آفاق العمل المصرفي في الكويت

آفاق العمل المصرفي في الكويت

منذ أن افتتح فرع البنك البريطاني للشرق الأوسط في الكويت في مطلع الأربعينيات من هذا القرن عرفت الكويت النظام المصرفي وطريقة التعامل من خلاله، والآن وبعد مضي أكثر من خمسين عاما منذ ذلك الافتتاح، تتوافر في الكويت عدة بنوك تجارية وبنكان متخصصان وغير ذلك من مؤسسات مالية تنشط في حقل التمويل وتأجير الأموال، وقد بدأت تباشير العمل المصرفي الحقيقية في الكويت بعد أن من الله عليها بخيرات النفط في عام 1946، وبعد أن توافرت الأموال لدى التجار ورجال الأعمال عندها برزت الحاجة لوجود مصرف وطني يلبي الاحتياجات المتزايدة للسكان، ولذلك فقد تداعى عدد من رجال الأعمال وأسسوا بنك الكويت الوطني في عام 1952، ومع مرور السنوات تأسست بنوك أخرى، وزاد عدد الفروع في جميع أنحاء البلاد.

لكن النظام المصرفي في الكويت أصبح يواجه عددا من المشاكل الناتجة عن التطورات الهيكلية للاقتصاد الكويتي، فكما هو معلوم أن هذا الاقتصاد الذي ظل يعتمد على إيرادات النفط والإنفاق العام منذ بداية الخمسينيات، أصبح الآن يعاني من تراجع قيمة هذه الإيرادات ونشوء عجز في الموازنة الحكومية مما أدى إلى بروز توجهات حكومية نحو تقليص مخصصات الإنفاق العام. ولم تتطور أنشطة القطاعات غير الحكومية وغير النفطية بشكل يصحح التشوهات الاقتصادية التي تذكرها حقيقة أن الناتج المحلي الإجمالي يعتمد في 75% من تكونه على نشاط القطاع العام بجميع تفريعاته. ولقد اعتمد القطاع المصرفي على تحقيق عوائد مجزية من خلال توظيف تمويلاته في مشاريع يقوم بها القطاع الخاص لحساب الحكومة مثل المشاريع الإنشائية كالطرق والمرافق العامة والمباني الحكومية، ومشاريع القطاع النفطي، إن أنشطة القطاع الخاص التي تعتمد في جدواها على نشاط القطاع العام قد تقلصت مثل مشاريع مباني السكن الاستثمارية واستيراد السلع وغيرها، لذلك فقد تقلص سوق الإئتمان المصرفي إلى حد كبير ولم يتبق أمام المؤسسات المالية في هذا المجال وبشكل مهم، سوى عملية تمويل الاستهلاك العائلي والشخصي، وقد تكون عملية تمويل الاستهلاك من الأعمال المجدية المربحة في العديد من الدول المتقدمة، إلا أنها في الكويت لم تنظم أو تقنن بشكل مناسب، فكما هو معروف أن المتبع في الدول الصناعية المتقدمة أن تقوم البنوك والمؤسسات المالية ببحث طلب القرض الاستهلاكي على ضوء معلومات كافية من المقترض والتزامه بالدفع وتعامله مع الجهات المتعددة في السابق، لكن الكويت تفتقر لمثل هذه المعلومات ولاتوجد فيها مؤسسات تقويم الجدارة الإئتمانية أو ما يطلق عليه بالإنجليزية Credit Ratin وتذكر البيانات أن قيمة القروض الاستهلاكية قد تجاوزت البليون دينار حتى الآن وتمثل هذه القيمة نسبة مهمة من إجمالي الأصول لدى البنوك.

البحث عن أسواق مجدية

إن المعضلة الرئيسية أمام النظام المصرفي في الكويت هي غياب النشاط الحقيقي في مختلف القطاعات الاقتصادية من صناعة أو عقار أو خدمات نظرا لمحدودية الاستيعاب وانخفاض حجم الاستثمار الجديد في الاقتصاد الكويتي، وليس ذلك بجديد على المطلعين على طبيعة هذا الاقتصاد، حيث إن الحكومة تمتلك معظم الأنشطة ومؤسساتها، ومن ثم فإن تقليص الإنفاق العام ينعكس سلبيا على الاستثمارات الجديدة في هذه الأنشطة، وقد يكون التخصيص مجالا مربحا لبعث روح جديدة وتحريك الدماء في أوردة الاقتصاد الوطني.

