الحكيم فيليب سالم وحسن م. يوسف

الحكيم فيليب سالم وحسن م. يوسف

يعتبر الحكيم فيليب سالم أحد أبرز الأطباء المعالجين لمرض السرطان في العالم، إن لم يكن أبرزهم على الاطلاق. كما يعتبر من أهم العلماء الباحثين في مجال أدوية السرطان، فهو أول من عمل على تطوير دواء السيسبلاتين Cis-platinum وتحديثه وجعله سليما وصالحا للاستعمال بحيث بات يستعمل في معالجة أكثر من 40% من الامراض السرطانية. والحكيم فيليب سالم يشغل حاليا منصب مدير برنامج البحوث السرطانية في مستشفى سانت لوك في مدينة هيوستن الامريكية. ويشغل كرسي الأستاذية في كلية الطب بجامعة تكساس. وله مركز خاص لمعالجة السرطان، يحمل اسمه، في مدينة هيوستن، كما أنه أحد المستشارين الصحيين للرئيس الأمريكي كلينتون ومن قبله كان مستشاراً للرئيس جورج بوش. تخرج د. فيليب سالم من كلية الطب، في الجامعة الامريكية في بيروت عام ،1965 وبدأ معركته مع السرطان في يوليو عام 1968. شغل منصب رئيس جمعية السرطان اللبنانية في الفترة ما بين 1972 و،1986 كما شغل منصب رئيس اتحاد مراكز السرطان في الشرق الأوسط منذ 1975 وحتى ،1985 وخلال تلك الفترة اعلن بجرأة: "أن السرطان ليس مرضا قابلا للعلاج وحسب، بل هو مرض قابل للشفاء أيضا". وقد كافح في الاوساط الطبية، من أجل نشر هذه المقولة حتى باتت الآن من المسلمات الشائعة. وقد توصل من خلال البحث، إلى أن التهابات المعدة والجهاز الهضمي يمكن ان تتحول إلى سرطان إذا لم تتم معالجتها. كما توصل إلى أن السرطان يبدأ كمرض حميد ثم يتحول إلى مرض خبيث مع مرور الزمن، وأن ذلك النوع من السرطان يمكن الشفاء منه في طوره الأول عن طريق العلاج بالمضادات الحيوية. في ذروة الحرب الأهلية اللبنانية ـ يناير 1987 ـ هاجر الحكيم فيليب سالم إلى الولايات المتحدة الأمريكية حيث توالت نجاحاته دون توقف. في عام 1993 حصل على ميدالية الشرف الذهبية من الاتحاد الاوربي للبحث العلمي "لإسهاماته الأساسية في دراسة وفهم الأورام اللمفاوية التي تصيب المعدة والجهاز الهضمي في منطقة الشرق الأوسط" وهذه الجائزة هي أعلى تقدير يمكن أن تمنحه الجمعية، وقد كان الدكتور سالم أول باحث علمي يفوز بها من خارج أوربا. في شهر أكتوبر 1993 كرمه مشفى ست جود للبحوث السرطانية، الذي يعتبر أهم معهد بحوث لسرطانات الاطفال في العالم، "لما قدمه لبحوث السرطان وللإنسانية". وفي الحادي عشر من أغسطس 1994 منح ميدالية الحرية التي تعتبر أعظم شرف يستطيع الأعضاء الجمهوريون في مجلس الشيوخ الأمريكي منحه. وقد سبق أن منحت هذه الميدالية لكل من الرئيس رونالد ريغان والسيدة مارغريت تاتشر والمخرج السينمائي شارلتون هيستون.وللدكتور سالم نشاطه الفكري والعلمي أيضاً فهو ينشر مقالاته في الصحف والمجلات العربية، كما أنه عضو في هيئة تحرير العديد من المجلات الطبية التي تصدر داخل أمريكا وخارجها. ومنها مجلة ( Anti Cancer Drugs ) و( Annals Of Oncology ). وقد نظم وشارك في اكثر من 300 مؤتمر للمعالجة السرطانية في لبنان والشرق الاوسط. وهنا يحاوره حسن م. يوسف الكاتب والصحفي من سوريا:

الآن، كيف ترى السرطان، بعد كل هذا العمر من الصراع ضده؟

ـ السرطان هو العدو الذي أخوض في كل يوم معركة معه، منذ سبعة وعشرين عاما وأنا أخوض معركة يومية مع السرطان. وهي ليست بالمعركة البسيطة على الإطلاق، لأنها تستمر في داخلي حتى اثناء النوم.

