مصادفة اليانصيب كأساس للنظام الاجتماعي

مصادفة اليانصيب كأساس للنظام الاجتماعي

ترجمة: خليل كلفت

في قصة "اليانصيب في بابل"، نجد المجازات المنطقية والبلاغية "وفي المقام الأول المفارقة والتناقض اللفظي" والتي تبين حدود العقل في إدراك الشكل الخاص بنظام، تنظم الموقف السردي أيضا. والقصة يسردها صوت صاحبه مجهول ـ وربما كان صوت منفي من بابل، شخص ما ينتمي إلى تلك المدينة لكنه يروي القصة في مكان آخر، شخص ما وضعه الراهن غير موضح في النص. ويعبر راوي القصة عن حنين حاد إلى العالم الذي هجره، أو جرى ترحيله منه: ـ "الآن، بعيدا عن بابل وعاداتها الحبيبة" ـ ويوضح أنه سيشرع في رحلة نحدس أن وجهتها ليست أرض وطنه: "لم يبق أمامي وقت كثير، إنهم يقولون لنا إن السفينة على وشك أن ترفع المرساة". ويشتاق هذا الصوت المجهول الصاحب إلى مايمكن اعتباره حكما وحشيا ولا إنسانيا، وهو حكم أدخله اليانصيب في جميع مجالات العالم المعيش والتجربة المعيشة، ذلك أن اليانصيب، حسب تعبيره، "تكثيف للمصادفة، حقن دوري للكون بالفوضى".

وكما في ناحية من أنحاء العالم تقريبا، بدأ اليانصيب في بابل بوصفه تلك اللعبة التي نعرفها جميعا وفي بداية القرن الحالي في بيونوس آيرس، كانت أوراق اليانصيب تباع في صالونات الحلاقة ولم تكن تحدث إثارة كبرى عند إجراء السحب ومعرفة نتائجه. ويكتب بورخيس: "كانت فضيلتها الأخلاقية معدومة. فهي لم تكن موجهة إلى جميع ملكات الإنسان، بل فقط إلى الأمل". كان اليانصيب يمنح جوائز فقط، وكان المال هو الجائزة الوحيدة. غير أنه في وقت ما في الماضي أعلن شخص ما بعض القرعات غير المواتية: كان الاشتراك في اللعب يعني حينئذ، ليس فقط إمكان كسب المال بل خسارته أيضا، من خلال الغرامات المالية. وسرعان ما وافقت قلة قليلة من الناس على دفعها، وقررت الشركة التي نظمت اليانصيب استبدال الغرامات بالسجن. واختار كل لاعب هذا الشكل الثاني للعقاب. وبمرور الوقت، ومع تعاظم نجاح هذا الشكل للرهان السلبي، بدأت الشركة Company (التي يرد ذكرها دائما بهذه الطريقة، بحرف استهلالي كبير وبلا تفاصيل أخرى) في إدخال أنواع أخرى من القرعات غير المواتية: أضيفت عقوبات بدنية تتميز بأقصى الوحشية، مثل فقدان طرف أو لسان أو عين، إلى إمكان السجن. وسرعان مابدأت الأنواع الجديدة من القرعات تحكم كل نشاط في بابل، وبصورة أكثر جذرية صار من الممكن التمييز بين مانتج عن إجراء عملية سحب ومانتج عن عوامل أخرى. وعلى سبيل المثال، كان لامناص من معاقبة عبدسرق ورقة يانصيب على هذا العمل بإحراق لسانه، غير أن ورقة اليانصيب التي كانت بحوزته كسبت له أيضا نفس العقوبة. وكان من المستحيل حسم مسألة ما إذا كان لسان العبدقد تم إحراقه للسبب الأول "السرقة" أم للسبب الثاني (حظه في لعبة اليانصيب).

هذا الطابع الملتبس للأحداث أسر خيال البابليين، وحققت الثورات الشعبية للجميع الحق في الاشتراك في اليانصيب دون دفع مقابل أوراق اليانصيب، التي تعين منذ ذلك الحين فصاعدا توزيعها بالتساوي.

