المشورة الوراثية

 المشورة الوراثية

ثمة تطورات هائلة في علم الوراثة، لكننا في خضم الانبهار بهذه التطورات ننسى اللجوء إلى حقائق مستقرة قديمة ومفيدة.

خلال السنوات الخمسين الماضية حصل تطور كبير في علوم الوراثة، شمل إمكانية الكشف عن عدد من الأمراض الوراثية أثناء الحمل، بل وقبل الحمل أيضا. كما ظهرت علاجات وحميات خاصة لعدد من هذه الأمراض، بعضها شاف وبعضها مخفف للأعراض. فضلا عن استفادة علوم الوراثة من التقدم الكبير في مجالات الكيمياء الحيوية ودراسة الخلايا والكروموزمات.. إلخ. على أن جهل قسم من الأطباء، فضلا عن عامة الناس، بهذه التطورات الكبيرة، بل وبمبادئ علوم الوراثة الأولية، أدى إلى حرمان كثير من الناس من ثمرات التقدم العلمي الهائل. ففي دراسة حديثة أجريت في الولايات المتحدة تبين أن عددا من الأطباء هنالك يجهلون أبسط قواعد الوراثة، ويعطون مشورات خاطئة استنادا إلى ذلك.

توقع الاحتمالات

فمن الأمثلة على هذه الأخطاء، ذلك الطبيب الذي راجعه والدان ولد لهما طفل مصاب بمرض التليف الكيسي "وهو مرض وراثي تتم وراثته وفق ما يسمى بالنمط الجسمي المقهور" وعندما سأله الوالدان عن احتمالات تكرر حدوث هذه الحالة في الحمول التالية قال لهما: إن هذا المرض يصادف في واحدة من كل ألفي ولادة. وبناء على ذلك فان احتمال التكرر هو واحد من ألفين. في حين أن الاحتمال لديهما في واقع الأمر هو واحد من أربعة.

وطبيب آخر راجعه أب وأم لديهما طفل مصاب بمرض بيلة الفينيل كيتون "وهو أيضا وراثي يتبع الوراثة الجسمية المقهورة". وعندما سألاه عن احتمالات التكرر، استشهد في إجابته بمثل معروف فقال: إن الصاعقة لا تضرب المكان نفسه مرتين مع أن احتمال تكرر حدوث هذا المرض في الحمول التالية لديهما هو واحد من أربعة. وهو احتمال كبير بجميع المعايير.

ولئن كانت الأخطاء السابقة "مستوردة" فلدينا أيضا أخطاء "وطنية"، أذكر منها حكاية والدين ولد لهما طفل مصاب بمرض داون أو "المغولية" نصحهما طبيبهما بتأخير الانجاب خمس سنوات، مؤكدا أن هذه الحالة لن تتكرر بعدها مرة أخرى، مع أن كبر سن الأم بعد خمس سنوات سيزيد من احتمالات حصول هذه الحالة زيادة كبيرة.

وطبيب آخر جاءه والدان لديهما طفل مصاب بمرض وراثي مقهور، وكانا أبني عم من الدرجة الأولى فنصحهما بالانفصال والطلاق وأن يتزوج كل منهما من زوج جديد، علما بأنه في المشورة الوراثية الصحيحة ننطلق دائما وأبدا من الأسرة القائمة. ولا يجوز في حال من الأحوال أن ينصح بالطلاق وان كان ذلك في الحقيقة سيخفف من احتمالات التكرر.

بعد أن عرضت هذه الأمثلة على المشورات الخاطئة، أتحدث الآن عن المشورة الصحيحة.

يقصد بالمشورة الوراثية اعطاء نصيحة طبية تتعلق باحتمالات تكرر حدوث مرض وراثي معين، ومدى العبء الذي يلقيه هذا المرض على العائلة ثم مساعدة الأهل على رسم خطة العمل التي يمكن اتباعها.

وللمشورة الوراثية مراحل يمكن أن نحددها كما يلي:
1 - تعيين احتمال تكرر حدوث المرض لدى أقرباء المريض وفي الحمول التالية.
2 - تفسير معنى خطر تكرر المرض للأهل.
3 - مساعدة الأهل على تقرير خطة العمل.
4 - متابعة المشورة الوراثية.

تشخيص وتفسير

ولتعيين احتمال تكرر حدوث المرض لدى أقرباء المريض وفي الحمول التالية ينصح بالتالي:

* لابد لذلك من معرفة التشخيص الدقيق للحالة المرضية وهي أمر قد يكون بالغ الصعوبة، ذلك أن مظاهر الأمراض الوراثية قد تشابه مظاهر الأمراض غير الوراثية، يضاف إلى ذلك أنه ليست كل الأمراض العائلية وراثية ولا كل الأمراض الوراثية عائلية، فكثير من الأمراض الوراثية قد لا تكون موجودة في العائلة من قبل، وإن الحصول على قصة عائلية دقيقة ومفصلة يساعد كثيرا على الوصول إلى تشخيص المرض أو على الأقل تشخيص النمط الوراثي له، فوجود المرض نفسه في أكثر من ابن يرجح كون الوراثة مقهورة. بينما وجود المرض لدى الطفل وأحد الأبوين أو الأجداد يرجح كون الوراثة قاهرة. ووجود المرض لدى أحد الأشخاص ولدى بعض أبناء شقيقاته يرجح كون المرض ذا وراثة مقهورة متعلقة بالجنس.

* ولابد بعد معرفة المرض ونمط وراثته من معرفة سير المرض، وبما أن من الأمراض الوراثية ماهو، نادر وموصوف حديثا لذلك تجب مراجعة الكتب والدوريات المتخصصة بالوراثة للاطلاع على المستحدثات فيها، لايضاح الصورة وتفسير الأمور.

والغاية من هذا التفسير هو أن يستوعبه الأهل استيعابا جيدا، يمكن أن يساعدهم على تحديد خططهم في المستقبل. لذلك يجب أن يتوافق هذا الشرح مع مستوى الأهل الثقافي والاجتماعي. وأن يوضح لهم ماذا يقصد بالاحتمالات وماذا تعني ولادة طفل مصاب.

ويجب أولا أن نزيل الشعور بالذنب لدى الوالدين، هذا الشعور الذي يرافق عادة ولادة طفل مصاب بمرض وراثي. ويتم هذا بأن نوضح لهما أن حدوث المرض أمر الهي، ولا علاقة له بأي تصرف قام به الوالدان كأن تحاول الأم أن تربط بين حصول المرض ومحاولتها تخفيض وزنها أثناء الحمل مثلا، أو بينه وبين حدوث مرض بسيط لديها أثناء الحمل. أو تناول أحد الوالدين بعض الأدوية.. إلخ...

ويجب أن يفهم الأهل أن خطر التكرر وحده يبقى أمرا مجردا لا معنى له، اذا لم يربط بمدى العبء الذي يلقيه المرض على كاهل الأسرة. وما يهمنا هنا هو شدة العبء ومدته. وبمعرفة هذين الأمرين يصبح لاحتمالات التكرر معنى ملموس.

إن متابعة المشورة الوراثية ذات أهمية كبيرة، فقد تتغير مشاعر الأهل تجاه مرض معين مع مرور الوقت، خاصة في حالات الأمراض ذات التكرر الضئيل، أو أثر وفاة الطفل المصاب.

 

 

غسان حتاحت