مشكلتي الكبيرة، بل ألمي الكبير هو أنني عندما أعالج إنسانا وأحارب السرطان الذي يحاول أن يقتله، أتعلق بذلك الإنسان، ويحل جزء مني فيه، فإذا ما خسر المريض المعركة ومات، يموت جزء مني معه! هذا هو الثمن الذي أدفعه للسرطان يوميا. لكنني عندما أحقق نجاحا وأتمكن من إنقاذ مريضي، وهذا يحصل كثيرا، أشعر بفرح لا أستطيع وصفه بالكلام، فالأشياء الكبيرة في الحياة من الصعب وضعها في كلمات.

إلى أي حد تؤثر برأيك العلاقة الإنسانية بين مريض السرطان وطبيبه في جدوى العلاج؟

ـ السرطان مشكلتان: المشكلة الأولى بيولوجية بحتة، والمشكلة الثانية إنسانية ـ وهذا الأمر لا يفهمه الغرب ـ فعندما يهجم المرض على إنسان ما، يريد قتله، تنشأ عند المريض، أزمة نفسية ومشكلة فلسفية وجودية. الإنسان ليس مجرد جسد! لذا لا أكتفي بمعالجة المرض بل أعالج ما هو أهم من المرض.. أعالج أزمة الإنسان المريض! وإذا لم أعالج أزمة الإنسان فسيكون من الصعب علي معالجة المرض. ولهذا أفضل كلمة "حكيم" على كلمة طبيب، لأن هذه المفردة أكثر دلالة، فدوري كحكيم لا يتحدد بإعطاء الدواء ومعالجة الأزمة البيولوجية وحسب، بل يشمل معالجة الأزمة الإنسانية أيضاً، والطبيب غير المهيأ لمعالجة الأزمة الإنسانية لا يستطيع أن يكون طبيبا ناجحاً في مجال معالجة السرطان.

تعادل مع المرض

ما نسبة النجاح الذي حققه الإنسان في حربه ضد السرطان!؟

ـ الآن، نستطيع أن نشفي 50% من حالات السرطان، وهذا يعني أن الإنسان قد تمكن من إحراز التعادل مع هذا المرض. لكن إحساس الإنسان بالألم غالبا ما يكون أكثر من الفرح. خمسون بالمئة من الحالات تؤلمني كثيرا وخمسون بالمئة من الحالات تفرحني كثيراً. لذا أستطيع القول إن كل يوم عشته خلال السنوات التي أمضيتها في مصارعة السرطان كان أوقيانوساً من أمواج الحزن والفرح المتقلبة. ففي نفس النهار أنتقل من غرفة مريض أستطيع أن أراه في آخر الطريق، وقد شفي تماماً، إلى غرفة مريض آخر لا أستطيع أن أشفيه. هذا التقلب اليومي.. هذه الأمواج الهدارة من الفرح والحزن هي حياتي الحقيقية.

هل لك أن تشرح لنا ببساطة، كيف يصاب الإنسان بالسرطان!؟

ـ في حالة الصحة، ثمة شيء في الرأس يقول للخلايا تكاثري، فتتكاثر! توقفي فتتوقف! أي يوجد مكابح توقف نمو الخلايا. أما في حالة السرطان فينعدم وجود المكابح. إذ تبدأ الخلايا بالتكاثر بشكل فوضوي، والخلايا السرطانية لا تكون سليمة لأنها لا تنتج الإفرازات الطبيعية التي يحتاج إليها الجسم ليعيش، بل الإفرازات التي تمكنها هي من العيش على حساب الجسم!

وأهم خطر في السرطان عندما يكبر الورم هو أن قسماً من خلاياه الخبيثة يذهب إلى مناطق أخرى في الجسم ويبني لنفسه مستعمرات هناك. وهذا ما أسميه الاستعمار البيولوجي. قد يكون المرض في الجيوب الأنفية ثم ينتقل إلى الكبد، حيث يكبر فيه ويبدأ بقتله!

وصفت يومك بأنه محيط متقلب من أمواج الحزن والفرح، كيف يؤثر عملك كطبيب في عالمك الداخلي وفي نظرتك للكون؟

