الحياد والكتابة

الحياد والكتابة

لعل من باب تقرير البديهيات القول: إن الكاتب، كل كاتب حقيقي، يقول ما يعرفه، وقد سئلت: لماذا تجد نفسك مندفعا إلى أن تقول ما تعرفه في شكل فني، وليس في صيغة مقالة، خصوصا وأنت تكتب المقال أيضا؟.

وبداءة سأزعم أن المقالة عندي أيضا عمل فني، بمعنى من المعاني، وأن المعايير في كتابة المقالة هي معايير حميمة أيضا وليست خارجية، إذا صح التعبير. ولكن لماذا يختار الفنان أن يكون فنانا؟ وهل هو الذي يختار؟

هناك قدر من الاختيار طبعا.. هناك قدر من الفعل الإرادي، بلاشك، ولكني أتصور أن هناك تكوينا، لا أريد أن أقول نفسيا سيكولوجيا فقط، تكوينا ما، تجتمع فيه عوامل كثيرة وآليات معقدة، ليست بالضرورة واضحة كل الوضوح، تدفع الفنان إلى هذا النوع من الحياة، ولا أقول: إلى هذا النوع من الممارسة.. لأن الفن عندي هو أيضا حياة. ما هي هذه العوامل أو العناصر، أو المكونات الكثيرة؟ من الممكن أن أعدد الكثير: ظروف الطفولة، والعائلة، والنشأة، والظروف الاجتماعية، كما يمكن أن أعزوها إلى الكثير، في التكوين السيكولوجي البحت، والداخلي البحت. هذه كلها قد تكون مسوغات، أو مبررات، أو عللا يمكن رصدها وتقصيها. ولكن يبقى هناك أيضا فيما أظن، شيء يتجاوز كل هذه الدوافع أو الحوافز. شيء ما ليس مألوفا، وليس محددا، شيء في منطقة السر.

أتصور أن كل إنسان هو أيضا فنان بالقوة إن لم يكن بالفعل. فلعل الفنان إما حسن الحظ جدا أو سيىء الحظ جدا، في أن هذه القوة تحولت إلى فعل، لسبب أو لآخر، ولكن أنا لا أعطي الكاتب أوالفنان مكانة خاصة متميزة، بل أقول، كما قلت في البداية، كل واحد هو خالق وفنان بالقوة، وكل قارئ هو صانع للعمل الفني بالفعل.

لكنني سوف أذهب إلى ما هو أبعد من هذا كله، وما يندرج في سياقه كذلك فأقول: إن كل كتاباتي هي كتابة واحدة، ليست متكررة.. ليست مكرورة، وليست نسخاً متطابقة احداهما مع الأخرى على الأقل هذا ما أرجوه. ولكنها فيما أتصور، تعنى بالهموم نفسها، وبالقضايا نفسها، وبالمسعى نفسه. هناك القول الشائع في العمل النقدي بأن كل كاتب إنما يقضي حياته ليكتب كتاباً واحدا. وأنا أقول: إنه يقضي حياته لكي لا يتم كتابة هذا الكتاب الواحد.. لا يكمله ولا ينتهي من كتابة هذا الكتاب الواحد، المتعدد في الوقت نفسه.

مادة الكتابة بلا نهاية

مادة هذه الكتابة، بطبيعة الحال، هو "واقع" واحد متطور، أو متغير، واقع واحد لكنه في تجليه الأول كان يحمل بذور تطوره وتغيره. هو نفس الواقع، ولكنه يحمل مستقبله في ماضيه، ويتجاوز زمنيته، سواء كان من البداية أو في النهاية ـ وليست هناك نهاية. بمعنى أنني مازلت حتى الآن، وبعد أن نشرت هذا الكتاب الواحد، المتعدد، مازالت تراودني كتابته من جديد وبلا انتهاء، هي هي ذاتها، تجليات أخرى بما تحمله في غورها من إرهاصات ممكنة، أو لا نهاية لإمكاناتها، ومن ترسبات لن تستنفد.

