نحو محكمة جنائية دولية

نحو محكمة جنائية دولية

منذ أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها، بدأت البشرية تتطلع إلى عهد جديد لايسمح العالم فيه بتكرار ماحدث، وتندفع دول العالم إلى إنشاء نظام للعدالة الدولية يتم في إطاره إنشاء محكمة دولية، ذات صلاحيات راسخة، لمحاكمة أولئك الذين يرتكبون الجرائم البشعة ضد الإنسانية، وقد بدأت تباشير مشجعة، لذلك العهد حين تم إنشاء محكمة نورمبرج ومحكمة طوكيو للنظر في جرائم الحرب. وفي افتتاح تلك المحاكمات الشهيرة قال المدعي العام روبرت جاكسون أمام محكمة نورمبرج في نوفمبر 1945: "إن المعايير التي نحكم بها على هؤلاء المتهمين اليوم هي نفسها المعايير التي سوف يحكم بها التاريخ علينا في الغد، فإذا قدمنا لهؤلاء المتهمين كأساً مسمومة، كنا نرفعها إلى شفاهنا في غدنا"، وبرغم مرور أكثر من نصف قرن على تلك الكلمات، فإنها مازالت البوصلة المطلوبة للمحكمة الجنائية الدولية وقضاتها، والتي توشك الأمم المتحدة وجمعيتها العامة أن تتوصل ـ بعد رحلة طويلة من النقاشات والتردد والتقدم والتراجع ـ إلى قرار تاريخي بإنشائها. لقد تحركت الجمعية العامة خلال السنوات الأولى لإنشائها من أجل إنشاء محكمة جنائية دولية دائمة تطويراً لمحاكمات نورمبرج وطوكيو وتعميماً لهما على الصعيد الدولي ولكن اندلاع الحرب الباردة ودخول البشرية مرحلة الاستقطاب الدولي أوقف المحاولة التي كان خبراء لجنة القانون الدولي قد قطعوا فيها شوطاً، وتوقفت المحاولة أربعة عقود كاملة امتدت من عام 1950 حتى عام 1990، ومع بدء عقد التسعينيات وفي إطار وضع عالمي جديد انتهت فيه الحرب الباردة وسياسة الاستقطاب عادت المحاولة العالمية من جديد لإنشاء هذه المحكمة الجنائية الدولية. منذ عام 1990م عادت لجنة القانون الدولي لدراسة مشروع النظام الأساسي لهذه المحكمة المطلوبة، والتي سيشكل انطلاقها تطورا نوعيا في تاريخ الإخاء الإنساني والمسئولية الإنسانية الجماعية، لحماية الضحايا، ومازال الاحتمال قائماً بالدعوة لمؤتمر دولي خاص لإنشاء هذه المحكمة وتحديد نظامها الأساسي وأسلوب عملها واتفاقياتها العامة وعدد الدول المطلوب مصادقتها كحد أدنى، لاعتماد المحكمة وإعلانها رسمياً. إذ لابد أن يصادق عدد معين من دول العالم على القانون الأساسي للمحكمة وعلى الاستعداد لفتح أراضيها والتعاون بكل الوسائل مع المحكمة وفي مطاردة أعداء الإنسان الذين يفرون من وجه العدالة من مكان لآخر.

من أجل العدالة الدولية

لقد حدثت تطورات عديدة في عقد التسعينيات لإضفاء مزيد من العدالة الدولية، إذ أقرت الجمعية العامة توصية مؤتمر فينا العالمي لحقوق الإنسان بإنشاء مفوض سام لحقوق الإنسان لديه صلاحيات واسعة لمزيد من متابعات انتهاكات حقوق الإنسان ولمزيد من توفير آليات مراقبة أوضاع هذه الحقوق في مختلف دول العالم من أجل العمل على منع حدوث المذابح والانتهاكات قبل وقوعها حين يكون ذلك ممكناً وقد انفتحت آفاق جديدة بتعيين أول مفوض سام لحقوق الإنسان على الصعيد العالمي وهو خوزيه إيالالاسو من الأكوادور والذي بدأ عمله يوم 5 أبريل 1994م، أي قبل بداية مذابح رواندا بيومين فقط، والتي سقط فيها مئات الآلاف من القتلى على مرأى ومسمع من العالم المتحضر.