ـ لقد كشف لي صراعي اليومي ضد السرطان أن الناس جميعاً يتساوون في المرض، كما كشف لي أيضاً أن المرض يجعل الإنسان أكثر طهراً مما يكون عليه في حياته العادية. ففي الصحة يكون الإنسان متسخاً، وعليه الكثير من الغبار. يريد الزعامة والمجد والمال والنفوذ.. يريد أن يقتل وأن يبطش وأن ينبسط وأن يعمل كل ما يشتهي، لكنه عندما يواجه حكم السرطان، ويتنبه لإمكانية الموت، عندها يرجع إلى أعماقه ويبدأ طرح الأسئلة الحقيقية عن معنى الحياة والوجود. أنا أستغرب كيف يمكن لأي طبيب أن يمر بكل هذه الأمور كل يوم ولا يصبح إنساناً نبيلاً! أنا أستغرب كيف يمكن لأي إنسان أن يرى الموت كل يوم، والمرض كل يوم، والصراع الكبير من أجل الحياة كل يوم، وأن يشهد كل هذا التفلسف حول الحياة ومعناها، ويبقى بعد ذلك كله إنساناً صغيراً! إنني أتعجب من ذلك! خاصة أن الكثير من الأطباء يتوقفون عند المعنى التقني للمهنة فقط. فعندما يجدون قرحة يقررون استئصال تلك القرحة "لإصلاح جسم المريض" لكن الواحد منهم لا يتعلم من تلك التجربة كإنسان!

وأنا أعتقد أن ما تعلمته في حياتي من المرضى أهم بمليون مرة من كل ما قرأته في الكتب! فكل قراءاتي تبدو تافهة أمام إنسان يواجه الموت وهو يبتسم!

البحث عن الحقيقة

أنت لست مجرد طبيب معالج للسرطان، فلك إسهامات مهمة في مجال البحث العلمي، كيف تنظر إلى العلاقة بين الباحث العلمي والطبيب المعالج؟

ـ هدفي من الأبحاث التي أقوم بها ليس هو الوصول إلى الحقيقة وحسب، بل عملية البحث العلمي بحد ذاتها، فالبحث عن الحقيقة، يصنع عقلاً جديداً.. البحث يجعل العقل أطرى، ويجعل الرؤية أكثر شمولاً واتساعاً. العقل الذي لا يمارس البحث العلمي كل يوم، يكون عقلاً جامداً ومدعياً. وأنا أستطيع أن أميز الطبيب الذي يمارس البحث العلمي عن الطبيب الذي لا يمارسه فوراً، فالطبيب الذي لا يمارس البحث العلمي يعتقد أنه يعرف كل شيء، ويكون مدعياً ومتعالياً! أما الطبيب الذي يقوم بالبحث العلمي فيكون خلاف ذلك، لأنه تعلم من خلال صراعه اليومي من أجل الحقيقة أشياء بالغة الأهمية.. تعلم أن الجهل ليس عيبا وأنه يستطيع أن يجاهر بوجود أشياء لا يعرفها.. تعلم أن قول الحقيقة أمر مهم.. تعلم أيضاً كيف يصغي لك وكيف يستمع لرأيك ويأخذه بعين الاعتبار. الإصغاء..! الإصغاء، برأيي، هو أحد أهم الأشياء التي نفتقدها في الشرق. فالإصغاء للآخر يحتاج إلى عقل باحث. أن تصغي لمن يحمل رأيا مختلفا عن رأيك.. أن تستمع إليه دون أن تنزعج لأنه يخالفك في الرأي، وأن تنسق الأفكار الناتجة عن الحوار الدائر بينكما، ذلك أمر من شأنه أن يجعل عقلك قادراً على استيعاب أمور كثيرة، وقادراً على أن يتطور في المستقبل.

العلم والإنسانيات

يعتقد معظم الناس أن ثمة تناقضا بين العلوم التطبيقية والإنسانيات، غير أني لا أرى الأمر كذلك، فيوسف ادريس وعبدالسلام العجيلي وأنطون تشيكوف جاءوا إلى الأدب من الطب، ما مدى أهمية الإنسانيات للعلم، وما مدى حضور الأديب داخل العالم فيليب سالم؟

ـ هذا سؤال مهم جداً.. منذ مدة كنت أحكي لأحد الأصدقاء أنهم في صف البكالوريا كانوا يلقنوننا مقولة مفادها: أن الأدب يبدأ حيث ينتهي العلم. وهذه مقولة خاطئة إلى حد كبير، لأن المعرفة والعلم يتداخلان مع الإنسانيات. وليست هناك حياة أغنى من حياة الطبيب من الناحية الإنسانية! تولستوي، عندما كان يكتب القصص كان يتخيلها أما أنا فأعيشها وألمسها. وما حدث معي خلال حياتي أستطيع أن أكتب عنه طوال عشرين سنة. ما عشته كان مهماً جداً وقد هزني وغيرني كإنسان. أعتقد أنه لا يوجد أي تضارب بين المعرفة والإنسانيات، بل ثمة تداخل هائل بينهما. وأنا أقول إنه ليس من شأن الإنسانيات أن تجعل منك عالماً أفضل وحسب، بل من شأنها أن تجعل منك إنساناً أفضل. لهذا أركز في محاضراتي حول التقدم العلمي والتكنولوجي أقول، إذا كانت هناك ضرورة للتركيز على الروحانيات والإنسانيات في الماضي، فإن هذه الضرورة هي الآن أشد منها في أي وقت مضى، لأن التطور التكنولوجي وضع بين يدي إنسان هذا العصر مادة أخطر من المادة التي كانت بين يدي إنسان العصور السابقة وإذا لم يكن الإنسان المعاصر أخلاقيا فمن شأنه أن يستعمل هذه التكنولوجيا لتهديم غيره. في القديم عندما كان الناس يتقاتلون كانوا يضربون بعضهم بعضا بالعصي، فلا يؤذون بعضهم كثيراً، أما في أيامنا هذه فالوضع بات مختلفاً. لقد بدأت الحرب في لبنان بإشهار المسدسات وانتهت بإشهار المدافع!