قد يشكل هذا، بذاته، حالة روائية مستمرة الوجود، ومستمرة الحركة، هي مسعى جمالي ـ معرفي، وهي مسعى للتواصل وايجاد الجسور بيني وبين قارئي، ولعل من سمات هذه "الحالة" أنني أعيد خلق العمل الفني مرة بعد مرة بما يوشك ألا تكون فيه نهاية، ولعل من المحاور التي أعتمدها في هذا المسعى محور "المكانية" اذ أعود إلى المكان نفسه، الاسكندرية، أو الطرانة، أو محطة سكة حديد مجهلة غير مسماة لكنها متعينة ومجسمة بكل واقعيتها الخارجية والداخلية معا.

ان المكان، عندي هو معيار الزمنية أو معيار اللازمنية. وهو التحديد الدقيق لمعنى الزمن.

إن الزمن لا يتحدد الا من خلال المكان.. ولا وجود للزمن الا من خلال المكان، ومن احدى أهم المشكلات الحياتية والفنية التي مازلت أراودها وتراودني، أناوشها وتناوشني، هي بالضبط فكرة الزمنية واللازمنية، وأحد الحلول الممكنة لهذا، هو، على وجه الدقة، المكان. في المكان يوجد الزمن وينتفي، في الوقت نفسه. ربما كان هذا من المحاور الاساسية في كل هذا الكتاب الواحد الذي لا يريد ان ينتهي، الذي هو كتاباتي.

لست أظنني بحاجة إلى القول إن زمان القص عندي ـ كزمان الخبرة الإنسانية الحميمة نفسها فيما أظن ـ ليس متعينا بالضرورة، على النحو التقليدي، ولكنه ليس منتفيا، أو على الأصح ليس منفياً. أظنه زمانا مركبا، هو "الآن" في لحظة الكتابة، محدد ومعروف، وهو "الآن" في لحظة القراءة نفسها ـ ويا للطموح ـ وهو أيضا زمان حي حدث فيما اصطلح عليه بالماضي ولكنه لم ينقض، والماضي محدد أيضا ومتعين ومعروف من السياق، ولكنه يتجاوز هذا السياق، يضمه ويحيط به ويغرقه ويأتي به إلى المضارع وإلى المستقبل في وقت معا. وليس هذا الماضي واحدا ـ في تعينه وتحدده ـ بل متعدد، بكل تعينه وتحدده وتجاوزه أيضا. لاسبيل إلى توضيح ذلك إلا من خلال القص نفسه، لا عن طريق هذه التجريدات "الحيادية" شديدة الجفاف والصرامة.

حضور المكان

أما المكان فهو عندي له حضوره وله سطوته كذلك. المكان عندي ـ إن صح القول ـ هو حدث، بحقه الخاص، فما من سبيل إلى تركه غير متعين، وهو في تحدده المجسم لابد أن يكون متعينا بمعنى ما، ولكنه قد لا يكون مسمى، وقد يسمى بالتحديد. قد يكون المكان غيط العنب في الإسكندرية أو الأنفوشي، ويسمى أو قرية أمي "الطرانة" في البحيرة أو بلدة أبي "أخميم" في الصعيد أو قد يكون شارعا أو حارة في راغب باشا أو محرم بك، وقد يسمى أو لا يسمى، ما أهمية التسمية؟

ومرة أخرى ـ وهو ما حدث في قصصي الأخيرة على الأخص في "اختناقات العشق والصباح" وما بعدها، كما كان قد حدث في روايتي "رامة والتنين" لا يصبح المكان واحدا ولا منفصلا في الموقع أو في الزمان، أي أنه يصبح متراكبا ومتزامنا، يصبح مركبا من أماكن عدة وفي أزمنة عدة، ولكنه مع ذلك محدد وعضوي، بمعنى أن له جسدا، وله دور فاعل، هو أيضا حدث. لذلك فالأحداث بالمعنى التقليدي، ليست مهمة عندي، وان كانت أيضا ليست قليلة الأهمية. إذن فإن ثم نوعا من التماهي أو على الأقل التورط الحميم بين النص والحدث أو بينه وبين الكاتب على نحو ما.

