في عصر المكتبات ذات الوسائط الإعلامية المتعددة. مما يعني أنه لا معرفة تنتج، بعد الآن، من غير الاعتماد على التقنيات الحديثة للإعلام.

والواقع أن بنية المعرفة هي التي تخضع الآن للتغير، بقدر ما تتغير الأدوات والوسائط. ذلك أن كل تغير في الأداة يحمل على تغيير مفهوم المعرفة، والفكر ذاته. من هنا يجري الحديث اليوم عن الوسائط الإعلامية المتعددة، بوصفها "شبكات مفكرة"، تنوب عن العقل في التحليل والاستدلال. وهذا أحدث الكتب الصادرة، في هذا الخصوص، ينبئنا عبر عنوانه بالذات: "الوسائط تفكر" مثلنا، مما يدعو إلى إعادة النظر في إشكالية الفكرة والأداة، وذلك باتجاه فكرنة الآلة، أو خلع الطابع الأداتي على الفكر. وهكذا لا مجال بعد الآن لاحتقار الأداة التي نفكر بها أو على شاكلتها.

الأسئلة المُربكة

أيا يكن، فإن التغيرات الحاصلة تطرح أسئلتها المربكة، وربما المصيرية، على كل هوية ثقافية. بالطبع هناك من يقف موقف الحذر والريبة مما يجري. هذا شأن من يخشى على الثقافة من الشاشة، إذ يرى أن هذه الأخيرة تسهم في ترويج ثقافة سريعة وعابرة، هشة وسطحية، تستبعد النقد والفحص بقدر ما لا تفسح المجال لإعمال الفكر ودقة التحليل أو لإنضاج المسائل والمواقف.

والخشية لا تقتصر على الأوساط الثقافية العربية. فالفرنسيون يزايدون على العرب في هذا الخصوص، إذ إن بعضهم يتحدث، بالتحديد، عن "موت الثقافة"، ويقصدون بها عملية "التسليع" التي تعم العالم لكي تطال معا العقول والأجساد، أو الكلمات والأشياء. وهكذا فالذين ينتقدون ثقافة التلفزة، يتحدثون عنها بوصفها ثقافة قوامها التبسيط والاختزال، أو الخداع والتلاعب بالعقول، أو نشر الأغلاط والأوهام، أو توليد الاحساس بالخواء والاستلاب.

فالذين يتحدثون اليوم بأعلى أصواتهم عن ظاهرة التسليع، يخدعون الناس أو يشهدون على جهلهم بالثقافة. ذلك أن الثقافة هي صناعة وإنتاج. نعم إنها إنتاج رمزي يتعلق بنظام المعنى ومنظومات القيم، ولكن هذا النتاج يحتاج في النهاية إلى التسويق والترويج. وثمة صراع للسيطرة على أسواق السلع الرمزية، بين العاملين في مختلف فروع الثقافة، من المنتجين للقصائد والروايات، أو للمقولات والنظريات، أو للفتاوى والأحكام، أو للوحات والمنحوتات والمعزوفات.. وهذا الصراع لا يجري فقط من أجل الأحق والأجمل أو من أجل الأصح والأنفع. وإنما يجري أيضا لغايات أخرى: أن يكون المنتج للسلعة الرمزية الأكثر رواجا ونفوذاً على ساحته وفي مجال اختصاصه. وهكذا يظهرون ردود فعل عدوانية تجاه السوق مع أنه لا حضارة بلا أسواق للمبادلة، ويتحدثون عن تسليع العالم، وكأنهم يعيشون بلا أجساد ولا سلع.

التسليع والتسطيح

والحديث عن "التسليع" يقود إلى الحديث عن "التسطيح":

والسؤال الذي يملي نفسه هنا: كيف أوتي للثقافة السطحية والمبتذلة أو العابرة والخاوية أن تجتاح الثقافة الأصيلة والعميقة أو الراقية والمتينة؟

بسؤال أكثر صراحة: ما حصيلة الثقافة التي ندافع عنها في مواجهة ثقافة التلفزة والعولمة؟ هل جعلت العالم أقل وحشية وعنفا أو أكثر عدلا وأمنا؟ من يجرؤ على الجواب بالإيجاب بعد كل هذه الحروب والفظاعات والمجاعات التي شهدها القرن العشرون؟

والأولى أن يطرح السؤال على الثقافة العربية، خصوصا بجانبها الأيديولوجي والنضالي، فماذا كانت الحصيلة والثمرة بعد عقود طويلة من الجهود الحثيثة والمحاولات المستمرة من أجل النهوض والاصلاح أو التحرير والتنوير أو التحديث والتغيير؟ الجواب وكما يخلص إليه أصحاب هذه الثقافة والمدافعون عنها ضد الغزو الثقافي والنظام العالمي، هو نهضة مجهضة أو ثورة مغدورة أو حريات مستباحة أو تنمية ممسوخة أو حداثة متعثرة، وهي تعابير شائعة في خطاب النقد الذاتي للمشاريع الثقافية والأيديولوجية، هذا فضلا عن الفتن والحروب الأهلية التي عانت منها الشعوب العربية، تبديداً وخراباً جراء المعسكرات الفكرية والمتاريس العقائدية.

