جمال العربية

جمال العربية

"من الأدب الكبير"
لعبدالله بن المقفع

ليس في الشعر وحده يكمن جمال العربية.

قدمنا بهذه المقولة من قبل في تقديم صفحات من أدب أبي حيان التوحيدي. ناطقة ببلاغته وروعة بيانه، وأسلوبه الذي يحاكي أساليب هذا العصر حيوية وإيقاعا وتدفقا، خاصة في كتابه: "الإشارات الإلهية" وفي رسالته عن الغربة.

ونذكر بهذه المقولة اليوم ونحن نعرض لصفحات "من الأدب الكبير" لعبد الله بن المقفع: الأديب والكاتب المبدع الذي انتهت حياته نهاية تراجيدية حين أشار الخليفة المنصور على واليه بالعراق فقتله، وقيل إن هذا القتل كان لأسباب سياسية ودينية وشخصية. وأصبح ابن المقفع ـ نتيجة لهذه الفاجعة ـ في مقدمة رموز المستشهدين من رجال الكلمة بسبب الكلمة التي آمنوا بها، وعملوا من أجلها، وحرصوا على أن تصل إلى الناس عارية من كل زيف، ممتلئة بكل ما تحمله من شحنة الصدق والحرارة والتوهج، حتى لو بدت مخالفة للسائد والمألوف. فالأديب الحق هو الذي يضيف لونا جديدا وشراعا جديدا ومذاقا جديدا للغته، ولايكون مبدعا حقيقيا حتى يحرك الساكن والمألوف، ويغير الآسن والمتعفن، ويمهد الطريق للجديد الذي يتشكل ويتخلق دلالة على التجدد وعلامة على التطور.

وعبد الله بن المقفع الذي ولد في بلاد فارس وقتل في البصرة ـ حيث نشأ وتعلم ـ أدرك الدولتين الأموية والعباسية وعمل كاتبا لولاة العراق الأمويين ثم لأعمام المنصور، وأدب أبناءهم وأسلم على أيديهم. ولقد كان معجبا بحضارة قومه الفرس، حريصا على نقل آثارهم إلى العربية وفي مقدمتها "كليلة ودمنة" الذي نقل إلى الفارسية عن الهندية القديمة أو السنسكريتية، ثم نقله ابن المقفع إلى العربية وكأنه يوجه به رسالة إلى بيت الملك في زمانه. لقد ألف الفيلسوف الهندي بيدبا كتابه "كليلة ودمنة" على ألسنة الطير والحيوان ليكون أول كتاب في الأدب الرمزي يحمل مضمونا سياسيا واجتماعيا، واستطاع بيديا بهذا الأسلوب الرمزي أن يأمن شر "دبشليم" الملك الذي كان الكتاب يحضه بصورة غير مباشرة على الالتزام بالعدل والالتفات إلى فساد حاشيته وظلمه للرعية وإلى الرأي الآخر الذي تردده الرعية عنه. وللسبب نفسه رأى ابن المقفع أن يترجم "كليلة ودمنة" عن الفارسية إلى العربية، موجها رسالة النصح إلى الخليفة العباسي. ثم لم يكتف بأن يحمل الكتاب هذه الرسالة في زمن كانت تطير فيه الرقاب لغضب الحاكم أو الوالي نتيجة كلمة قيلت أو بيت من الشعر أسيء تأويله. لقد كتب ابن المقفع عددا من آثاره النثرية الرفيعة المستوى ضمنها فكره وآراءه النقدية ونظرته إلى الحكم والحاكمين، ورغبته في تغيير الأمور والأحوال. وجاء كتاب "الأدب الكبير" وماسطره في "رسالة الصحابة" ليكونا بمنزلة الطلقة الأخيرة التي جعلت ولي الأمر يفيق على ما تتضمنه كتاباته من تعريض وإدانة، ومن رغبة عارمة في التغيير. ومن ثم كان من السهل أن يصنف ابن المقفع باعتباره كاتبا خارجا على النهج ممالئا لصوت المعارضة، وأن يفتن أعداؤه في التماس الحجج والمعاذير التي تبرر للحاكم التخلص منه، فهو لايزال على مجوسيته وإن كان قد أعلن إسلامه على الملأ، وهو لايخفي نزعته الشعوبية واعتزازه بقومه الفرس على حساب العرب، وهو يجمل الزندقة والمروق والخروج على الدين في ثنايا كتاباته وبين خفايا سطوره. وهكذا، كان حتما أن يدفع عبدالله روزبة بن داذويه الذي عرف بابن المقفع إلى المصير الذي ينتظره، وأن يمثل به بعد قتله عبرة لغيره من الكتاب والأدباء والشعراء الذين يتجاوزون الحدود ويخرجون على الخط الأخضر في علاقتهم ب الحكم والحكام.