وبداءة تتخلق القصة عندى ـ على الاغلب، أو على الأرجح ـ من صورة، صورة تتشكل في الوقت نفسه بأصوات، بكلمات، بمادة اللغة وقوامها. وسواء كانت هذه الصورة لمشهد خارجي ـ هو نفسه ساحة النفس المسفوحة ـ أو لفعل ـ يدور بلا انفصام عن هذا المشهد الذي يضم الخارج والداخل، والواقع واللاواقع، أو للتكون الأولي ـ المتحقق فعلا منذ أول لمسة ـ لشخصية، أو حتى صورة لحوار ـ اذا أمكن أن أقول ـ وقد حدث ذلك لي في قصة "الجامع القديم" مثلا ـ سواء كان ذلك أو غيره فهي أساسا صورة تتخذ لنفسها على الفور جسدا من اللغة ـ وأظن أن لي لغتي ـ فهي تتخلق بالكلمة أو بنسق من الكلمات، بجرسها وايقاعها وكثافتها أو رقتها وهكذا ـ وهي في الآن نفسه تأتي حسية ومدركة، أي أنها تأتي حسية ومتجسدة ولها طعمها ورائحتها وملمسها ومرئية شديدة الحضور البصري أساسا، ويتداعى معها وفيها فكرها، ولها عقلانيتها الخاصة بمعنى ما، أي أنها تندرج في مفهوم، في تصور، في رؤية فكرية. ثم يأتي بعد ذلك ـ بعد هذا المدخل ـ تطور القصة في حبكة ما، ليس ضروريا أن تكون محبوكة بالمعنى التقليدي، بل لعله ضروري ألا تكون كذلك. أما الحدث فربما كان في الجملة، أي في اللغة نفسها ـ هذا عندي حدث كما قلت ـ أو في تلك الصور من الأشياء والأحلام، هذه هي الاحداث عندي. أما الشخصـي عندي فهي واحدة، أو متقاربة جدا، لست أظن أنني أحكي حكايات، ولست رساما للشخصيات "بورتيريست"، سأترك ذلك كله، بسعادة، لصناع أدب الاستهلاك وحكايات الأفلام الشائعة ورسامي الكاريكاتير، هذه كلها اقتطاعات، أو اصطناعات، أو دراسات أو تسليات، لها ضرورتها، ربما، في سياق أراه مختلفا كل الاختلاف عن سياق الفن، والمعرفة الخاصة الشاملة، التي لا سبيل إليها إلا الفن.

ولكن ذلك ليس معناه، بالبداهة، أن توشية الفن القصصي ـ بالحوار والحدث والشخصية ـ ومكر العمل القصصي نفسه، أشياء لا أهمية لها. بل ربما كانت أهميتها أساسية، وإنما هي تأتي عندي في مقام تال، وبترتيب زمني لاحق في عملية التخلق الفني، إن صح القول، على ما قد يكون في هذا الترتيب من فروق هي غاية في الضآلة والزهادة، عند فعل الكتابة نفسه. زمن التخلق قد يستغرق سنوات، اما فعل الكتابة فلا زمن فيه.

الزمن والفن

إن مقولات الزمن لا تنطبق هنا، ببساطة، الماضي ماثل وباق دائما، ملموسا ومجسما. والحاضر الراهن يحمل في طواياه المندثر المنقضي حيا قائما، إن الطفولة او المراهقة، وحكاياتها، وأحاسيسها لا تبتعث هنا باعتبارها ذكريات، على العكس تماما، هذه إبداعات جديدة "وليست إعادة ابداع" تطمح إلى قهر سطوة الزمن، إلى تحطيم طغيانه، وإلى تجاوز الزمنية ذاتها. إن الطموح هنا هو نفي كل حنين إلى الماضي، وإلى تناول كل شيء بقدر من الصحو والصفاء يظل دائما في مستوى التوتر العفوي والمتعمد معا.

في واقع الامر أتصور أن الكثافة اللغوية التي لا تنفصل عن كثافة المادة القصصية، لا تنفصل ايضا عن مادة الخبرة الفنية التي تنبع منها، ولا تفرض عليها، وليس في ذلك كله من إمكان للحياد.

هذا النوع من الكثافة ينبع عن سعي دائب ومخلص ومستمر للتضحية بجاذبية مخادعة وسهلة هي جاذبية ما يسمى "البساطة"، وهي في الواقع "خداع البساطة".

