مسجل بعلم الوصول

مسجل بعلم الوصول

أتاها علم الوصول فاحتارت. حاولت أن تتأكد من ساعي البريد أكثر من مرة. فهي لاتعرف القراءة أو الكتابة. برغم النظارة الطبية التي لاتفارق وجهها. وأصبحت جزءاً من الوجه مع مرور الوقت.

أكثر من مرة تستعيد الكلام. الاسم والعنوان. الاسم هو نفسه اسم زوجها إبراهيم فتح الله المعداوي. والاسم ثلاثي. وعندما تساءلت: وهل تأتي جوابات للميتين؟! قال لها ساعي البريد الذي كان شابا صغيرا عوده أخضر لايزال: ربما كان الخطاب من التربي. أكمل متضاحكاً: حاولي أن تتذكري، هل دفعت له أتعابه؟!

تحسرت على ساعي البريد أيام زمان. فقد كان رجلاً متقدماً في العمر. يعرف الأصول ولايسخر من أحزان الناس. كان يستحق أن تغني له فتحية أحمد الأغنية الشهيرة عن البوسطجية الذين اشتكوا من كثرة المراسيل.

وإن كانت الفكرة التي قالها البوسطجي الصبي. أو النكتة التي لم تضحكها. ذلك أن زمن الضحك قد ولى وفات أوانه. هذه الفكرة استقرت في عقل بالها للحظات. ما المانع أن يكون الخطاب من التربي فعلا ؟ مع أنها دفعت له، على داير المليم، كل ماله عليها.

سبعمائة يوم، وسبعمائة ليلة مضت منذ الوفاة. التي تبدو الآن كما لو كانت كابوساً. وفي هذه الأيام وتلك الليالي، ذهبت إلى الترب أكثر من مرة. والتربي الحاج ريان. هو أول من يقابلها. وآخر من يودعها. ولابد أن تعطيه مما قسم الله له.

كانت تتفاءل به. وهل هناك من يتفاءل بأي شيء في القبور؟ عندما عادت بعد الدفن وذكرت اسمه، أمام امرأة متعلمة من جيرانها. قالت لها إن الريان اسم لباب من أبواب الجنة. وهذه بشرة خير.

لم يكن الخطاب مع البوسطجي الصغير الذي بدا لها كما لو كان قد عجز عن العثور على عمل. ولم يجد أمامه سوى هذه الشغلانة، فأمسك بها. قال لها إن الخطاب مسجل. لم تفهم معنى الكلمة. فقال مسوجر، وهو موجود في مكتب البريد، وكل ما معه عبارة عن إيصال تأخذه وتذهب إلى مكتب البريد، وهناك تتسلم الخطاب.

أعطاها الإيصال. واستعد للنزول على السلم. ويبدو أنه تذكر أنه عطشان. فطلب منها بق ماء. هي أرملة وحدانية. هجالة لاعيل ولاتيل. وتسمع حكايات يشيب لها شعر الرأس، عما يفعله أبناء هذه الأيام. ومن يمنع الماء عن عطشان كافر.

ردت الباب بعد أن طلبت منه الوقوف حيث هو. حتى تحضر له الماء. ما إن شاهد القلة تخرج من الباب الموارب أولا. وعود النعناع الأخضر يغطي بوزها. حتى تهلل وصفق، وصفق سعيدا. قال بصوت عال: ثلاجة شعبية. كان لنزول الماء في زوره صوت. وشاهدت تفاحة آدم وهي تصعد وتنزل في بلعومه. مسح فمه بيده، وهو يعيد لها القلة قائلا: بيوت الطيبين عمار.

نزل سلمة. كانت قدمه اليمنى على السلمة التي تحت عندما سألته: كان مكتوبا على الظرف المرحوم? سألها: وهل تفرق? قالت له: فرق السماء عن الأرض. المرحوم تعني أن الخطاب أرسل بعد وفاته. قال لها: الكدب خيبة لم آخذ بالي.

كان سؤالها ماقبل الأخير عن الجهة التي أرسلت الخطاب، والبوسطجي قال لها إنه من المفروض أن يكون ذلك مكتوبا في الإيصال الذي معها. وعندما تأكد أنه غير مدون. قال لها إن ذلك عدم اهتمام من زميله. لايصل إلى حدود الإهمال. وسيلفت نظره لذلك في الإيصالات الأخرى.

أما سؤالها الأخير: فقد كان عن موعد الذهاب إلى مكتب البريد. قال لها: إنها من المفروض أن تكون هناك قبل مرور ثلاثة أيام من الغد. وإلا أعيد الخطاب إلى الجهة المرسلة. ذلك أن بقاءه في المكتب بعد ذلك يعد مخالفة للوائح والتعليمات.