بداية سوف يعني التخصيص توافر احتياجات تمويلية من قبل الجهات الراغبة في شراء الأسهم المملوكة من الدولة لإنجاز الصفقات الكبيرة. كذلك يمكن للبنوك توفير تمويلات قصيرة الأجل لتمويل عمليات الاكتتاب بأسهم التخصيص، وأهم من ذلك أن الدولة إذا قررت جديا تخصيص منشآت المرافق العامة فإن هناك فرصا لاحدود لها لقيام البنوك بتمويل المستثمرين لاقتناء هذه الأصول غالية الكلفة، وبذلك ينفتح المجال واسعا أمام عمليات الاقتناء من خلال الإقراض والتي تسمى Leveraged Buy _ Out وعندئذ تتوافر أدوات تمويل كبيرة ومهمة في الاقتصاد الكويتي.

لكن هل البنوك الكويتية مستعدة للولوج في القرن الحادي والعشرين وهي مستعدة لهذه التطورات المثيرة في النظام المصرفي، وفي ذات الوقت الاستعداد للمنافسة على المستويات الإقليمية والدولية؟

لقد مرت البنوك في الكويت بتجارب مهمة، وبعضها مرير، وحاولت تطوير أعمالها وأنظمتها بما يتوافق مع تطور العمل المصرفي العالمي، لكن حتى الآن لاتزال هذه البنوك بعيدة عن واجهة تحديات المنافسة سواء من حيث الحجم أو من حيث قدرات الإدارة، ولذلك فإن وجود هذا العدد من البنوك في الكويت بأحجامها الحالية يتطلب إعادة النظر، وربما التفكير جديا في دمج بعض هذه المؤسسات بما يؤهلها لتجاوز عقبات الحجم ومن ثم تدخل مجال المنافسة الرحب بكل اقتدار.

هل يمكن دمج البنوك؟

ولاشك أن مسألة الدمج قد أثيرت في الكويت منذ فترة طويلة، وتكاد تقارب العقد من الزمان، إلا أن التردد من قبل الجهات المالكة والمديرة لهذه المؤسسات المصرفية حال دون تحقيق أي إنجاز حتى الآن، وقد جاءت دراسات بنك الكويت المركزي والكثير من دراسات المختصين لتؤكد أهمية اعتماد برنامج لدمج عدد من هذه البنوك وتحويلها إلى مؤسسات أكبر، بل إن بعض البنوك أجرت دراسات حول هذا الموضوع وقد كلفت هذه الدراسات أموالا طائلة، إلا أن مجالس إدارات البنوك وإداراتها التنفيذية لم توفق حتى الآن بعرض أي مشروع دمج بين مصرفين على الجمعيات العمومية للمساهمين، ولم تفلح الدراسات التي أجريت لدمج بنكين متخصصين هما البنك العقاري وبنك الكويت الصناعي بإقناع المساهمين ومجلسي الإدارة للبنكين لاعتماد خيار الدمج وذلك بعد دراسات استغرقت مايقارب ثلاث سنوات، وتدل هذه الأمور على مدى تردد أصحاب الشأن تجاه عملية الدمج، كما تؤكد أيضا أن هناك عقبات وصعوبات لابد من تجاوزها لتحقيق عملية الدمج.

لكن هل هذه الصعوبات ستحول دون أي عملية اندماج مصرفي، ومن ثم فإن الحديث عن الدمج يصبح غير ذي موضوع? قد يكون هناك العديد من المساهمين في البنوك الكويتية الذين ينظرون للبنوك كمؤسسات خاصة مملوكة من قبلهم، خصوصا أولئك المساهمين الذين يملكون نسبا تفوق العشرين في المائة، وقد يكون هؤلاء متحكمين في إدارة البنوك لدرجة عالية مما يفزعهم أي حديث عن الدمج، الذي ربما يؤدي لفقدانهم السيطرة، لكن هل يمكن للبنوك الاستمرار في وضعيتها الراهنة دون تطوير وبناء قاعدة رأسمالية كبيرة? إن التطورات الاقتصادية المتسارعة على المستوى الدولي والدرجة التي تأثرت بها الصناعة المصرفية قد لاتتيح فرصة كبيرة أمام المترددين للوقوف أمام دمج بعض المصارف في الكويت حيث تتملك الهيئة العامة للاستثمار بالنيابة عن حكومة دولة الكويت نسب مساهمات كبيرة في بنكين على الأقل، حيث تملك مايقارب الستين في المائة من رأس مال كل من بنك الكويت والشرق الأوسط، وبنك برقان، وهي من خلال هاتين المساهمتين المهمتين تستطيع أن تعمل على الدمج دون قيود من قبل بقية المساهمين، كذلك هناك أطراف في القطاع الخاص تمتلك في الوقت الحاضر نسبا معقولة من رءوس أموال البنوك يمكن أن تساعد أي جهود فعلية من قبل الهيئة العامة للاستثمار من أجل تحقيق عملية الدمج.

