نقمة ثورة المعلومات

نقمة ثورة المعلومات

أصبحت قضية مخاطر التكنولوجيا ومزاياها إحدى القضايا التي تعنى بها المجتمعات المتقدمة حاليا, ومنها ما رصدته المجلات الأمريكية التي تعنى بشئون المستقبل, وقد أبرز النقاش وجود فريقين إزاء آثار تكنولوجيا المعلومات أحدهما يرى أنها أثرت بشكل سلبي على عدة زوايا منها:

ـ أن التزايد المعرفي والمعلوماتي لم تصاحبه مساواة اجتماعية ومعرفية سواء داخل الدولة الواحدة أو بين الدول, فقد خلق فجوة معرفية بين الدول وبين الفئات الاجتماعية, حتى قيل إن العالم مهدد بنوع من الأبرتهايد المعلوماتي, فهناك المنتفعون بقوة المعلومات وهناك الأميون في هذا المجال, المعرضون للتهميش بسبب عدم توافر البناء التحتي اللازم لإلحاقهم بهذه الثورة ومع انتشار ما يسمى بالواقع الافتراضي Virtual Reality أي واقع هو من صنع الخيال ولا أساس لوجوده في الواقع الحقيقي, فبوسع المنتفعين بهذه الثورة أن يتلاعبوا مع الصور, وبالتالي مع الحقائق وأن يصطنعوا صورا للواقع لا وجود لها, مما يمكنهم من التلاعب بمقدرات عالم المهمشين الأميين الملفوظين من عالم ثورة المعلومات, وهذا أمر من شأنه الإساءة أخلاقيا وأدبيا وحضاريا إلى المنتفعين بهذه الثورة, وإلى المهمشين العاجزين عن مواكبتها على حد سواء.

وتستمر قائمة السلبيات فيضيف أصحابها:

ـ أن ثورة المعلومات لم تؤد إلى تحقيق نوعية جيدة من الحياة للبشر, فهي تسرع من خطى الحياة بشكل يجعل المرء يلهث وراءها, من دون جدوى حقيقية, كما قلصت من الوقت المتوافر لهم لكي يستمتعوا بها ويتفقهوا في كنهها.

ـ أن ثورة المعلومات تقضي على خصوصية الأفراد وحقهم في الحفاظ على حرماتهم وأسرارهم الخاصة, فقواعد المعلومات المرتبط بعضها بالبعض الآخر والتي تحتوي على أسماء الأفراد وعناوينهم ووظائفهم وحالتهم الاجتماعية والصحية بل ونوعية مشترياتهم ـ عن طريق التزايد في استخدام الكروت الائتمانية والممغنطة وغيرها ـ يهدد مستقبلهم وقد يعرضهم لمخاطر لم تكن في حسبانهم, ومن المتوقع أن تزداد قدرة الآخرين على رصد تحركاتنا, بل إن إحدى الشركات الأمريكية أعلنت أخيرا استعدادها لإطلاق قمر اصطناعي للتجسس الشخصي, حيث يمكن للفرد العادي دفع مقابل مالي معين ليرصد تحركات ومواقع شخص آخر. كما أن ثورة المعلومات تغزو من ناحية أخرى خصوصية ثقافة المجتمعات, وتهدد ذاتيتها الثقافية, وهي مشكلة ليس لها حل سوى العمل على التقليل من آثارها.

ـ أن ثورة المعلومات لم تحقق شيئا يذكر لدعم الديمقراطية, على الأقل حتى الآن, فبالرغم من الوعود بدعم عمليات المشاركة الجماهيرية من خلال الوسائل الإلكترونية التي تحقق الفورية والتفاعلية والحوارية, وما يقال عن الاجتماعات الإلكترونية للمدينة أو القرية من خلال شبكات الاتصال, لم يحدث شيء ذو بال حتى الآن, وتشير الاستطلاعات التي أجريت في بعض المجتمعات التي يطلق عليها مجتمعات المعلومات, إلى أن 33% من المراهقين لم يكن بمقدورهم تحديد أسماء ممثليهم في المجالس التشريعية, حتى قيل إنه كلما زاد المجتمع تعقيدا, ابتعد الناس أكثر عن السياسة وفضلوا عليها الترفية الإلكتروني.

ـ أن ثورة المعلومات ألحقت تدميرا فادحا بموارد البيئة الطبيعية, ليس أقلها ما تحدثه صناعة الكمبيوترات من ملوثات, كما أنه على النقيض من القول بأن الإلكترونيات سوف تقلل من الورق, فإن الطلب على الورق يزداد.