هذه الكثافة سعي إلى اكتشاف ومعرفة الثراء الذي يحيط بنا من كل جانب والذي اذا ما نحن اخترنا بساطة التسطيح، وسهولة التناول فكأننا نفقد أنفسنا، ونفقد هذه المادة الغنية التي تجيش حولنا باحتشادات طبقة منها فوق طبقة تمشي بثقل الموجود وعناق له يكاد يكون فادحا.

الاختزال المكثف المتسق والاختيار الدال، في تصوري، هما العلامتان الأساسيتان في العمل الفني.. هذا الاختزال لا يعني سد الباب أو اغلاق الطريق امام ما قد تفرضه الخبرة نفسها من تدفق عارم وانثيال لا تكاد تقف امامه سدود الصنعة، لكن هذا التدفق وهذا الانثيال، هذا الانسياب، هذه العفوية، هذه المرونة التي لا تفترق عن صفات الحياة نفسها، ليست بطبيعة الحال هي الفوضى غير المحكومة. وهو ما أعنيه بالنظام وبالنسق.

التوازن الدقيق بين القانون والحرية، بين النظام والتدفق، ما أسعد الكاتب حين يعثر عليه وحينما يجد نفسه قد وفق إليه!

بالطبع الكثافة تفترض اختيارا من الكاتب لما في الكون وما في الخبرة من كثافة قائمة بديهية لا يمكن إنكارها، ومن احتشاد وتعقد لا يمكن نفيهما. فهل في الكون أو في النفس واقعة بسيطة ساذجة؟

وقائع الحلم والحياة

ان كل وقائع الحياة والحلم أشياء مركبة بطبيعتها.

أريد أن ألمس بسرعة مفاهيم السهولة والبساطة التي سادت النظر النقدي فترة ما عندنا.. بل كانت من عمد النقد في الشعر القديم.. هذه المفاهيم تحتاج إلى إعادة نظر على الأقل: هناك طبعا المقولة النقدية الشائعة: "السهل الممتنع" بمعنى البساطة التي تتأتى عن سيطرة الفنان سيطرة كاملة على مادته بحيث تصل إلى القارىء مصفاة من كل صعوبة وما إلى ذلك، وما إلى غير ذلك، وما يجري في سياق ذلك. إنني أتساءل: هل في هذا المفهوم دعوة إلى التسطيح الآلي، إلى الاستغناء طواعية وباختيار سابق عما في الكون والوجود والخبرة من غنى واحتشاد؟

لا أتمثل قارئي وأنا أكتب، لانه في تصوري ليس مغايرا لي أتمثله أو لا أتمثله، ليس خارجيا، هو في وقت معا أنا. وقارىء أيضا كم مجهول عندي، ليس هو الصفوة، وليس هو الشعب، ولا الجمهور، هذه في ظني تصورات سوسيولوجية بحتة. قارئي احتمال قائم، هنا والآن، وفي غير مكان أو زمان ـ لأنني أظن نفسي أيضا احتمالا يمكن أن أقول عنه هذا ـ وهو أيضا صلة حميمة. أما بالمعايير السوسيولوجية ـ ولها ضرورتها وشرعيتها. في الثقافة المصرية العربية الراهنة التي نعرف صفاتها، تفشي الأمية، مجرد أمية الألف باء، تفشيا مروعا، ومفازع الغيبيات، وسطوة أدوات الإعلام بقيمها المدمرة أو بتدميرها للقيم ـ كيفما شئت ـ فأنا أسأل نفسي: من هو قارئي؟ ولا أعرف. وحتى في أمثل الظروف الثقافية والحضارية ـ وهنا مفارقة في مستويات الإجابة ـ أليس سعيدا ذلك الكاتب الذي يجد قارئا واحدا؟ القارىء الواحد، ببساطة قوة يمكن أن تتضاعف إلى ما لا نهاية، يعني هو احتمال لا نهاية لحدوده، ليس له حدود يمكن حسابها.

