شعاع من التاريخ

شعاع من التاريخ

هكذا فعلها.. عبدالحميد بن باديس..!

قبل مائة عام بالضبط..

وفي مثل هذه الأيام من عام 1897 ولد عبدالحميد بن باديس.. قائد المعركة الثقافية وسلاحها البتّار في الجزائر.

فقبل الثورة المسلحة ومعركة المليون شهيد.. كانت معركة الثقافة وتأكيد الكيان القومي، هي المعركة المريرة التي خاضها شعب الجزائر من أجل المحافظة على مقوماته. فمنذ أول أيام الاحتلال الفرنسي العسكري أراد الاستعمار أن يمحو الشخصية العربية في البلاد.. حارب الدين الإسلامي والتقاليد واللغة والتعليم.. وغدت اللغة العربية في البلد العربي لغة أجنبية غريبة. وعملت الإدارة على تجهيل الشعب ونشر الخرافات والبدع على يد صنائعهم من رجال الطرق.. من هنا كان دور "بن باديس" دورا قياديا كبيرا في تمهيد الطريق للثورة.. وفي مدارسه ومعاهده نشأ وتكون الجيل الذي حمل الثورة المسلحة فيما بعد..!

كان الفتى ـ ابن قسنطينة ـ يستطيع أن يكون صاحب منصب ديني مرموق، بعد أن تلقى علومه الدينية على يد شيوخ حجازيين وسوريين وجزائريين في المدينة المنورة، وبعد أن تخرج بشهادة العالمية في جامع الزيتونة في تونس. ولكن لكي يحدث ذلك كان لابد أن يشارك في أعمال الجاسوسية الفرنسية التي كانت تتحكم في المناصب الدينية تمنح وتمنع حسب ولاء رجال الدين للسلطة.. ولم يكن هو من ذلك النوع من العلماء الذين يمكن أن يستكينوا في خدمة الاستعمار.

وهكذا نبذ الطريق السهل وعافت نفسه بأن يخدم أعداء وطنه.. وآثر أن يركب الطريق الصعب.. من خلال الجهاد لتأكيد الشخصية العربية للجزائر ضد حركة "الفرنسة" التي عمل لها المستعمرون. شرارة الإصلاح كان في الأعماق من "بن باديس" شرارة ألهبها معلمون من أمثال جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وعبدالله النديم ومحمد رشيد رضا وشكيب أرسلان، فقد شقت صيحات الأفغاني وتلاميذه طريقها إلى عقول الشباب وحملت أحاديثه الصيحة تلو الصيحة: "هبوا من غفلتكم، اصحوا من سكرتكم، عيشوا كباقي أحرار العالم سعداء" أيقظت صيحات الأفغاني الناس من سباتهم. دعتهم إلى الشعور بقوميتهم، إلى المطالبة بمناهضة الاحتلال الأجنبي والعمل من أجل الاستقلال.

وامتلأت نفس عبدالحميد بن باديس بهذه الصيحات، وحددت له رسالته في مجتمعه المستذل المضيع..!

لم يكن بن باديس يستطيع أن ينسى أن مرحلة الكفاح المسلح ضد الاستعمار التي قادها الأمير عبدالقادر الجزائري قد حققت الكثير من شحذ روح المقاومة بالرغم مما أصاب الشعب من ضربات عنيفة خلالها بقوة الحديد والنار.

وكان صدره المغيظ المحنق يضطرم وهو يطالع آثار الخراب والدمار اللذين خلفهما جنود الاستعمار بعد أن قتلوا النساء والأطفال والشيوخ، وبقروا بطون الحوامل وهتكوا الأعراض ونهبوا الأموال ولم يرعوا حرمة الإنسان ومزقوا القيم الأخلاقية شر ممزق، واستهانوا بكل القوانين إلا قانونا واحدا هو شريعة الغاب. وكان يدرك جيدا معاني الخديعة حين استغل الفرنسيون انشغال عبدالقادر في غزواته ومعاركه، فتسلل جنودهم إلى المخيمات بعد أن تنكروا في ثياب الأعراب، وظنهم الحراس القلائل أنهم من المجاهدين الجزائريين الوافدين إلى معسكر الأمير، فتلقوهم بالتهليل والتكبير وشاركتهم النساء بزغاريدها، ثم تكشفت لهم الخديعة عندما أعمل القتلة فيهم السيف، لا يرحمون عجوزا ولا يبقون على امرأة أو طفل، حتى إذا أتوا عليهم راحوا ينهبون الأموال ثم يحرقون المخيمات ويذرونها في الرياح. وظلت الحرب بينهم وبين الثوار خمسة عشر عاما لم يضع الأمير فيها سيفه، بل كان يقاتل ويقتحم المخاطر والأهوال، ثم لعبت الخيانة دورها ونجحت وتفرق أعوان عبدالقادر حتى أصبح وحيدا. ومع ذلك فقد توارث أبناء الجزائر بطولته فلم يكفوا يوما عن الكفاح من أجل التحرير.