- أن ثورة المعلومات قلصت كم الوظائف المتاحة, ومن المتوقع أن يزداد هذا التقلص في المستقبل, مع إحلال الإنسان الآلي والكمبيوتر محل الكثير من الوظائف, فمنذ عام 1978 فقد 43 مليون فرد وظائفهم في أمريكا, كما تغير مفهوم الوظيفة التي تستمر مدى حياة الفرد, وحتى في بعض الوظائف التي يشعر البعض بأنها آمنة فإنه يوجد ما يسمى "خبير أنظمة" وعمله يتمثل في الحد من الوظائف, ومن ناحية أخرى خلقت ثورة المعلومات ما يسمى بالاقتصاد الاصطناعي.

ـ أن ثورة المعلومات تمثل تهديدا للأمن القومي للمجتمعات, فمثلما نستطيع أن نشن حروبا معلوماتية وحملات دعائية, فإننا في نفس الوقت عرضة لمثل هذه النوعية من الحروب والإرهاب المعلوماتي, بفعل السموات المعرفية والمعلوماتية المفتوحة, والعولمة التلفزيونية. فقد أصبح العالم قرية صغيرة تكاد معلوماتها تكون على المشاع ما لم تتوافر إمكانات فاعلة لصيانتها من الاختراق.

ـ أن ثورة المعلومات قد أتت بآثار سيئة على النظام والقانون, فجرائم الكمبيوتر تلحق خسائر فادحة بأصحاب الأعمال والحكومة, كما زادت ظاهرة التجسس التجاري والاقتصادي بين الشركات والدول, ففي العامين الماضيين نشبت مشكلة بين الولايات المتحدة وكندا من جانب والصين من جانب آخر عندما قامت الأخيرة بنقل تكنولوجيا لصناعة الإلكترونيات وأشرطة التسجيل وصنعتها لتبيعها في أسواق هاتين الدولتين بثلث أسعار منتجاتها المماثلة, ومع زيادة المنافسة العالمية ستزداد دوافع التجسس التجاري حدة بعد بدء تنفيذ الاتفاقية العامة للتعرفة والتجارة "الجات" واكتمال آليات تنفيذها بالنسبة للدول النامية بحلول عام 2002.

ـ أن ثورة المعلومات تلقي بظلال كئيبة على المستقبل, فالواقع الراهن يشير إلى تراجع في (كم وكيف) التفكير المستقبلي, حيث قللت هذه الثورة من إثارة المستقبل وعجائبه, وجعلت من الصعوبة التنبؤ بصور المستقبل, أو التفكير فيه بطريقة منظمة. وأفرزت نوعيات من البشر تريد أن تخرج من حلقة الدوران السريع للحياة.

ـ أن أهم جانب سلبي لثورة المعلومات هو أن الحصول على معلومات كثيرة يضر برءوس البشر, فهي تنتج تخمة معرفية ومعلوماتية, وهي ليست مشكلة إحصائية, فقد قدرت موسوعة المستقبل Encyclopedia of the Future أن المعلومات العلمية المتاحة للبشر تتضاعف كل 12 سنة, وأن المعلومات العامة تتضاعف كل سنتين ونصف السنة وهو ما يعني وجود تراكم معلوماتي ومعرفي, يفرز ضغوطا نفسية وعصبية, مما يقلل في المقابل من الانتاجية في العمل ومن التركيز في أماكن الدراسة والبحث, كما يلاحظ أن التخمة المعلوماتية المتوافرة هي أقرب للترفية والاستغلال التجاري منها إلى المعلومات المفيدة التي تقود حركة المجتمع والأفراد, كما قللت هذه التخمة من القيمة الذاتية للمعلومة, في عصر يغلب على ثقافته قلة الحاسة النقدية والتحليلية والمعارضة والميل إلى التوفيقية.

ـ أن ثورة المعلومات وما أفرزته من سرعة في نشر الأخبار يشكل أحد الجوانب السلبية من وجهة نظر الحكومات, فقد أدى التطور الكبير في وسائل الاتصال إلى جعل الناس يعرفون الأخبار الجديدة بسرعة شديدة, وخاصة أخبار الأزمات الخطيرة أو الموضوعات ذات الحساسية, ويؤدي ذلك إلى ممارسة ضغوط على الحكومة من أجل سرعة حل هذه الأزمات في حين يحتاج المسئولون الحكوميون إلى وقت كاف لدراسة هذه المشكلات, ووضع البدائل والتخطيط, وكانت الحكومات في السابق تتخذ قراراتها من دون ضغوط من الرأي العام, نتيجة بطء معرفة الرأي العام للأخبار ذات الحساسية.

ـ أن ثورة المعلومات قد زادت وضعية قضية حقوق النشر سوءا, فقد أتاحت الأقمار الصناعية ونظم الكابل إمكان التقاط برامج التلفزيون من محطات أخرى تبعد آلاف الأميال, وتسجيل هذه البرامج, وبيعها من دون موافقة, كذلك انتشرت آلات التصوير التي تطبع آلاف النسخ من الكتب دون الحصول على موافقة المؤلف أو الناشر على حقوق النشر, وينطبق نفس الشيء على برامج الراديو والتلفزيون وأفلام السينما مما يهدد نظام حق النشر, وحماية المؤلفين.