وقد تأسست الشركة بوصفها الحكومة والسلطة العليا للمدينة. ومن الجلي أنه يمكن النظر إلى هذه المقرطة للحق في المقامرة على أنها تعليق تهكمي على توسيع الحقوق المدنية في المجتمعات الحديثة. كما أن الانقلاب الاجتماعي الذي أتى بالحقوق العامة والحرة في أوراق اليانصيب ـ وهو نوع من ثورة فرنسية تهكمية ـ ضمن أن يكون لأي شخص حر في بابل الحق في الاشتراك فيما كان يعتبر في ذلك الحين الاحتفال المقدس بسحب أوراق اليانصيب، والذي كان يجري مرة كل ستين ليلة، وحدد مصير المشتركين حتى السحب التالي. وحالما تم تنظيم الحياة على هذا النحو صارت الحياة أيضا مقدسة، لأن القدر حكم المدينة علانية. ومع ذلك، لا أحد كان بوسعه أن يحسم مسألة أي أحداث في حياته نشأت من خلال السحب، وأي أحداث كانت نتيجة لسلوكه أو إرادته.

وكانت عمليات السحب معقدة، وكانت تستخدم نظاما من الإمكانات المتعددة، وكثيرا ما ارتكب الحكماء الذين كانوا يجرون عمليات السحب أخطاء. غير أن الشركة دافعت عن عملها بوصفه إدخال المصادفة في نظام العالم، مؤكدة أن "قبول الأخطاء لايعني إنكار المصادفة: إنه يعني إثباتها".

هذا التلخيص الموجز للحبكة يتركنا مع مسألة ماهو نوع المجتمع القصصي الذي يجري وصفه. إنه نظام يوتوبي "إذا اقتنعنا بأن اشتياق الراوي إلى بابل اشتياق صادق"، لكنه نظام يوتوبي يمكن فهمه على أنه ينتج شروطا ديستوبية Dystopian. وكما يتذكر الصوت المجهول الصاحب، كان لليانصيب التأثير المتمثل في إقامة مجتمع. كان في وقت واحد استبداديا وعادلا، لأن المصير الاجتماعي لكل فرد كان يتحدد بالمصادفة، وليس بالميلاد أو الجدارة:

"مثل كل الناس في بابل، كنت حاكم مقاطعة، ومثل الكل، عبداً. وعرفت أيضا السلطة المطلقة، العار، السجن. انظر: إن سبابة يدي اليمنى مفقودة. انظر: من خلال فتحة عباءتي يمكنك أن ترى وشماً قرمزيا على بطني. إنه رمز الحرف الثاني: "بيث". وهذا الحرف يمنحني، في الليالي التي يكتمل فيها القمر بدرا، سلطة على الرجال الذين يحملون رمز حرف "جيميل"، لكنه يخضعني لرجال حرف "الألف".. وخلال إحدى السنوات القمرية تم إعلاني غير مرئي.

ارتفع صياحي ولم يردوا عليّ، سرقت الخبز ولم يقطعوا رأسي. وعرفت مالم يعرف الإغريق: عدم اليقين".

وهذا النظام الديستوبي Dystopian يجري تعزيزه بعدد من المجازات والوسائل الأسلوبية. هناك في المقام الأول التناقض اللفظي، المجاز الذي يمزج عناصر متناقضة، الذي عن طريقه يجري الاعتراض على المعنى أو تعديله بدمجه مع معنى آخر. وفي حالة بابل فإن التناقض اللفظي "الذي يعطي بنية للسرد" يثبت حقيقة أن المجتمع يقوم على أساس المصادفة: النظام يسوده مبدأ الفوضى.