التفاصيل داخليا وخارجيا

دون أن أفقد لحظة واحدة اتصالي بالمجسم الواقعي المحدد، وبالمظهر الخارجي للأشياء في كل تعقدها، ومع وصفها بدقة متناهية، فإن الرؤية الروائية عندي في جوهرها جوانية، وعضوية. إن ما يبتعث هنا هو الحياة الداخلية الحميمة على مستوى الحس بل على مستوى الأحشاء وعلى مستوى الإدراك، والنظر العابر العرضي الحلمي، أو أخيرا على مستوى الكابوس الفيزيقي والميتافيزيقي في آن معا.

ومع كل دقة التفاصيل الخارجية فإن كل شيء هنا يدرك في نبضات متراوحة ومتلاحقة، حشد من الإحساسات والتأملات في حركة دائمة، إن ثم واقعا جوهريا ـ أو عدة تجليات لهذا الواقع ـ يوضع موضع تساؤل بلا نهاية، وبلا خاتمة. ومن خلال فن الكتابة آمل أن يتبدى وأن يتجلى مثل هذا الواقع، ملتبسا دائما، باهرا وساطعا بل يعشي الأبصار أحيانا، وبالغ النصوع في وقت معا. هذا مسعاي، فما أبعده عن حياد مزعوم أو موضوعية مفترضة.

إن الأسلوب والصور سيريالية ومفرطة الواقعية معا حيادية وحميمة معا وتندغم في تماسك، وبتوحد، أكثر بكثير من تجاورها في تكامل متبادل. الحلم واليقظة يتعايشان دون أدنى حاجز ممكن، والملموس المجسم والعرضي الزائل يتسمان بالقيمة نفسها ولهما الحق نفسه في الأولوية.

ليست هذه الكتابة كلها حكاية أو قص حنين إلى الماضي، ولانصا يروي ذكريات، إذ إن هناك ثنائية، بل أكثر، هناك استيعاب تام، وتوحد كامل بين الطفل والمراهق والكهل، إنهم هناك جميعا في وقت واحد، معا، وبسحر اللغة المرهف الخفي يوجدون كلهم ـ وغيرهم كثيرون أيضا ـ في الآن نفسه وفي المكان نفسه. لا تتحدد الأشياء عبر نظرة الطفل أو الكهل، بل هي نظرة موحدة متكاملة ومتعالية على الزمن يوجد فيها الخلق الأدبي.

إن الوصف في عملي يسبق السرد، ولكن خيوط حبكة معقدة متشابكة تلتئم تحت ستار وصف يبدو كأنه غاية في ذاته. إن الوصف هنا حدث في ذاته، هو كذلك: انسيابه سحابة في سماء مستعرة، على سبيل المثال، ليس مجرد رمز ولا مجرد علامة، بل يمكن ان يكون دراميا، بمجرد الوصف بقوة اللغة، وبما في الكلمات من طاقة، من تراسل صوتي أو تضاد نغمي.

في هذه العملية المتدفقة من الكتابة منذ "حيطان عالية" عبر "رامة والتنين" وصولا إلى "يقين العطش" أستطيع أن أتصور أن ما انتهيت إليه هو ـ فيما آمل ـ نوع من التوحيد الحميم والاندماج، في التشكيل أو الرؤية معا، بين مستويات من العمل كانت الى حد ما متجاورة وليست متداغمة في قصصي الأولى، حيث كان ثم شق رفيع بين مستوى قد أسميه الحلم أو الداخل الحميم أو الرمز أو ماشئت أن تسميه، ومستوى آخر هو الواقع أو الخارج أو الحبكة المحكية ـ وإن كانت منذ البداية متصورة دائما من موقع داخلي وحميم ـ أظن هذا الشق قد التحم الآن، وانصهرت المستويات جميعا، بدرجات متفاوتة بالضرورة، من التحقق، فالمهم هنا هو التحقق لا درجته، وقد يصدق ذلك أساسا على مدى الانصهار بين مستويات المعرفة والرؤية والتشكيل، وليس فقط على صعيد الفرق بين "الواقع" و"اللا واقع" كما قلت، بل على صعيد التوحيد والتكثيف والتقطير بين أنسقة الخبرة الفنية في تناولها للذات والموضوع، للفرد والمجتمع، للإنسان والكون، للحس والعقل، للحياد الخارجي الظاهري والتورط الداخلي العميق الذي بغيره لا تكون ثم كتابة.

 

إدوار الخراط