المعركة الثقافية

أدرك عبدالحميد بن باديس أن عليه أن يخوض معركة جديدة ضد الاستعمار، ولكنها هذه المرة لن تكون بقوة السلاح بل بقوة الإصلاح، وبدأت اتجاهاته في إصلاح حال بلاده تتبلور، فقاد حملة إصلاحية بعد جولاته العلمية في المشرق وعودته متشبعا بالأفكار الجديدة. وتبلورت آراؤه الإصلاحية في أهداف محددة: أولها إحياء الدين الإسلامي وتطهيره من البدع والخرافات وكل ما ألصق به، وثانيها بعث اللغة العربية ونشرها من جديد في أوساط الشعب الجزائري بعد أن جعلها الاستعمار لغة أجنبية يعاقب من يجرؤ على تعلمها، وثالثها العمل على إحياء القومية الجزائرية، باعتبار أن الجزائر وطن خاص وأن الشعب الجزائري يلتقي مع العالم العربي في القومية العربية، ومع العالم الإسلامي في الروح الإسلامية.

بدأ بن باديس يجتمع بمريديه في الجامع الأخضر بقسنطينة يلقي إليهم على طريقة جمال الدين الأفغاني دروسه الدينية بينها آراؤه الإصلاحية في هدوء ويفسر القرآن بنظرة حديثة. بعدها انتقل إلى مرحلة جديدة إلى دائرة أعم وأوسع بواسطة النشر والصحف، وتأسيس منظمة تتولى نشر اللغة العربية بطريقة عصرية في كل أنحاء الجزائر، تتولى عملية تطهير الدين ومقاومة المشعوذين الذين يزعمون الانتساب للطرق الصوفية بينما هم يخدمون الاستعمار..! وبرزت إلى الوجود أولا جريدة "المنتقد" عام 1926 قائمة بتولي الدعوة الإسلامية الإصلاحية.

ولكن الحكومة تنبهت لها فعطلتها بعد أعداد قليلة، فأصدر بن باديس عندئذ مجلة "الشهاب" التي استمرت سبعة عشر عاما وقد أطلقت حملة عنيفة ضد الاستعمار والصهيونية. وبدأت الحركة الإصلاحية تدخل في دور حاسم في مخاطبة الرأي العام والتفت حولها شخصيات مختلفة كانت موجودة لكن لم يكن يجمع بينها فكرة أو هدف. وبدأت الحركة الإصلاحية تتخذ أسلوبا تنظيميا جديدا في مستوى الشعب الجزائري فتأسست جمعية العلماء المسلمين الجزائريين وتولى بن باديس رئاستها بين عامي 1930 و1940. وبذلك دخل بن باديس دور الكفاح المنظم.

وكانت الخطوة الإيجابية الكبيرة لابن باديس هي نجاحه في نشر شبكة من المدارس الحرة لتدريس اللغة العربية والثقافة الوطنية وكانت هذه هي الخطوة الجبارة لتخليص الفكر العربي الجزائري ونفوس الشبيبة من الاستعمار الثقافي. وأخذ يطوف البلاد والقرى يجمع التبرعات لتأسيس المدارس الوطنية. وبدأت المدارس تقوم وتنتشر وكل منها خلية وطنية. ومع ترعرع الحركة الإصلاحية الاجتماعية كان التيار السياسي ينمو وينضج.. وكان لابد من تلاقي التيارين الاجتماعي والسياسي في مجرى كفاحي واحد.

فهدفهما واحد هو تحرير الجزائر وتأكيد قوميتها واستقلالها.

وهكذا بدأت المرحلة الثالثة من مراحل الكفاح الجزائري.. وتشكلت جبهة التحرير الوطني الجزائري.. وكانت اتحادا قوميا جمعهم باسم الدم والدفاع عن أعظم المقدسات الإنسانية.. الحرية.

 

سليمان مظهر