وهذا التناقض اللفظي تعززه مفارقة: في حالته النهائية يتطلب اليانصيب عددا لانهائيا من عمليات السحب في سبيل تحديد الأحداث التي لابد أن تقع خلال فترة محدودة من الزمن. والزمن المطلوب لعمليات السحب ينبغي أن يكون قابلا للقسمة إلى مالانهاية، مثل الزمن المطلوب "في مفارقة زينون الشهيرة" للسلحفاة لكي تكسب سباقها ضد أخيل. والأحداث المفزعة للغاية، تماما مثل الأحداث التي لاعلاقة لها بالموضوع، تحتاج إلى تكاثر عمليات السحب. وإذا كان لابد من قتل شخص ما فلابد من إثبات هذا بعملية سحب. وهناك شخص آخر هو قاتله، وهذا أيضا ينبغي تحديده عن طريق اليانصيب. كما أن ظروف حادث القتل ينبغي أن تجري تسويتها عن طريق عملية سحب، وكذلك الحال فيما يتعلق بالشروط التي تحدد هذه الجريمة، وهكذا دواليك إلى مالانهاية. وهذا التشعب لامتناه كإمكان، ويحتاج إلى فترة زمنية قابلة للقسمة إلى مالانهاية.

وهذان المجازان (التناقض اللفظي لنظام يقوم على المصادفة، ومفارقة القسمة اللانهائية للزمن خلال فترة محددة من الزمن) ينظمان النص وينشئان عالما افتراضيا، مبنيا على أساس لغز فلسفي: المصادفة محتها المصادفة. وحيث يجري عزو كل شيء إلى المصادفة، تغدو المصادفة هي النظام الطبيعي والاجتماعي، حقا إن المصادفة لم تعد مصادفة، بل صارت ضرورة. ويدل هذا بالبداهة على أن جميع محالات الاعتراض على لعبة المصادفة ينبغي أيضا عزوها إلى المصادفة. وهذه القاعدة لاحدود لها وتكرر نفسها داخل نفسها en abime. وقد قدمت بابل تناقضا لفظيا بوصفه نموذج النظام الاجتماعي: التنظيم الكلي للمصادفة، مع إلغاء كل إمكان للإرادة الحرة أو حرية الإرادة.

وليس من الصعب أن نقرأ هذه القصة قراءة مجازية، ليس فقط كتصوير للمصير، بل كتصوير للنزعة الشمولية في الحياة اليومية. واسم Kafka "كافكا" يرد متنكرا في النص: يعلق بورخيس تعليقا جانبيا مؤداه أن البابليين الذين كانت لهم شكاوى ضد الشركة اعتادوا أن يتركوا رسائل في مرحاض مقدس اسمه قافقا (التدوين الصوتي لاسم كافكا في صيغة كلمة عربية).

وكما هو الحال في الكوابيس الكافكاوية فإن نظام العالم لايمكن أن يدركه الخاضعون له، ولايرتاب المرء في شرعية ذلك النظام فقط، بل كذلك في مجرد وجوده. وهذا على جه التحديد هو مايحدسه البعض في بابل: أن الشركة لم توجد قط ولن توجد أبدا. أو أن الشركة، برغم أنها كلية القدرة، تفصل في موضوعات ثانوية فقط وتترك الباقي لمصادفة مختلفة ومجهولة غير مصادفة اليانصيب. وعلى سبيل المثال، كما يكتب بورخيس، لاتملك الشركة تأثيرا إلا في "صياح طائر، في الفوارق الدقيقة بين الصدأ والتراب، في أنصاف أحلام الفجر". أو تنظم (الشركة) عملية سحب غير شخصية لأسباب خفية: "يحكم أحدهم بإلقاء ياقوتة زرقاء تملكها "تابروبانا" في مياه نهر الفرات، ويحكم آخر بفك أسر طائر من فوق سطح برج، وثالث بالقيام في كل قرن بسحب "أو إضافة" حبة رمل من الرمال التي لاتحصى ولاتعد على الشاطىء".

وهذه الافتراضات المهرطقة الأخيرة أكثر ترويعا من إمبراطورية المصادفة، لأن عواقب مثل هذه الأفعال الثانوية بجلاء لايمكن التنبؤ بها أو حسابها.

