عزيزي القارئ

عزيزي القارئ

الوجوه الأخرى

عزيزي القارئ..

لعل من أثبت وجوه الحقيقة أنها متعددة الوجوه، تبعا لزاوية النظر التي يتطلع منها الراصد إلى وجه الظاهرة الأساسي. وإذا كان ذلك ينطبق على الحقيقة، فما بالنا بما تخفيه الأقنعة، والتي قد تكون محكمة إلى حد الإيحاء بأنها الأصل الأوحد؟ من هنا فإن معاودة النظر من زوايا مختلفة، وافتراض وجوه أخرى تخفيها الأقنعة، يصيران واجبا على المثقف الحقيقي، قارئا كان أو كاتبا.

ويتحول هذا الواجب الثقافي إلى ضرورة قصوى ينبغي أن تتبناها المنابر الثقافية، مطبوعة كانت أو مسموعة أو مرئية، وهو ما نراه في هذه المطبوعة، وتسفر عنه مواد أعدادها المختلفة، شأنها شأن الكثير من مواد هذا العدد. ففي موضوع الصهيونية يروج كثيرا ربطها بالبعد الديني لدى زاعميها، لكن أحد وجوه الحقيقة في شأنها هو أن الصهيونية اعتدت على الرموز الدينية لأتباعها ذاتهم، وهي في طريقها لبلوغ غايتها الدنيوية العدوانية والأنانية المحضة. وهذا لا يفسر زيف ادعاءاتها فقط، بل يفسر وحشية اعتداءاتها على الآخرين، أرضاً، وتراثاً، وعقيدة، وبشراً. فالحركة التي تزعمها تيودور هرتزل الداعي إلى أول مؤتمر صهيوني عالمي عقد في بال بسويسرا في أخريات القرن الماضي لم يكن يقصد تصحيح وضع ما بإقامة دولة يهودية على غرار الدولة القديمة التي قضت عليها روما، بل كان يقصد إلى تميز الذات الجشعة والأنانية على حساب الآخر، ومن هنا يستباح الآخر أينما كان.. في المختلف ـ ولو قليلاً ـ لدى الأتباع ذاتهم، وفي المناهض أو المناوئ الغريب أيا كانت حقوقه. هذا وجه من وجوه الصهيونية التي يعريها من بعض قناعها مقال: "مسلسل العدوان على المقدسات" في هذا العدد. وفي هذا العدد أيضا تتوالى عملية البحث عن الوجوه الأخرى، وتجد ذلك في معالجة "فضائح الثقافة ومفارقاتها"، كما تجده في مقال "الاستشراق وسلطة المعرفة". وتعثر عليه في إعادة تقديم الوجه المشترك بين استبداد الأسطورة واستبداد الحكم في استطلاع هذا العدد المتوجه إلى رومانيا أرض دراكيولا وتشاوشيسكو على السواء.

البحث عن الوجوه الأخرى للأشياء، والمعارف، والبشر، ضرورة ثقافية قصوى كما أسلفنا، وهي في مجال العلم كذلك، وفي هذا العدد إماطة عن ألثمة عدد من شائع الأمور في حقل العلم، تكشف عن أن ما راج من الوجوه يخفي وجوها أخرى.. فموضوع "براءة الإنسان من تقلبات الأرض" يزيح ـ ولو قليلا ـ الافتراض الشائع عن مسئولية تلويث الإنسان للبيئة في اضطراب مناخ الأرض، وتلقي ببعض المسئولية على كاهل النجم الأم الذي يتبعه كوكبنا. كما أن مقال "الدنماركي القائد" يرد بعض الفضل لعالم مرموق يمضي على مولده قرن من الزمان وهو مغمور ـ لا يزال ـ إعلاميا. أما الحديث عن "نقمة ثورة المعلومات" فهو توجه واجب، نحو الحقيقة الغائبة في حمى التهليل لإنجازات التقنية الحديثة في مجال الاتصالات والحاسوب، وهي حقيقة إن لم نعها وتعها البشرية المعاصرة فإن فرحها الغامر بالإنجازات التقنية الحديثة قد ينقلب على البشرية انقلاب السحر على الساحر.

وإلى لقاء متجدد.

 

المحرر