التقدم التكنولوجي، إذا لم يرافقه تقدم إنساني، يشكل خطراً على الحياة. لقد صنع الإنسان القنبلة النيوترونية وإذا لم يكن هناك توازن روحاني وفلسفي لدى من يتحكم بهذا السلاح فمن الممكن أن يفني نفسه ويفني الآخرين! لأنه لا يملك القيم الروحية التي تمكنه من ضبط التكنولوجيا! وقد أكدت هذه الفكرة في الكلمة التي ألقيتها أمام الكونغرس الأمريكي، عندما منحت "ميدالية الحرية" في مايو 1994. قلت: لا يمكن لدولة عظمى أن تبني سياستها الخارجية على مصالح عسكرية أو اقتصادية أو تكنولوجية، أو أي نوع من المصالح الإنسانية، دون الوقوف عند الاعتبارات الأخلاقية، فهذا يشكل خطراً على الإنسان! ففي ظل عدم وجود قوة عظمى أخرى، يمكن أن يأتي رئيس جمهورية ويخرب العالم إذا كان يفتقد القيم الخلقية!

النزول إلى الأعماق

إلى أي حد تعتقد أن الإنسان قد تمكن من معرفة نفسه؟

ـ الإنسان برأيي كائن غير معروف حتى الآن. صحيح أن كلا منا يدعي أنه يعرف نفسه، لكن الامر بخلاف ذلك. الفرنسي بيير تايير دو شاردان في كتابه "منتصف السطر" يقول: أردت أن أكتشف نفسي فحملت مشعلا ونزلت نحو الأعماق، إلى أن وصلت أخيراً إلى أماكن لم أعد أرى فيها شيئا. وهو يريد أن يقول من خلال ذلك أنه ثمة أشياء كثيرة في نفس الإنسان يجهلها هو ذاته.

وعندما تتساءل من أنت؟ وتفكر مليا بالسؤال، قد يأتي وقت تضيع فيه. قد تظن، سطحياً، أنك تعرف نفسك ومن تكون. لكنك في الواقع لا تعرف نفسك ولا تملك مصيرك، لأنك في بعض الأحيان تقوم بتصرفات أنت لا تريدها. ثمة أشياء في نفسك ليست ملكك! الإنسان لايزال عالماً مجهولاً وجهلنا بماهية الإنسان لا يقل عن جهلنا بالفضاء الكوني! ومن يدع أنه يعرف نفسه ويفهم كل شيء عن الإنسان، فهو في الواقع لا يفهم شيئاً ولم يحاول أن يفهم الأشياء العميقة في الإنسان.. كيف يحب الإنسان ولماذا يحب.. لماذا تموت حباً بهذا الشخص وتكون مستعداً أن تذهب إلى الموت معه، ولماذا تكره ذاك!؟ إن أمور الحب والكره والتصور والفلسفة والطموح.. كلها أمور عميقة نحن لا نلم بتفاصيلها ولا نعرف عنها إلا القليل.

تربية جديدة

أنت تركز كثيرا في حديثك على أهمية البحث العلمي.. كيف يمكن إشاعة روح البحث العلمي في بلداننا النامية؟

ـ دون البحث العلمي لا يمكن إحراز أي تقدم. فالعبور إلى الشرق الجديد لا يتم إلا إذا كانت هناك تربية جديدة وفلسفة تربوية جديدة تتخذ من البحث العلمي محوراً لها. البحث العلمي، برأيي، يجب أن يكون أساسا لرؤية جديدة للتربية.. يجب تعويد الطفل على البحث العلمي منذ الصغر، كي يعرف كيف يفتش عن الحقيقة، بدلاً من أن نلقنه إياها. عندما كنا في صف البكالوريا في طرابلس، كان الأستاذ يطلب منا جميعا أن نكتب نفس الكلام الذي كان يمليه علينا. ذات مرة طلب إلينا، أن يكتب كل منا رأيه في المتنبي، فكتبت أن المتنبي شاعر عظيم، لكنني لا أحترمه كرجل، لأنه يمدح من يدفع له. وبما أنني كتبت ما كنت مقتنعا به فقد منعني الأستاذ من الدخول إلى الصف لمدة يومين!

