التكنولوجيا والمستقبل

التكنولوجيا والمستقبل

عرض: ياسر الفهد

صدر حديثا كتاب باللغة الانجليزية، "التكنولوجيا والمستقبل"، بطبعته السادسة المعدلة والمطورة، عن الجمعية الأمريكية لتقدم العلوم. وهو من تأليف لفيف من كبار الخبراء العلميين المعروفين على نطاق عالمي، وقد حرره وقدمه "ألبرت تيتش" الذي أسهم بدوره في كتابة بعض الموضوعات فيه، ويعالج هذا الكتاب المهم، بدراساته ومقالاته المتفرقة العميقة العديد من القضايا المتعلقة بتأثير التكنولوجيا في الاقتصاد والإدارة والبيئة والمجتمع والتعليم والزراعة، وغير ذلك من قطاعات الحياة المختلفة. وهو يرى في التكنولوجيا، أو التقانة أكثر من مجرد آلات متحركة، فهي تتضمن أدوات لغوية وفكرية وتحليلية ورياضية، وتمثل نظاما معقدا ومتشعبا تظهر فيه جوانبها الثقافية والاجتماعية والفكرية والسياسية التي تدخل في كل مجال من مجالات حياتنا. ويشير الكتاب إلى أن كثيرا من الأدباء يسعون إلى استقصاء هذه الجوانب وفهمها، من خلال منظور ما، أو آخر، وبالاستناد إلى هذا التصور أو ذاك.

وهدفهم الأساسي من ذلك استكشاف القضايا المفاهيمية والميتافيزيقية التي تغلّف العلاقات بين التكنولوجيا والمجتمع، ومن هؤلاء هارديسون وبنجر. من الدراسات المهمة في الكتاب، واحدة بعنوان "التكنولوجيا والتقدم"، يبدأ فيها ليو ماركس، بالتساؤل عما اذا كانت التكنولوجيا المحسنة تعني التقدم. ويجيب عن ذلك بالقول إن هذا الاعتقاد، ظل سائدا لفترة طويلة من الزمن، ولكنه أخذ يهتز، إلى حد ما، خلال نصف القرن الأخير، فأصبح هناك تشكك في الفكرة المتمثلة بأن التجديد التكنولوجي هو رديف التقدم الاجتماعي. فقد أثبتت ممارسات هتلر وستالين، وما تبع ذلك من سباق للتسلح، أن التكنولوجيا يمكن أن تسبب الدمار للإنسان، والخراب للبيئة، على الرغم من كل فوائدها المعترف بها والتي يركز ماركس على واحدة منها، وهي دورها الوجداني والعالمي.. فعندما تكون هناك أسس عامة تدخل في صناعة السيارات، مثلا، ومفاهيم مشتركة للهندسة الوراثية، ومبادئ واحدة للحرارة الديناميكية، يصبح للتكنولوجيا فضل في تقريب دول العالم، بعضها بعضا. وهذا يشبه دور الطرز المعمارية والموسيقية واللباسية التي تتحول إلى طرز عالمية تسود في بقاع عديدة من الأرض، وتساعد على تكوين نظرة جمالية وفنية واحدة عند الشعوب. ومن الفوائد الأخرى للتكنولوجيا قدرتها على حل الكثير من المشكلات الاجتماعية، والتي تفوق في الأهمية دورها في حل المشكلات التكنولوجية البحتة فالسيارة متقنة الصنع تؤدي إلى تخفيف حوادث السير "وهي معضلة اجتماعية مهمة"، بصرف النظر عن مهارة السائق، كما أن تطوير الحواسيب يقود إلى تحسين التعليم دون الحاجة إلى رفع مستوى كفاية الأساتذة، وكذلك، فإن الحبوب المسماة بحبوب السعادة، والتي هي من نتاج التقانة الدوائية المتقدمة، تقضي على الاكتئاب والهبوط النفسي، مما يسفر عن تحسين العلاقات الاجتماعية بين الناس. ويخلص ماركس أخيرا إلى النتيجة المنطقية المعروفة وهي أن التكنولوجيا جسر عريض موصل إلى التقدم، بقدر ما يوجهها الإنسان نحو الخير وباتجاه خدمة المجتمع، وضارة بقدر تحويلها صوب الأهداف الشريرة. ويلقي ألفين وينبرغ، مزيدا من الأضواء على دور التكنولوجيا في حياة المجتمعات، مبينا في دراسته أن تأثيرها يؤدي إلى إحداث التغير الاجتماعي، بطريقتين، احداهما إيجابية، وتتجلى بإيجاد فرص جديدة وثانيتهما سلبي ة، وتتمثل بخلق مشكلات جديدة للأفراد. ويوضح ذلك بالقول بأن للتكنولوجيا فوائد عظيمة في الصناعة والطب والإدارة والتعليم وغيرها، ولكنها من جهة ثانية تسرق من الناس وظائفهم وسريتهم، وحتى كرامتهم، أحيانا. وبتعبير آخر، فإنها في محصلتها النهائية تتمخض عن نشوء مجتمع تكنوقراطي ودولة بيروقراطية، يفقد في ظلهما الفرد بالتدريج، قيمته، بوصفه كائنا بشريا. ويمضي الكاتب في شرح آثار التكنولوجيا وكيف أنها تقود إلى خلق احتمالات وخيارات جديدة تنبثق عنها، بالتالي، قيم وأشكال جديدة من النشاط الاقتصادي والتنظيم السياسي.