ومن ناحية أخرى، لا أحد يمكنه أن يحكم على صحة هذه الفرضيات والشائعات. فالشركة لاتقدم سوى تفسيرات ملتبسة بخصوص قوانينها. أما المفكرون المهرطقون فلديهم أفكار لايمكن إثباتها. ومؤسسة النظام الاجتماعي غير قابلة للمعرفة وهي تقع خارج حدود التجربة. على أنه يمكن، وهذا استنتاج أكثر ترويعا، إدراك أن المجتمعات لاتخضع لأي قوانين سوى قانون المصادفة العشوائية.وفي تقديمه، المكتوب في 1941، للطبعة الأولى من الكتاب الذي نشرت فيه هذه القصص، يقول بورخيس إن "قصة اليانصيب في بابل، برغم أنها فانتازية، ليست خالية تماما من توصيل رمز". وفي واحد من أحاديثه الجانبية النموذجية، يوجهنا بورخيس صوب قراءة القصة باعتبارها قصة سياسية. كانت الفاشية في ذروتها، ولم تكن الديمقراطية الأوربية ونظامها الحزبي قادرين على تقديم بديل سياسي لصعود الاستبداد خلال الثلاثينيات. وقد طرح كلا هذين الواقعين مسألة مفتوحة، برغم أن الحرب العالمية بدت حلا عنيفا لمشكلة النزعة التوسعية الفاشية. والمسألة هي: ماهو المجتمع؟ ماهو الشكل الذي يمكن من خلاله توطيد النظام دون استئصال الحرية تماما? هل هناك أي طريقة للجمع بين حرية إرادة الأفراد وتنظيم رشيد للمجتمع؟

وينبغي أن أعترف بأن هذه الأسئلة لاتبدو أسئلة بورخيسية للغاية. ومع ذلك، ومهما يكن ذلك بطريقة غير مباشرة، فإن قصة "اليانصيب في بابل" تتناول هذه الأسئلة، وليس فقط لأنها كانت مطروحة على جدول الأعمال خلال الثلاثينيات. وسأستبعد أي إيحاء بأن بورخيس كان يعمل على أساس أي جدول أعمال عام، برغم أنه كان بالغ الانشغال بالحكم الاستبدادي. غير أن مسألة النظام الاجتماعي يمكن بحثها، على كل حال، من وجهة نظر فلسفية وكذلك أيضا سياسية. وفي التراث العظيم للفكر الغربي شغلت هذه المسألة الفلاسفة والكتاب في واقع الأمر. وهي ماثلة في أساس روايات مثل روبنسون كروزو ورحلات جاليفر ـ وكلتا الراويتين أحبهما بورخيس كثيرا واستشهد بهما كثيرا.

ولأن المجتمع ليس واقعا طبيعيا فإنه يقدم مشكلات تتعلق بالنواة المركزية للفكر الفلسفي. وتشمل موضوعات البحث هذه تعريف الذات، والقيود الضرورية الموضوعة على العلاقة بين الأفراد الذين يختارون أن يعيشوا في إطار نظام اجتماعي، والصراع بين الحرية والواجب، والبعد الأخلاقي للسياسة، والأساس الأخلاقي للمؤسسات الاجتماعية.

وقصة "اليانصيب في بابل" (وكذلك قصة "مكتبة بابل" برغم أنها ميتافيزيقية بوضوح أكثر) يمكن قراءتهما ليس فقط كقصتين فلسفيتين بل كذلك كقصتين سياسيتين ـ فلسفيتين. وكما رأينا في حالة "تيلون، أوكبار، أوربيس تيرتيوس" فإن هذا لايعني أنهما تناقشان مشكلة فلسفية بطريقة منهجية، بل يعني بالأحرى أنهما تقدمان هذه المشكلة الفلسفية في سياق موقف سردي. والحقيقة أن الفلسفة السياسية لايمكن تعلمها من بورخيس. لكنه يبتكر حقا حبكات يجري فيها التصدي لمسألة فلسفية عن طريق وسائل ومعالجات قصصية. ولا إجابة هناك على السؤال. ومانلقاه، بدلاً من ذلك، هو التطوير الأدبي للمشكلة في شكل حبكة مبنية حول افتراضات قصصية تصف نظاما يوتوبياً ـ أو ديستوبياً، في الحقيقة.

 

بياتريس سارلو