هذا النوع من التربية التلقينية الخاطئة لايزال سائدا عندنا في العالم العربي.

يجب أن نربي أولادنا على حب البحث العلمي منذ البداية، فأنا أؤمن أن جامعاتنا إن لم يكن فيها بحث علمي وحرية أكاديمية في مجال البحث العلمي، سوف تبقى مجرد مدارس بسيطة، لا قيمة لها ولا وجود لها في العالم ولا تأثير لها في مجتمعاتنا كونها لا تستطيع إحداث اي تغيير جذري فيها. وبالتالي سنبقى نحن كعرب غير قادرين على القيام بالقفزة من الشرق القديم إلى الشرق الجديد.

القتل مرتين

متى يحق للطبيب أن يصارح مريض السرطان بأنه لا أمل له؟

ـ هذه المرحلة لا تأتي في رأيي مطلقا. أنا لم أصل يوما إلى مرحلة أقتنع بها مائة بالمائة أن المريض ليس له أمل بالنجاة. لا يجوز للطبيب أن يقطع أمل المريض. لا يجوز للطبيب أن يقتل المريض مرتين! وقطع الأمل يميت المريض مرتين: فهو يموت، عندما يقطع فيه الأمل. وهو يموت ثانية الميتة البيولوجية الطبيعية.

القضية في السرطان ليست الموت، فكل إنسان يموت! القضية في السرطان هي الموت اليومي البطيء، مريض السرطان يموت كل يوم قبل أن يموت الميتة الأخيرة.. المشكلة في السرطان، هو الألم النفسي المخلوط بالرعب الذي يواجهه المريض كل يوم. عندما يموت الإنسان ينتهي، يصبح الألم مشكلة غيره. المشكلة عندما يكون المريض حياً، يصارع الموت واليأس.. اليأس برأيي أسوأ من الموت! لذا أعتقد أنه لا يحق مطلقا للطبيب أن يخطف الأمل من المريض، كما يفعلون في الغرب، خاصة أننا لا نملك المعرفة الكاملة. هناك الكثير من المرضى، كنت أعتقد عندما عالجتهم ان حالتهم ليست قابلة للشفاء، لكنهم شفوا تماماً، ومثل هذه الأمور تحدث لأنه ثمة أمور كثيرة أجهلها.

وأنا أجهل في بعض الأحيان أن الدواء الذي أستعمله يستطيع شفاء المريض ذات مرة كنت مسافراً بالطائرة من لاس فيغاس إلى لوس أنجلوس، فتقدم نحوي شاب وخاطبني بالعربية متسائلا عما اذا كنت قد تذكرته؟ ولما أجبته بالنفي، ذكر لي اسمه فتذكرت أني قد عالجته من السرطان عام ،1971 قال لي إن صورتي عنده في البيت، لكنه سمع من أمه وأبيه، أنني قد قلت لهما عندما عالجته إن مرضه غير قابل للشفاء مع أنه شفي!

قلت له: هذا صحيح فأنا عندما عالجتك عام 1971 لم أكن أعرف أن الدواء الذي سأعطيك إياه سوف يشفيك بالنتيجة. نحن لا نعرف كل شيء! وأنا عندما أقول للمريض إنه ليس هناك أمل، لا أعلم أنه قد يظهر بعد أسبوع دواء جديد قد يتجاوب معه المريض ويشفى شفاء تاماً!

ثمة أمور كثيرة نحن نجهلها. والطبيب الذي يعتقد أنه قابض على المعرفة ويعرف كل شيء ويقول للمريض إنه سوف يعيش شهرين، أو ستة شهور، هو طبيب لا خبرة لديه! فهناك مرضى كثر ظننا أن حالتهم غير قابلة للشفاء لكنهم شفوا! لهذا أقول لطلابي ولمن يعملون معي: لا يوجد في الحياة باب مسدود.