لم تسأله عن عنوان المكتب. فهو نفس المكتب الذي تتسلم منه المعاش يوم العاشر من كل شهر إفرنجي. تعرف الطريق إليه في الذهاب والعودة منه. والمواصلات التي تركبها حتى تصل إليه ولكي تعود منه.

لو أن الخطاب "المسوجر" جاء في وقت قريب من موعد المعاش، لكان المشوار واحداً. ولضربت عصفورين بحجر واحد. تذهب لتقبض المعاش وتتسلم الخطاب. المعاش كان موعده الأسبوع الماضي. وإن انتظرت إلى الشهر القادم، قد يعاد الخطاب إلى من أرسله. ومن أدراها. ربما كان فيه الخير الذي لايتوقعه الإنسان.

في الصباح، توكلت على الله. نزلت من بيتها عند بكة الشمس ركبت الأتوبيس. نزلت في منتصف الطريق. ركبت أتوبيسا آخر. تساءلت: ألم تكن تكفيها هذه البهدلة مرة واحدة في الشهر؟

أخيرا، أخيراً، وصلت إلى مكتب البريد. كان معها الإيصال الذي أخذته من البوسطجي بالأمس. احتفظت به جيداً. وضعته تحت نني العين. وعندما نامت. خبأته بين المخدة والفرش، وفي الطريق، كانت تتحسس الإيصال لتتأكد من وجوده.

كانت تخاف أن يسرق منها في الطريق. فهي لاتسمع في هذه الأيام، إلا عن حوادث النشل وحكايات السرقة.

وهي من يومها بيتية. لم تكن تخرج أبداً في حياة المرحوم، وإن رأت الشارع أحيانا، فيكون ذلك معه. وترى الدنيا من خلال عينيه هو. مالها ولهذه الدنيا المزدحمة بالناس والأشياء والشرور والآثام.

كان بيتها يحميها، وكان المرحوم هو عكاز حياتها ووتد خيمة عمرها. وظلها وحاميها. ولكنه تخلى عنها ومات. مع أنها كانت تدعو، كلما سمعت قرآن الفجر أن يكون يومها قبل يومه. ولكنه رحل قبلها. تقول لنفسها هامسة: يابخت من سكن هناك.

وصلت إلى المكتب متعبة. بعد يوم طويل من السفر. عرقها مرقها كانت تسمع صوت لهاثها الذي كان واضحاً. على عتبة المكتب شاهدت شاباً منصرفاً منه. خاطر في عقل بالها البسيط قال لها، ربما كان هذا الفتى هو الذي عنده الخطاب.

ما إن قدمت الإيصال الذي معها إلى الولد الذي يجلس على البنك. حتى صفر مناديا على الشاب الذي قابلها. والذي كان يجري وراء أتوبيس يجري. ولسوء حظها أنه تمكن من القفز بداخله في لحظة خاطفة.

قبل أن تندب حظها العاثر. قال لها الفتى: إن زميله سيعود بعد ساعة. سألته: ومن أدراك أن الغائب يعود. قال لها: إن معه إذنا بساعة واحدة فقط. لايمكنه أن يتأخر عنها. وأن الخطابات المسجلة عهدته. وقد أغلق درجه عليها. وأنها لو مدت خطوتها للحقت به. ولكن الأمر فرق معها أقل من ثانية. قالت باختصار: قلة البخت.

نظرت حولها: بحثت عن مكان تجلس فيه. امرأة ذكرها منظرها بشبابها الذي ولى، ولن يعود أبداً. عرضت عليها أن تصحبها إلى شقتها القريبة. حتى تمضي هذه الساعة. أوشكت أن توافقها. ولكنها تذكرت ماتسمعه من حكايات النصب والضحك على خلق الله. فشكرتها رافضة. وكلما أصرت المرأة الصغيرة. وقالت إنها وحدانية وتعيش بمفردها، كانت تصمم على الاعتذار وربما الرفض. قالت لنفسها: إن أولاد الحرام لم يتركوا لأولاد الحلال ولا مساحة في زنقة قبر. قبر العاصي طبعاً.

خلال الانتظار الذي طال أكثر من الساعة. لم تكن تنتظر بمفردها. كان هناك منتظرون آخرون. لم يكن ثمة مفر من الكلام مع الذين كانوا في المكتب. وقد لاحظت أنهم جميعا شبان ماعدا رجل متقدم في العمر. في سن آبائهم. كان من الواضح أنه رئيس هؤلاء الشبان الصغار في العمل. فلم يكن يشترك معهم في المزاح الثقيل الذي كانوايقتلون به الوقت الذي بلا عمل. وكانت تغطي وجهه طبقة من الحزن.