وفي الوقت نفسه فإن المنظمات الدولية لحقوق الإنسان، سواء تلك التابعة للأمم المتحدة، أوالمؤسسات غير الحكومية، وفي المقدمة منها منظمة العفو الدولية، التي تضم أكثر من مليون ومائتي ألف عضو في مائة وأربعين بلداً، بينها سبع دول عربية فقط، قد أظهرت قدراً أكبر من المتابعات لانتهاكات حقوق الإنسان، في كل مكان من العالم. وظهر التطور الأكبر في إنشاء محكمة جنائية دولية للنظر في انتهاكات فظة وقعت في يوغوسلافيا السابقة منذ عام 1991. وقد أدانت هذه المحكمة الدولية حوالي خمسين شخصاً ارتكبوا جرائم بحق شعوبهم وبحق الإنسان ولكن الاعتبارات السياسية تعرقل عمل هذه المحكمة التي أصبحت تعاني في وقت مبكر من الضائقة المالية، ولم يوقع على بروتوكول التعاول معها وسن القوانين المحلية لتسهيل عملها سوى 21 دولة فقط من دول العالم التي يحتمل وجود العديدين من مجرمي حرب يوغوسلافيا فوق أراضيها. وكان الوضع أكثر قسوة حين تشجعت دول العالم وأنشأت محكمة جنائية دولية ثانية خاصة بمحاكمة المسئولين عن إبادة الجنس في رواندا في الفترة الممتدة طوال عام 1994، ويشمل اختصاص المحكمة جرائم روانديين في الدول المجاورة، إذ من المعروف أن العالم لم يلق بالاً لجريمة مروعة والعيون مصوبة على رواندا، وقعت في بوروندي المجاورة وذهب ضحيتها خمسون ألف شخص.

القمع مازال متواصلا

إنه برغم العالمية الجديدة لحقوق الإنسان، وبرغم التقدم الخرافي في وسائل الاتصالات مما تحول معه العالم إلى قرية كونية كبيرة ومما يسهل من تسليط الأضواء سريعاً على أية انتهاكات فظة لحقوق الإنسان في أي مكان من العالم، فإن الطغاة في عالمنا المعاصر بدأوا يلجأون للمذابح وللإعدامات خارج نطاق القضاء والإخفاءات حتى لاتعرضهم أية محاكمات علنية لمتهمين في بلدانهم لضغوط العالم المعاصر ومؤسساته الإنسانية. فالتقرير السنوي لمنظمة العفو الدولية أشار إلى ماأسماه "لغز" اختفاء أكثر من مائة ألف شخص في العراق بعد قمع الشيعة في الجنوب، وحدث أمر مشابه في هاييتي بعد الانقلاب العسكري عام 1991 حيث وقع الآلاف من الرجال والنساء ضحايا انتهاكات هائلة، وحدث أمر مشابه آخر في الفلبين التي تشهد إعدامات خارج نطاق القضاء منذ عقدين من الزمن، وتكررت المأساة في طاجكستان عام 1992 وفي أنجولا وأفغانستان وتركيا وغيرها من دول العالم. ولهذا قال د. بطرس غالي الأمين العام للأمم المتحدة "إن الأمم المتحدة لم تستطع أن تتخذ الإجراءات الفعالة لوضع حد لانتهاكات حقوق الإنسان الواسعة النطاق، وإزاء أنباء السلوك الهمجي التي تغص بها أجهزة الإعلام يوميا، لايجوز للأمم المتحدة أن تقف موقف المتفرج أو موقف اللامبالاة". أما المدعي العام لمحكمة الجنايات الدولية المعنية بيوغسلافيا السابقة رتشارد جولدستون فقد قال في الجلسة الافتتاحية للمحكمة في نوفمبر 1994:

"في أعقاب الحرب العالمية الثانية.. ترقب المجتمع الدولي بوجه عام بدء عهد جديد، عهد تحظى فيه الحقوق الإنسانية لجميع المواطنين في جميع بلدان العالم بالاحترام الكامل، ولكن ذلك لم يتحقق، إذ لم يكن المجتمع الدولي قد أنشأ جهازاً لإدانة الجناة ومعاقبتهم".

لهذا ينعقد الأمل على، أن يتحرك المجتمع الدولي لإنشاء جهاز دولي لإدانة المجرمين والجناة وتعقبهم دون نظر لفترة التقادم التي لايعبأ بها القانون الدولي الإنساني، ودون نظر لنتائج محاكمات وطنية قد تكون زائفة ومنحازة وتدخلت فيها حسابات السياسة ومصالح أطراف عديدة، ودون قبول نتائج عفو عام محلي قد يكون حاكم ما أصدره لاعتبارات داخلية، ففي الأرجنتين صدر مرسوم رئاسي بالعفو وقانون يبيح التذرع بواجب الطاعة في الدفاع. ومعنى هذا أنه برغم محاكمة كبار رجالات الحكومة المسئولين عن جرائم بالآلاف فقد بات من المحتمل عدم محاسبتهم على هذه الجرائم الكبرى والتي تسببت باختفاءات وإعدامات خارج نطاق القضاء طالت عشرات الآلاف من الناس حسب تقارير منظمات حقوق الإنسان الدولية، وفي بلدان أخرى جرى طرح قانون العفو العام عن جرائم سابقة للاستفتاء الشعبي الذي أسقطه، لأن الناس في كل مكان يريدون أن يدفع المجرمون ثمن جرائمهم، ولكن وفقاً للقانون والعدالة.

حياة الإنسان مقدسة

إن فلسفة إنشاء جهاز دولي لتعقب مجرمي الحروب ومجرمي إبادة الجنس تدخل في صلب النظام الدولي الإنساني الجديد ومضمون هذه الفلسفة أن حياة الإنسان مقدسة، وأن تحرك الإنسان لإنقاذ أخيه الإنسان أياً كان لونه وجنسه ومعتقداته، هو واجب إنساني يجب أن لايقف في وجهه أية حدود، وأن المجرمين الذين يمتلكون قوة وجبروتاً هائلين تمكنهما من ذبح شعوبهم دون وازع من ضمير وأخلاق، ودون أن تكون هذه الشعوب قادرة بقواها الذاتية على وقف جرائمهم، لابد من أن يتحرك العالم لإدانتهم وملاحقتهم ولو بعد عشرات السنين حتى يكونوا عبرة لغيرهم في مستقبل الأيام. لقد تساءلت منظمة العفو الدولية في تقريرها السنوي لعام 1995 قائلة:

"ماالذي يربط بين سجين رأي سابق أصبح اليوم عضواً في البرلمان في جنوب إفريقيا، وبين تلميذة بالمدرسة في جزيرة كواراساو في البحر الكاريبي، وبين خبيرة تدليك من بلدة غريماشنسك النائية في جبال الأورال؟"

الجواب: إنه الالتزام المشترك بحماية حقوق الإنسان في شتى أنحاء العالم.

إنه الإخاء الإنساني والعالمية الجديدة لحقوق الإنسان التي ترعب الطغاة حين يرون جرائمهم مفضوحة في كل ركن قصي من هذه المعمورة، وسترتعد فرائصهم حين ينجح العالم في مطاردتهم، ولو كانوا في بروج مشيدة، لمحاكمتهم على ما ارتكبوا من خطايا عبر محكمة جنائية دولية دائمة، نأمل أن ترى النور قبل نهاية هذا القرن.

 

توفيق أبوبكر