الوراثة والبيئة

حكيم، يلاحظ أن مرضى السرطان يزدادون! والأطباء يؤكدون هذا، هل هذا متصل مباشرة بنمط الحياة الجديدة التي نحياها؟

ـ طبعا! السرطان، وكل مرض، هو كناية عن عدم توازن بين عاملين كبيرين. عامل البيولوجيا والمورثات "الجينات" التي تحمل التراث الصحي للفرد، وعامل البيئة والمحيط. وعندما يكون هناك خلل في العامل البيولوجي الوراثي ثم يضاف إليه خلل في العامل البيئوي، كالتدخين مثلا، يحدث السرطان. قبل خمسمائة سنة لم يكن سرطان الرئة معروفاً لأن التدخين لم يكن معروفا. أما الآن فهو موجود في كل مكان، وإذا ما أخذنا سرطان الثدي مثلا فسنجد أنه منذ عشرين عاما كانت هناك امرأة واحدة من بين كل اثنتي عشرة امرأة تصاب بسرطان الثدي، أما الآن فتصاب امرأة من بين كل تسع نساء. وهذا يعني أن سرطان الثدي في ازدياد، وكذلك سرطان الرئة. في نفس الوقت هناك أنواع أخرى من السرطانات تتناقص، بسبب التفاعل البيئي مع العوامل الوراثية. إن الإنسان أصبح ضحية لأفعاله، ليس على الأرض بل في السماء أيضا، فقد أحدثنا ثقوبا في طبقة الأوزون، مما بات يسمح بدخول الأشعة فوق البنفسجية إلى الأرض وأصابتنا بسرطانات الجلد.

والعالم يواجه اليوم مشكلة كبيرة كتبت عنها مراراً خلال السنوات الماضية، وأسميتها الإرهاب الجديد، وأقصد بذلك رمي النفايات النووية والكيميائية في البلدان النامية، فخلال العرب الباردة صنعت الدول المتقدمة غولاً من الأسلحة الكيميائية والذرية. ونظراً لأن الحرب الباردة انتهت، فهم يحاولون الآن إتلاف تلك الأسلحة والتخلص منها، وبما أن إتلاف هذه المواد بالطرق العلمية المأمونة مكلف جدا، فهم يلجأون، دون رادع من ضمير، لرمي تلك المواد في بلدان العالم الثالث، مستغلين جهل مواطني تلك البلدان بحقوق الإنسان، ولهذا سنرى خلال السنوات العشر القادمة ازدياداً كبيراً للإصابات السرطانية في منطقة الشرق العربي نتيجة رمي هذه النفايات النووية والكيميائية في بلادنا من قبل الغرب. وهذا برأيي يشكل أبشع أشكال الإرهاب! يتحدثون عن الإرهاب عندما يقوم أحدهم بتفجير قنبلة وقتل مئة شخص، لكن الإرهاب الحقيقي برأيي هو القيام بتصدير مواد غذائية ملوثة ونفايات ذرية تؤدي لتشويه أجيال وإصابة شعوب بكاملها بأمراض مستعصية مثل السرطان، هذا هو الإرهاب الحقيقي!.

خرائط للجينات

في الفترة الأخيرة حدثت مستجدات كبيرة في مجال البحث العلمي، أهمها الانتهاء من وضع خريطة جينية للجسد البشري، ما مدى أهمية هذا الإنجاز بالنسبة لك كطبيب وكعالم له باع طويل في مجال بحوث السرطان؟

ـ هذا شيء بالغ الأهمية، لأننا بدأنا نكتشف أن الجينات تشبه برنامجا كومبيوتريا هائلا، فالإنسان يرث الجينات عن أهله مبرمجة وفق نظام وراثي معين كي تعطي صاحبها حياة معينة. فطبيعة الإنسان ونظرته للحياة ورؤيته الفلسفية، وكل الأمور الأخرى التي لا نستطيع أن نحددها بشكل واضح، ترجع أساسا للجينات. فالشخص السعيد إذا ما بحثت في أسرته فلابد أن تجد ان والده كان كذلك وقد ورث ذلك الجين من والده. وهذا الإنجاز مهم جداً بالنسبة للعلم، فهناك أمراض لها علاقة بجينات معينة. فالنساء اللواتي يصبن بسرطان الثدي مثلاً يحملن جينات مبرمجة تجعلهن على استعداد للاصابة بسرطان الثدي. وعندما نعرف ان امرأة تحمل هذا الاستعداد في جيناتها، يمكن أن نضعها تحت المراقبة، وأن نعالجها فور ظهور السرطان. من هنا فهذا الإنجاز مهم جداً بالنسبة للكشف المبكر عن المرض، ومهم جداً للعلاج أيضاً. وقد يأتي يوم نستطيع فيه أن نستأصل الجينات التي تسبب الأمراض السرطانية ونزرع جينات سليمة محلها، بحيث لا يعود الإنسان مبرمجا للإصابة بالسرطان. إن وضع خريطة جينية للجسد البشري يشكل خطوة بالغة الأهمية، قد تفوق أهميتها التاريخية مبدأ النشوء والتطور الذي وضعه داروين. أي أنها ستشكل، ولاشك، بداية حقبة مهمة في تاريخ العلم!