رجل وحيد يجلس على مكتب من الصاج. تاه لونه الأصلي.

كان الرجل مشغولاً بإعداد كوب من الشاي لنفسه في براد صغير. مستخدماً سخاناً كهربائياً صغيراً. عندما عرف موضوعها نصحها. إنه مادام المرسل إليه متوفى. فهو ينصحها بعدم تسلمه. ويعاد إلى الجهة التي أرسلته. قال باختصار: هذا هو الصواب.

كان معها من الأوراق مايثبت أنها زوجة المتوفى. وهي تصرف معاشه من الناحية الأخرى من المكتب. ويمكنه أن يتأكد من ذلك بنفسه. كان الرجل متفهما لكل ماتقوله.

ولكنه أوشك أن يتحايل عليها أن ترفض تسلم الخطاب وأن تتركه يعود إلى حيث أتى.

سألته، إن كان يعرف ما في الرسالة. انزعج الرجل. قال إنه لايمكن أن يفكر ـ مجرد التفكير ـ في معرفة مافي الخطابات. ضحك متسائلاً، يبدو أن الحاجة شاهدت ماكان يفعله شكري سرحان في فيلم البوسطجي. ولكن الحاجة نسيت أن الفيلم خيال في خيال. وعن نفسه، أكد الرجل، أنه لم يعمل في الصعيد. وفي حياته مايشغله بعد الظهر حتى صباح اليوم التالي. وهي لم تدرك عن أي الأمور يتكلم. وهو قال لها إنها حرة تتسلم الخطاب ترفض هو فقط ينصحها. وإن كانت مصرة على تسلم الخطاب سيسهل لها ذلك، وذنبها على جنبها.

عندما جاء الولد الذي قالوا لها إن الخطاب في عهدته. لم تعرفه. مع أنه هو نفسه الذي كان خارجا وهي داخلة. وجهوا له لوما على غيابه. لأن الحاجة منتظرة من لحظة مشيه من المكتب. والشاب كشفهم. قال لهم إن الخطابات مرمية أمامهم. ولكنهم يخشون المسئولية ويخافون من احتمال الخطأ. حتى لو كان في ذلك تسهيل لحياة الناس.

أخذ منها الإيصال. وبعد أن اعتذر لها عن التأخير. وعذره أنه لايعرف أنها تنتظره. لمس حبة قلبها عندما ناداها مستخدما كلمة "يا أمي".

حرك قطعة حديد فوق البنك العالي الذي يقفون حوله. كما لو كانوا مجموعة من الشبان يتسكعون على إحدى النواصي لمعاكسة الفتيات.

تحت الحديدة، كانت هناك مجموعة من الخطابات مربوطة بأستك. عاين رقم الإيصال على أرقام الخطابات، حتى أخرج خطابا أصفر اللون. صفر أحد الشباب، وقال إنه خطاب "ميري"، قالت لنفسها: "من الحكومة" وإن لم تفكر في سؤالهم عن أي جهة في الحكومة هي التي أرسلت هذا الخطاب.

وضع الشاب الخطاب على الرخامة الموضوعة فوق البنك والمتسخة بالأحبار وبقايا الطعام وتفل الشاي. لم تعرف إن كانت هذه الفضلات من وجبة الإفطار أو الغداء. وبرغم رائحة العفونة التي تفوح منها. فإن منظر بقايا الطعام حرك مصارين بطنها الخالية من الهواء.

أحضر دفتراً، فتحه، وقلب صفحاته. حتى وصل إلى خانة معينة. ونقل فيها الرقم. ثم عدل من وضع الدفتر أمامها لكي توقع. أخرجت الختم من محفظتها، وقدمته له. بحث عن الختامة بهدوء وغمس فيها الختم وختم أمام عبارة "تسلمت الخطاب" التي كتبها بنفسه دوّن تاريخ اليوم. وسألها عن اسمها الثلاثي. وكتبه تحت الختم.

سحب قطعة من القماش تاه لونها الأصلي. ومسح فيها الختم وأطراف أصابعه وسلمها الختم بعد أن أصبح نظيفاً من الحبر ومعه الخطاب أخذته من الشاب وسلمته لشاب آخر كان يقف بجوارها. قلبه باشمئزاز. وقال لها وكأنه يتف الكلمات من بين شفتيه: من المعاشات.