أن لتكنولوجيا المعلومات وجها خطيرا في عالم التجسس, فبعد انتهاء الحرب الباردة وتغير أساليب الصراع الدولي, وغلبة الصراع التكنولوجي والتجاري والاقتصادي على الصراع العسكري تغيرت أولويات التجسس بين الدول, فتنازل التجسس العسكري والسياسي عن عرش الأولوية, وحل محله التجسس التكنولوجي والتجاري, وظهرت صور أخرى للتجسس, كما أصبح بمقدور هواة أو مبتدئين, اختراق برامج وفك شفرات والاستحواذ على معلومات سرية. كما أثبتت الأقمار الصناعية فاعليتها في التجسس الفضائي لجمع المعلومات العسكرية والتكنولوجية والتجارية, حتى أصبحت أقمار التجسس منافسة لطائرات التجسس العسكرية في دقة التصوير ووضوح الصور, وأصبح تسويق هذه الأقمار تجاريا على مدى واسع أمرا واقعا ومرشحا للتزايد خلال السنوات القليلة القادمة.

مع وضد

ولكن هل ثورة المعلومات ذات سلبيات فقط? الاجابة بالقطع لا, فنحن الآن نتمتع بفضائلها وإنجازاتها في مجالات عديدة, في التعليم, الطب, الاتصالات, الفضاء, الإعلام, الترفية.. إلخ. ويقول المناصرون لها إنها أفرزت ظاهرة العولمة أو الكونية, كما أدت إلى اختزال المسافات, وساعدت في تحرير الإنسان من قيود حجمه وإيقاع زمنه, وأنها مفيدة للبيئة, فالأقمار الصناعية وخرائطها مثلا تساعد في التنقيب عن الثروات المعدنية وتحديد حالة واتجاهات الطقس, مما يفيد في جدولة عمليات الطيران والسياحة, كما تفيد في مجال الزراعة, وفي تحديد حالة المحاصيل والتنبؤ بإنتاجية الأراضي المزروعة وتقدير حجم المعروض من المحاصيل, مما يفيد بالتالي في قرارات التسعير والتسويق عموما, كما تفيد هذه الأقمار الصناعية في أغراض المساحة المدنية والعسكرية وتخطيط المدن والمناطق السياحية, ومن ناحية أخرى فقد افرزت تكنولوجيا معلومات الإنتاج فيضا من تصميمات المصانع والسلع والعمليات الإنتاجية الأكثر رشاقة وكفاءة, كما استخدمت تكنولوجيا معلومات التسويق, طرق البيع الإلكتروني للسلع والخدمات, مما غير وسيغير شكل وأداء المتاجر الحديثة, وسيخفض تكلفة التسويق.

ويضيف المدافعون عن فوائد ثورة المعلومات أن المجتمعات الصناعية نجحت في تسخير التكنولوجيا لخدمة مجتمعاتها, كما منحت القوة والمكانة لأناس عديدين, وحققت فوائد كثيرة للجمهور, فلم يعودوا متلقين سلبيين, حيث أصبح لهم دور إيجابي وموثر, من خلال عمليات الانتقاء والاختيار, والتي تمكنهم من التكيف مع انفجار المعلومات والسيطرة عليه, كماً وكيفاً.

ويتوقع هؤلاء أن تلعب المعلومات دورا مهما في تاريخ العالم مثلما لعبت قوة العمل والحجر والبرونز والأرض والمعادن والطاقة, ويرون أنه لكي نواجه المستقبل فإننا لا يمكن أن نظل نستخدم نفس المفاهيم التي كانت تستخدم في المجتمع الصناعي, وأن المعلومات تعد موردا فريدا في حد ذاتها, فهي تتسع وتتزايد بكثرة استخدامها, كما أنها لا تنضب, وهي أقل جوعا وتعطشا من الموارد الاخرى, وهي قابلة للنقل والتسرب والتشارك, وكلما زادت تقنية المعلومات قلت الحاجة للطاقة والمواد الخام, فالمعلومات تستطيع أن تحل محل العمل ورأس المال.

وأخيرا فإذا اتفقنا أن لثورة المعلومات إيجابيات وسلبيات, فقد يظل يوجد خلاف بيننا حول الحجم النسبي لكل من الإيجابيات والسلبيات, وأيهما يفوق الآخر, مع الاخذ في الاعتبار عامل الوقت ـ الآن وفي المستقبل ـ في تقدير قيمة هذا الحجم النسبي لكليهما, ولكن يظل مطلوبا أيضا إجراء تحليل نقدي عميق لآثار ثورة المعلومات من أجل مستقبل افضل.

 

السيد بخيت محمد