كيف تتوقع أن ينعكس هذا التطور على عملك كباحث في مجال علوم السرطان وكطبيب معالج؟!

ـ أولا، أود أن أؤكد أن العلم ليست له نهاية، وأهم صفة في الباحث العلمي، هي حضوره الدائم واستعداده لتعلم الأشياء الجديدة وتطبيقها في خدمة الناس والمرضى. وقد رافقت تطور السرطان خلال ربع القرن الأخير وأستطيع القول إننا قد مشينا نصف المسافة لقهر السرطان وأنا أعتقد أننا سنتمكن من قطع بقية المسافة خلال نصف القرن القادم. ووضع الخريطة الجينية هو من الأشياء التي ستساعدنا في التغلب على السرطان.

تطور أدوية السرطان

من المعروف أن أدوية السرطان الشائعة حاليا تهاجم كل الخلايا التي تتكاثر بسرعة ولهذا تؤثر في نقي العظام الذي ينتج الكريات البيض. غير أني قرأت أخيرا، أنه قد تم التوصل لدواء ضد السرطان يعطى للمريض ويتم تفعيله بواسطة أشعة ليزر بحيث إن الدواء لا يؤثر إلا في الخلايا السرطانية فقط! هل يشكل هذا برأيك خطوة نحو دواء ذكي، يؤذي المرض دون أن يؤذي المريض أي يستطيع أن يميز من تلقاء نفسه بين الخلية السليمة والخلية السرطانية؟

ـ هذا هو برأيي التحدي الأساسي في معالجة الأمراض السرطانية. فالأدوية التي نعطيها لمريض السرطان الآن لا تميز كثيرا بين الخلية السليمة والخلية السرطانية، لذلك فهي في بعض الأحيان تقتل الاثنتين معا الأمر الذي غالبا ما تكون له مضاعفاته. والتحدي الكبير هو أن نتقدم بحيث نتمكن من قتل الخلية السرطانية دون أن يؤثر ذلك في الخلية السليمة. صحيح أننا لم ننجح في ذلك بعد، فالدواء الذي تتحدث عنه لايزال في طور الدراسة والتجريب. ونحن حتى الآن لم نصل إلى مرحلة نستطيع فيها أن نعطي المريض مثل هذا الدواء. وقد عملت لسنوات طويلة على شيء أسميته Monoclonal anti body وهو مركز لا تمتصه سوى الخلية السرطانية وقد ركبت دواء على ذلك المركب بحيث لا يدخل الدواء إلا إلى الخلايا السرطانية. لكن هذا كله لايزال في طور الدراسة والتجريب، ولم يدخل طور التطبيق في حياتنا اليومية.

إلى أي حد ازداد الأمل أمام مرضى السرطان خلال العام الماضي؟

ـ خلال العام الماضي، تم التوصل لعشرة أدوية جديدة للسرطان، وهذا يعطيك فكرة عن سرعة وحجم التطور العلمي الذي يجري في هذا المجال. لدينا الآن أدوية تشفي المريض لم تكن موجودة قبل عام واحد. لذا أستطيع القول إن التطور الذي يحصل في مجال أدوية السرطان تطور سريع جداً، وليس هناك تطور آخر يجاريه أو يشابهه في مجال الطب.

ومن التطورات المهمة التي جرت على ساحة معالجة السرطان في منطقتنا العربية إنشاء المؤسسة العربية ـ الأمريكية للسرطان.

ما هو الهدف من هذه الجمعية؟

ـ الهدف منها تضييق الهوة بين أمريكا والعالم العربي في مجال معالجة السرطان والبحث العلمي من خلال دعم برامج السرطان في البلاد العربية ومساعدتها على النمو والتطور. ودعم الأطباء العرب الذين يودون التخصص، ومساعدتهم في العثور على فرص الدراسة وأماكن التدريب في أمريكا. وتشجيع البحث العلمي في الجامعات والمؤسسات العلمية العربية، وخاصة فيما يتعلق بالأمراض التي تفتك بسكان المنطقة، مثل سرطانات الغدد والأجهزة اللمفاوية المنتشرة في المشرق العربي، وسرطان الكبد المنتشر في السعودية والخليج، وسرطان المثانة المنتشر في مصر والعراق وسرطان الجيوب الأنفية المنتشر في شمال إفريقيا، إضافة لدعم الأطباء العرب الذين يقومون بالبحوث العلمية في أمريكا.