معايير جديدة

ويتضمن الكتاب مقالا مهماً لألبرت تيتش، يبين فيه ضرورة إيجاد معايير جديدة لقياس التقدم الاقتصادي. ولعدة عقود ظلت نظم الحسابات القومية هي التي يعتمد عليها في هذا المجال. أما اليوم، فهناك مؤشر الدخل الفردي (per capiat income) وهو أكثر المقاييس استعمالا، ولكنه لا يأخذ في الحسبان توزع الثروة. ولا يعكس الوضع البيئي. وقد صممت الأمم المتحدة معيارا آخر، هو مؤشر التطور البشري human development index وهو يظهر توزع الموارد، الا أنه لا يشير إلى الوضع البيئي.

وقام هيرمان دالي وجون كوب، بايجاد مقياس يعكس توزع الثروة والحالة البيئية، في آن واحد. وهو مؤشر الرفاه الاقتصادي طويل الأمد sustainable economic welfare ولكن مشكلة هذا المؤشر، أنه يعتمد على معلومات لا تتوافر الا في عدد قليل من الدول، لذلك فهو أكثر استعمالا في الدول المتقدمة، من استعماله في الدول النامية، فهذه الدول لا تتوافر فيها، مثلا، بيانات مؤكدة حول مدى التلوث الهوائي والمائي. ولولا مشكلة نقص المعلومات لكان هذا من أرقى المؤشرات. ويوجد أيضا مقياس آخر باسم مؤشر استهلاك الحبوب الفردي per capita grain وهو أفضل المعايير، ولكن بالنسبة للدول ذات الدخل المنخفض. وهو يعتمد على أساس أن المرء كلما استهلك كمية أكبر من الحبوب كان ذلك دليلا على أنه يحيا حياة مناسبة. وبتعبير آخر، فإن هذا المؤشر يهتم بتلبية الحاجات الأساسية للإنسان. وهو يعكس الوضع البيئي، لأن الفيضانات وإزالة الغابات تؤديان إلى تدهور بيئي يؤثر في الإنتاج الزراعي للحبوب.

ويتحدث آلان مازور عن موضوع ضبط التكنولوجيا، موضحا أنه كان هناك دائما على مر التاريخ من يعارضون التكنولوجيا ولاسيما النووية منها ولا يؤمنون بالتقدم من خلالها. ولكن عدد هؤلاء ازداد الآن بسبب الحوادث المأساوية للمفاعلات النووية، مثل حادث تشيرنوبل، وعدم القدرة على التخلص من الفضلات الاشعاعية طويلة الأمد.. ولكنه يلاحظ أن المفكرين، أكثر من عامة الناس، هم الذين فقدوا الثقة في المنطق التقاني، وإن كان البعض الذين يعارضون نوعا ما من التقانة، يؤيدون نوعا آخر منها.

ويرى الكاتب أن هناك ضرورة ماسة لضبط التكنولوجيا من خلال تحويل الأموال نحو القطاعات التقانية المفيدة، وتشديد القيود على النشاطات التقانية الضارة. وهذا يمكن أن يتم من خلال رسم سياسة واضحة للتكنولوجيا، يتم في ظلها تهيئة جو مناسب للتجديد، ولاسيما في مجالات الزراعة والدفاع والطب. وهو يضع الآمال على التكنولوجيا الرسمية التي تهتم بالمصلحة القومية العليا، لا على التكنولوجيا الخاصة التي لا تُعنى الا بالربح المادي.