ويتعين علينا أن نترقب إمكان تحقيق هذه التطويرات على ضوء الحقائق المشار إليها، ونكتشف مدى جدية السلطات الرسمية للعب دور حاسم في إنجاز أول عملية اندماج مصرفية في تاريخ الكويت، ولاشك أن الجهات الرقابية، ممثلة ببنك الكويت المركزي، تحبذ بقوة ذلك الاندماج في أقرب وقت ممكن، لكن تظل مسألة الاندماج خاضعة لإرادة المساهمين، حيث لابد من توافر قناعات لديهم حول جدوى الدمج لمؤسساتهم ولمصالحهم الاستثمارية.

ولاشك أن سوق الكويت للأوراق المالية يمثل جاذبية كبيرة للعديد من المستثمرين، ومنهم متعاملون صغار لاتتعدى إمكاناتهم عشرة آلاف دينار أو أكثر قليلا، ولذلك يطمح هؤلاء لتوفير تمويلات لعمليات شراء الأسهم المدرجة في تلك السوق من أجل تعزيز أرباحهم خصوصا في فترات صعود أسعار الأسهم، لكن هناك إمكانات لتجاوز الأصول المتعارف عليها للإقراض من قبل البنوك والمؤسسات المالية، حيث يمكن التغاضي عن الرهونات اللازمة أو توفير الضمانات أو وضع شروط لاستخدام الأموال، أو تحديد قيمة القروض مقابل الأموال الذاتية للمستثمر وهكذا. ولذلك فإن بنك الكويت المركزي أخذ يعزز من تدخلاته في هذا المضمار، من أجل وضع سياسات إقراض مناسبة حتى لاتحدث أوضاع ينتج عنها إعسار من قبل المتعاملين، وينتهي الأمر بالمؤسسات المالية لتواجه قروضا غير مخدومة.

لكن أمام الإمكانات المحدودة لسوق الإئتمان في الكويت، هل لنا أن نتوقع أن تجد البنوك خيارات كبيرة لإقراض الأفراد والمؤسسات المتعاملين في سوق الأوراق المالية، أو إقراض مشاريع السكن الخاص، أو الاستهلاك العائلي؟ لابد من الإقرار أن الإمكانات في سوق الإئتمان محدودة للغاية، ومن ثم لابد من ترتيب الأوضاع بشكل معقول بحيث تستطيع البنوك وغيرها من مؤسسات مالية الاستفادة من القنوات المفتوحة، قدر الإمكان، دون الوقوع بمحاذير التمويلات غير المنضبطة.

وإذا أرادت البنوك أن يكون لها سوق إئتمانية واسعة فعليها التطلع خارج الحدود والمشاركة في إصدار السندات للدولة والمؤسسات والمشاركة في أعمال الإصدارات المتنوعة مع بقية المؤسسات المالية الدولية. لكن هذه المشاركات تتطلب أوضاعا مالية سليمة، وقدرات رأسمالية كبيرة، وتحتم وجود إدارات ذات كفاءة عالية، كل هذه العوامل مازال العديد من مؤسساتنا المالية يفتقر إليها ويستلزم الأمر البحث عن طرق لمعالجة القصور واستيعاب المتغيرات الجارية في النظام المصرفي والمالي على المستوى العالمي، وإذا استعرضنا المعضلات التي أشرت إليها في هذه العجالة، فإن البنوك الكويتية تواجه معوقات حقيقية قد لاتمكنها من المنافسة الجادة في العديد من الأعمال المصرفية في الوقت الراهن، ولذلك بات على هذه المصارف أن تعمل من أجل تطوير الأدوات الإدارية والفنية وإعادة بناء الهياكل المؤسسية وتعديل أنظمة الملكية والتحرر من العديد من القيود القانونية القائمة.

 

عامر ذياب التميمي