إذن على أية ثقافة نحافظ وعن أي فكر ندافع؟ إن الثقافة العربية هي من هذه الوجهة شبكة من التهويمات الأيديولوجية والهوامات النضالية حول الحرية والعدالة والوحدة، أو حول التقدم والتنوير والتحديث. وإنها لفضيحة ثقافية أن ندافع عن ثقافة مسيطرة أنتجت كل هذا التعثر والفشل أو العجز والإحباط.

فالأحرى هو مساءلة مقولة الحرية التي ندعي عشقها لكي تستبد بنا أو نمارسها بصورة استبدادية. والأجدى هو أن ننخرط في نقد القيم والممارسات الثقافية التي نخشى عليها من خطر المغايرة، وذلك من أجل تشكيل ثقافة أكثر حيوية وإنتاجية وفاعلية.

والسؤال النقدي لا يقتصر على الثقافة الأيديولوجية، وإنما يشمل أيضا الثقافة بمعناها الأكثر أصالة وديمومة، أي ما ينتج في ميادين الأدب والفن أو الفكر والعلم، من نصوص وأعمال أو من مقولات ونظريات. والأسئلة التي تملي نفسها على هذا المستوى هي:

ما هو واقع الثقافة العربية اليوم؟ ما إمكاناتها التواصلية والمفهومية؟

وما إسهاماتها على صعيد الإنتاج الفكري والعلمي؟ باختصار: ما هي قدرتها على صوغ الحدث وتشكيل العالم؟

من ينظر إلى الواقع الثقافي من حيث أعداد المنتجين، أو من حيث عدد الجامعات وأفواج الخريجين، أو من حيث الأنشطة والأعمال في المعارض والمهرجانات، يجد أن الثقافة العربية هي بألف خير: ثمة قصائد تنثر، وروايات تنسج، ومسرحيات تؤلف، وأعمال فنية تتشكل، فضلا عن فيض الكتابات النقدية والأعمال الفكرية والأبحاث الأكاديمية. أما المعارض والمهرجانات، فإنها لا تتوقف على مدار العام.

على صعيد الأفكار الفلسفية والمعارف العلمية، لم تخرق الثقافة العربية السقف الوطني أو القومي، لكي تساهم بصورة مثمرة وفعالة في تكوين المشهد الفكري على المستوى العالمي. فمنذ افتتاح أولى الجامعات في مصر مع مطلع هذا القرن، وصولا إلى نهايته الآن، لم تفلح جامعة عربية واحدة في فتح فرع علمي أو ابتكار منهج معرفي أو صوغ مشكل وجودي، بصورة خارقة لحواجز اللغة والعرق والأرض، وذلك بقدر ما طغت، لدى المفكرين والعلماء، هوامات الهوية وإرادة الحراسة والنضال على هوى الكشف والمعرفة أو على إرادة الخلق والإنتاج. ما يعني في النهاية أن الثقافة العربية مازالت غير قادرة على أن تلعب دورها في تشكيل جغرافية العقل وخارطة القوة، عبر خلق المفاهيم وإنتاج الوقائع الفكرية أو نشر المعارف والمعلومات.

اللغة التفاهمية

بالنسبة إلى الإمكانات التفاهمية أو التواصلية في المجال السياسي أو في الفضاء الاجتماعي، يبدو أن الثقافة العربية السائدة بمؤسساتها وآليات عملها، لا تتيح لأهلها أن يديروا خلافاتهم بطريقة سلمية تفاوضية عقلانية، إذ إن الحوار بينهم غالبا ما يجري بالسيف أو بالمدفع، ليس فقط على القضايا المختلف فيها، بل أيضا على القضايا المتفق عليها، كما اختلف العروبيون على الوحدة، أو كما يختلف الإسلاميون على الإسلام أو اللبنانيون على لبنان. هذا بينما نجد أن قادة الدول الغربية المختلفين لغة وعرقا، يستطيعون إدارة خلافاتهم وصراعاتهم على المصالح والمواقع، بعقلية تواصلية تتيح لهم الوصول إلى نتائج إيجابية ترضي جميع الأطراف. وإنها لفضيحة ثقافية أن نتحدث عن الغزو الثقافي، في حين أن بنيتنا الثقافية المسيطرة، لا تتيح لنا سوى ممارسة الفكر الأحادي، أو النفي المتبادل، أو الاختلاف الوحشي.