مجتمع المعلومات

ويتحدث جيمس بنجر، في مقال خاص عن مجتمع المعلومات، موضحا أن هذا المفهوم بدأ في الظهور منذ الخمسينيات، على يد فرتز ماتشلب الذي قام بتصنيف ثلاثين صناعة وتقسيمها إلى أربع فئات أساسية، هي: 1ـ التعليم، 2ـ الأبحاث والتطوير، 3ـ وسائل الاتصال، 4ـ المعلومات.

وقد قدر أن قطاع المعلومات يمثل 29% من الناتج القومي الإجمالي في الولايات المتحدة و31% من القوة العاملة. ثم بدأت المرحلة الثانية من مجتمع المعلومات في السبعينيات، مع انتشار تكنولوجيا الصناعة الدقيقة. وتلا ذلك حديثا مرحلة المعلومات المرقمة digit alised information ونتيجة لذلك أخذت النظم الإلكترونية المرقمة تحل محل النقود في كثير من المهام المعلوماتية. وكما أدى ادخال العملة ونظم المقايضة إلى تحويل الأسواق المحلية إلى اقتصاد عالمي واحد، منذ قرون، فإن الكاتب يتوقع أن يكون للنظم المرقمة دور مماثل يتجلى في تحويل الأشكال الحالية المختلفة والمتعددة للمعلومات، إلى وسيلة مشتركة موحدة تستخدم في الصناعة والتبادل والمعالجة وغيرها. وبتعبير آخر، فإن تأثير الترقيم في المجتمع سيكون رديفا لتأثير العملة في الاقتصاد. أما الكاتب وندل بيري، فيقدم مقالا صغيرا طريفا يتهجم فيه على الكمبيوتر، ويبين أنه عندما يكتب مقالاته، يفضل بدلا من الاستعانة بالكمبيوتر، أن يستعين بزوجته، فهي على حد تعبيره أرخص ثمنا وأكثر جاهزية! ولكنه يستدرك بعد ذلك، فيعرب عن تقبله للكمبيوتر، فقط، في الحالات التالية:
1ـ عندما يكون الحاسوب أرخص ثمنا من الآلة القديمة المستبدلة.

2ـ حينما يكون صغير الحجم.

3ـ أن يقوم بعمله على شكل أفضل من سابقه.

4ـ أن يستعمل من الطاقة أقل مما يلزم للوسيلة القديمة.

5ـ أن يكون بالإمكان شراؤه، وتصليحه في مكان قريب من المنزل.

6ـ أن يكون قابلا للصيانة، من قبل شخص متوسط الذكاء، شريطة أن يملك الأدوات اللازمة. أما شوشانا زوبوف، فتتناول عصر الآلة الذكية intelligent machine، مبينة أن التطور في حقل الكمبيوتر وتقانة المعلومات يشكل قوة دافعة لجميع مجالات التقدم التكنولوجي، وأن البرمجة المعلوماتية تجعل من الممكن عقلنة النشاطات بشكل أفضل وأدق وأكثر موثوقية، مما لو تم الأمر على يد الإنسان. فالروبوت robot مثلا، يستجيب بشكل دقيق جدا، لأن التعليمات الموجهة إليه ثابتة وموحدة وغير متبدلة. وتتساءل الكاتبة عن الفرق بين تقانة المعلومات الحديثة وتكنولوجيا الآلة التقليدية، وتجيب على ذلك بأن التصميمات والنظم المعلوماتية الحديثة التي تترجم المعلومات إلى أفعال ونشاطات، تقوم أيضا في أثناء عملها، بتسجيل بيانات حول هذه النشاطات والأفعال المؤتمتة، وبذلك فإنها تولد فروعا من المعلومات الجديدة. وبتعبير آخر، فان تقانة المعلومات ليست تقانة جامدة، ولا تكتفي بتلقي المعلومات، بل إنها أيضا تنجز أعمالا، وتترجمها إلى معلومات جديدة. وهذا يختلف كل الاختلاف عن عمل الآلات التقانية القديمة التي تفتقر إلى سمة "الذكاء". وتخلص زوبوف إلى القول بأن التكنولوجيا الجديدة تحتاج منا إلى نظرة جديدة في مجال العمل والتنظيم، وإلا، فإننا سنكون قد فشلنا في فهم الاختلاف بينها، وبين التكنولوجيا التقليدية.

 



 
  




غلاف الكتاب





نظرة إلى الماضي