أهم من السلام والصلح

ما الذي يمكن أن تقوله للأصحاء من أبناء هذه الأمة المصابة بالسرطان؟

ـ أود أن أقول لأبناء الأمة العربية، انه لدينا تراث مهم جداً ويجب علينا ألا نقامر بهذا التراث من أجل أشياء رنانة وفضفاضة. واليوم أكثر من أي وقت مضى تتبدى ضرورة العمل العربي الموحد والتنسيق في العمل العربي. كما أود أن أنبه العرب كي لا ينخدعوا ويتصوروا أن إسرائيل يمكن أن تكون صديقة حقيقية وشريكا حقيقيا في السلام في يوم من الأيام. إسرائيل ستبقى دائما تعمل لمصلحتها ولمصلحتها فقط، ويجب علينا أن نجعل مصلحتنا هي مصلحتها أيضاً.

غير أني أعتقد أن ثمة سلاما أهم من السلام بين العرب واليهود، هو السلام بين العرب والعلم.

يمكن للمرء ان يلاحظ بسهولة انك تواجه الحياة بالمرونة والحيوية وطمأنينة النفس. ما هو أطرف موقف إنساني مر بك في حياتك المهنية!؟

ـ في سنة 1971 تعرفت على أوناسيس عن طريق صهره، وقد زرته في طريقي إلى لبنان، ونزلت عنده في بيته بسكوربيون. في ذلك الوقت كان الناس يدفعون آلاف الدولارات كي يروا زوجته جاكلين كندي. لكنه هو كان في أتعس أحواله. كنا نشرب القهوة في الشرفة صباحاً، وعندما جاء البستاني، قال لي أوناسيس: أنظر يا فيليب إلى هذا البستاني، إنه ينظر الي صباحا ومساء ويحسدني، وأنا انظر اليه صباحا ومساء وأحسده!

لقد شاهدت أغنى أغنياء العالم وأهم رجال العالم، رأيتهم وهم مرضى.. رأيتهم وهم يموتون فاكتشفت ان المال لا أهمية له إلا أن يحفظ للمرء كرامته عندما يكون في حاجة إليه. المال ليس قيمة إنسانية أو معنوية بحد ذاته. المهم كيف تستعمل المال. فإذا ما جمعت المال واشتريت به السيارات أو المركبات والقصور، ولم يكن لديك قصور محبة في قلوب الناس، فأنت لا تملك شيئاً. لأن الماس ورق يطير. الشيء الوحيد الذي لا يمكن أن تخسره هو فلسفتك لمعنى الحياة. فأنا أعتبر حديثي مع صديقي، سعادة لي، وشيئا له معناه الكبير. أن أخدم صاحبي وجاري وكل من يدق بابي، أمر له معناه الكبير أيضاً. ثروتي الحقيقية هي المحبة التي أكنها للناس والمحبة التي يكنونها لي. أن تحب أنت الناس، فذلك أهم من حبهم لك. الأهم هو عندما تذهب إلى النوم أن تكون متحررا من كل غيرة وحقد، وأن تكون في سلام مع نفسك. لو سألتني عن أكبر نعمة وهبها الله لي، لقلت لك إنها نعمة الصحة ونعمة القدرة على خدمة الآخرين، فمن لا يسعده العطاء، لا يمكن أن يسعده أي شيء مهم في الحياة.

أقول لليائسين

حكيم، ماذا تقول لليائسين من مرضى السرطان؟

ـ أقول لهم لا يوجد باب مسدود، لأنه في كل يوم يظهر دواء جديد، والدواء الذي لا يفيد هذا المريض قد يفيد ذاك! اليأس برأيي أخطر من الموت! ومن واجب الدولة والمجتمع تمكين المرضى من الحصول على العلاج اللازم.

ماذا تقول لأهل المرضى؟

ـ أقول لأهل المريض، هذه مناسبة لكم كي تعطوا مريضكم من أنفسكم. أهم شيء في الحياة برأيي هو العطاء، وأن تعطي من نفسك أهم بكثير من أن تعطي من مالك كما يقول جبران خليل جبران. صحيح أنه من المؤلم أن يكون لدى الإنسان شخص مريض في بيته، لكن المريض يعطينا الفرصة لكي نمارس إنسانيتنا ونعطيه من المحبة والعطف والحنان والخدمة. وهذا هو بالضبط ما يحتاج إليه المريض. كثيرون من المرضى يصلون إلى حالة اليأس بسبب الجو العائلي المحيط بهم. وأنا أود أن أقول لذوي مرضى السرطان: لا شيء أشد إيلاما في الكون من أن يكون المرء في مواجهة الموت وكل من حوله غير عابئين به. ولا شيء أجمل من أن يشعر المريض أن من حوله يحبونه، فهذا من شأنه أن يخفف حدة الألم عنه، كما من شأنه أن يحول دون وقوع المريض في اليأس الذي هو برأيي أسوأ من الموت.

 



 
  




الحكيم فيليب سالم





حسن م . يوسف