كان الظرف صغيرا. ومع هذا ما إن فتحه الشاب بعصبية قطعته إلى أكثر من قطعة، حتى اكتشفت أن الخطاب الداخلي كان عبارة عن ورقة طويلة. تعجبت. كيف طبقت ووضعت داخل هذا الظرف الصغير.

تمتم بشفتيه كثيراً. قبل أن يقول لها إن الخطاب عبارة عن صورة من خطاب أصلي مرسل إلى الإدارة التي تصرف لها المعاش. كانت تفهم ببطء شديد. وتحاول أن تستوعب بصعوبة. والولد يشرح. مطلوب وقف صرف معاشها من المرحوم زوجها الراحل. لأن هناك امرأة أخرى. قدمت شكوى قالت فيها: إنها كانت زوجة المرحوم زوجها: إبراهيم فتح الله المعداوي. وأنها أنجبت منه ثلاث بنات وولدا. وتطالب بحقها في المعاش بأثر رجعي من تاريخ الوفاة. وستقدم مايثبت صدق ماتقوله. ووقف المعاش إلى أن يتم البت في هذا الموضوع.

لم تكن قد فهمت المعنى كله بعد. عندما سألت عما يدخلها في هذا الموضوع. قال لها الولد إن الخطاب عبارة عن صورة لها للعلم فقط. وأنها لم تذكر في الخطاب من قريب أو بعيد ولكن المكتوب عليه: إلى المنتفعين بمعاش إبراهيم فتح الله المعداوي، والعنوان هو نفس عنوانها الذي تقيم فيه. سألها: هل هي مستفيدة من هذا المعاش؟ هزت رأسها يعني نعم. فأعاد قوله. إذن فالخطاب لها. أعاد القطع الممزقة التي كانت تشكل المظروف لها. بعد أن اعتذر عن تمزيقه. وقال إنه لم يكن يعرف مسبقا أن الخطاب بهذه الأهمية. ولكن العزاء أن الرسالة نفسها سليمة مائة في المائة. وإن احتاجت أية مستندات عن تاريخ ورود الخطاب إليها فهو تحت أمرها.

وما إن استقر المعنى في ذهنها. حتى نظرت إلى مكتب الرجل الكبير الذي أوشك أن يجبرها على ألا تتسلم الخطاب. كان مكتبه خاليا. ولاتدري متى انصرف. مع أنها كانت تتصور أنه أول من يحضر. وآخر من يمشي. مادام هو مديره.

قالت للفراغ الذي تركه. إنها كانت متأكدة أنه كان يعرف مافي الخطاب. وندمت. ليتها ما تسلمت الخطاب. لقد تصورت العكس. خيل إليها أنها لو لم تتسلم الخطاب لتوقف المعاش في الشهر القادم.

وإن كانت قد حاولت أن تعفي نفسها من أي مسئولية. من هي حتى يكون تسلمها للخطاب شرطا للتنفيذ؟ الحكومة لايقدر عليها أحد. إنها هي التي تمنع الماء والكهرباء والهواء عن شقتها. كان المعاش سيتوقف سواء ختمت أو لم تختم. ولكنها عادت تلوم نفسها. ليتها استمعت إلى ما قاله المدير. ولكنه المقدر والمكتوب الذي ما منه مهروب.

في الشارع. كان الوقت في لحظة زمته الضهرية. الشمس والغبار والحرارة أعمدة. ولاتوجد مساحة ظل ولو بحجم كف اليد. كانت تفكر في الرحلة التي ستقوم بها الآن. ولكن بالعكس.

ابتعدت قليلاً عن مكتب البريد. وقفت واستدارت ونظرت إليه. حاولت أن تملأ عينيها من منظره. لم تكن تعرف متى ستحضر إليه مرة أخرى. قالت لنفسها: يا عالم.

استدارت. سارت في طريقها. أمامها مشوار يهد الحيل. حتى تصل إلى بيتها. فكرت في حالها. حاولت أن تحسب المبلغ الذي في البيت. كم يكفي؟ تساءلت: هل تحضر في موعد صرف المعاش القادم؟ ربما صرفوه لها قبل الدخول في حكاية زوجته الأخرى وأبنائها. حاولت أن تتخيل المرأة الأخرى، والأطفال. تعجبت من نفسها. فالرجل لم يتكلم عن حكاية الخلفة أبدا. لدرجة أنها تصورت أنه ربما كان قد نسي هذه الحكاية وما فيها. كانت متأكدة في وقفتها المضنية أن زوجها. أو الذي كان زوجها. لم يقض الليل خارج فراشه. بعيدا عن بيته.

جاء زوجها على بالها. همست له: ياخويا. المسامح كريم.

 

يوسف القعيد