في أي حال، مازالت الثقافة العربية، من حيث فاعليتها السياسية، أقرب إلى العجز الفاضح، وأبعد عن الإمكان الخارق، بالرغم من كثرة الكلام عن الديمقراطية والحريات المدنية، والأحرى القول من فرط النمذجة وممارسة التجريد والتنظير إلى حد الصنمية الفكرية أو حتى الوقوع في أسر الشعارات الخاوية. والشاهد على ذلك أنه حتى الآن ندر أن توصل مجتمع عربي إلى ممارسة حيويته السياسية بتغيير نظام الحكم أو سياسة الحكومة بطريقة ديموقراطية.

بالطبع نحن نتذرع، لتفسير العجز، بالظروف الاقتصادية أو البنية الاجتماعية أو الديكتاتورية العسكرية السائدة. ولكن العلة ليست في الظروف، إذ إن ظروف أثينا لم تكن أكثر ملاءمة من ظروفنا اليوم.

فالأحرى أن نلتفت إلى بنية الثقافة بالذات، حيث العلة كامنة في العقل الدغمائي أو الفكر الأحادي أو المنطق التبسيطي والاختزالي.

المؤتمرات الثقافية

أخيراً، وليس آخرا، يمكن النظر إلى واقع الثقافة العربية، من حيث دور المثقف وفاعليته، كما يتجسد ذلك في المهرجانات الثقافية والمؤتمرات الفكرية التي تشهد الآن ازدهارها في العالم العربي، من المشرق إلى المغرب. لاشك أن لهذه التظاهرات الثقافية فوائدها بالنسبة إلى المشاركين فيها، وذلك بقدر ما تتيح للواحد ممارسة حيوية التفكير وحرية النقد، وبقدر ما تقدم فيها من عروض جديدة ومهمة تتيح احتكاك الأطروحات أو تفاعل الآراء أو توليد الأسئلة وإعادة صوغ الإشكاليات.

وهكذا فالأعمال والتظاهرات الثقافية يقتصر أثرها على القطاع الثقافي ودوائره، من دون المجتمع والناس والساسة. ومع أن المثقفين يتعاطون دوما شئونهم الثقافية، بوصفهم معنيين بهموم الناس وقضايا المجتمع، فإن الناس في القطاعات الأخرى، يتعاملون مع المثقفين ومؤتمراتهم وكأنها لا تعنيهم بشيء.

وتلك مفارقة فاضحة: فالمثقف الذي يزعم أنه ضمير المجتمع وعقل الأمة، يجد نفسه معزولاً في دائرة اختصاصه، أي في وضعية "المثقف التقنيط التي يأخذها على الغير، وإنه لجهل فاضح أن يعيش المثقف داعية "المجتمع المدني" على هامش المجتمع والمدينة والسياسة، فيما هو يدعي الوصاية على شئون البلاد والعباد. من هنا فالتحدي الذي يواجهه المثقف، هو تحدي الداخل مقابل تحديات العولمة والنظام العالمي:

كيف يمكن للمثقف الداعية أن يخرج من عزلته الخانقة، على نحو يستقطب اهتمام المجتمع والساسة، الناس والرأي العام؟

والسؤال الأولى والأهم هو: كيف يمكن للثقافة العربية أن تتجسد في ممكنات للوجود والحياة، تتيح للمرء أن يقول ما يُمنع قوله أو أن يفهم ما يمتنع فهمه أو أن يفعل الذي لم يكن بالمستطاع فعله؟ إن الثقافة الحية والمزدهرة هي قدرتها الدائمة على التغير والتجدد، بخلق الرؤى والعوالم، أو بابتداع الصيغ والنماذج، أو بإطلاق المبادرات والمواقف، أو حتى باجتراح المعجزات والخوارق. ألم يخرج العرب قديما من عجزهم وعزلتهم بنص خارق أتاح لهم تغيير خارطة العالم؟.

وترجمة السؤال هو الانخراط في نقد العقليات والمفاهيم والممارسات، المتصلة ببنية الثقافة ودور المثقف، أو بالنظرة إلى النتاج الثقافي وطريقة التعامل مع الأفكار والمقولات. وذلك هو الرهان: تفكيك آليات العجز وفضح منطق الهشاشة، إعادة ترتيب الأولويات لتغيير خارطة العلاقة بين المعرفة والثروة والقوة.

 

علي حرب