والمتأمل فيما كتبه ابن المقفع في كتابه: "الأدب الكبير" يرى أنه قد رسم منهجا ودستورا في التعامل بين الراعي والرعية، كما أنه يضع بين يدي الإنسان والمواطن البسيط خلاصة الخبرات والتجارب التي ترشده في تعامله مع الوالي أو الحاكم: كيف يصنع إذا تقلد شيئا من أمر السلطان وغيره، كيف تكون أصول الأدب في الدين وغيره، كيف ينظر إلى المشورة، كيف يعمل على التماس رضا الناس، ثم يقدم ابن المقفع تحليله لأصناف الملوك، وتحذيره عند جدة دولة بغير حزم، ونهيه عن الأصحاب غير الثقات، ثم يصل إلى مربط الفرس ـ كما يقولون ـ من وراء تأليف هذا الكتاب وهو كيف تكون صحبة السلطان. وهنا يكشف ابن المقفع عن نفيس خبرته وذخائر آرائه ونظرته إلى الحياة والناس، ناصحا ومرشدا ومحذرا وموجها، في لغة تكاد تكون لغة العصر الذي ننتمي إليه، إشراقا وحيوية وتدفقا، وسلاسة ونصاعة وإيقاعا، لغة ينضجها الفكر وتصقلها الخبرة والمعاناة وتمتلئ بوثبات ابن المقفع، المبدع الكبير الذي يبدع لغة على غير مثال ويقدم نموذجا يحتذيه المحتذون في الكشف عن خبايا النفس الإنسانية، ومكنون القلب الإنساني، والوعي العميق بما تتطلبه قواعد الحياة والسلوك والتعامل، في مجتمع شعاراته المرفوعة غير واقعه الذي يعيشه الناس ويلمسونه، وقيمه المعبر عنها في كتابات الشعراء والبلغاء غير ما يلتزم به الحاكم والوالي والسلطان في تعامله مع الآخرين.

لقد كان سهلا على ابن المقفع وهو يترجم "كليلة ودمنة" ويضيف إلى الكتاب فصولا من وضعه، كان سهلا عليه أن ينطق الأسد والفيل والثعلب والذئب وغيرها بما يريد من رأي وفكر، مستعصما بلغة الرمز، وقناع التخفي خلف لغة الحيوان والطير. أما وقد خرج إلى العراء وآثر الكتابة فيما يحذره الكتاب عادة ويتجنبونه فقد تعرض لآخر ما تسوق إليه كلماته من شطح وتأويل، خاصة أنها لاتحتاج إلى هذا التأويل لأنها صيغت في صورة ناصحة هادية مرشدة لاتكف عن النصح والتحذير، تدور كثيرا حول "إياك" وحول "اعلم"، وتكثر فيها أفعال الأمر المحركة للوعي والسلوك والتغيير مثل: اعلم، اعرف، عود نفسك، لاتمكن، لاتقذفن، لاتتركن، لايلومن، لايولعن، لايضيعن، لايحسدن، إن شغلت، إذا رأيت، إن استطعت، لايكونن.. إلى آخره. هذه اللغة العارية المباشرة هي التي سيكون فيها مقتل ابن المقفع. لقد انتقل بها من التصوف إلى التبشير، من الرمز والإيحاء إلى التوجيه والتعليم والتهذيب، في إيقاع سريع لاهث، وفواصل متدفقة كتدفق حركة الموج، منسابة كأنها تيار من العذب السائغ يتلقفه الظماء.

يقول ابن المقفع في كتابه "الأدب الكبير".

في وصف الحذر

إذا تقلدت شيئا من أمر السلطان وغيره

إن ابتليت بالسلطان فتعوذ بالعلماء. واعلم أن من العجب أن يبتلي الرجل بالسلطان، فيريد أن ينقص من ساعات نصبه وعمله فيزيدها في ساعات دعته وشهوته. وإنما الرأي له والحق عليه، أن يأخذ لعمله من جميع شغله، فيأخذ "له" من طعامه وشرابه ونومه وحديثه ولهوه ونسائه (قدر ما يكون به إصلاح جسمه وتقوية له على إتمام عمله. وإنما تكون الدعة بعد الترفع).

في المشورة

لاتقذفن في روعك أنك إن استشرت الرجال ظهر منك الحاجة إلى رأي غيرك، فإنك لست تريد الرأي للافتخار به، ولكن تريده للانتفاع به. ولو أنك مع ذلك أردت الذكر كان أحسن الذكرين وأفضلهما عند أهل الفضل أن يقال: لايتفرد برأيه دون استشارة ذوي الرأي.

في التماس رضا الناس

إنك إن تلتمس رضا جميع الناس تلتمس ما لا يدرك. وكيف يتفق لك رأي المختلفين؟ وما حاجتك إلى رضا من رضاه الجور، وإلى موافقة من موافقته الضلالة والجهالة؟ فعليك بالتماس رضا الأخيار منهم وذوي العقل، فإنك متى تصب ذلك تضع عنك مئونة ماسواه.

لاتمكن أهل البلاء (الحسن عندك) من التذلل، ولاتمكن من سواهم من الاجتراء عليهم والعيب لهم.

لتعرف رعيتك أبوابك التي لاينال ما عندك من الخير إلا بها، والأبواب التي لايخافك خائف إلا من قبلها. احرص الحرص كله على أن تكون خبيراً بأمور عمالك، فإن المسيء يفرق من خبرتك قبل أن تصيبه عقوبتك، وإن المحسن يستبشر بعلمك قبل أن يأتيه معروفك.

ليعرف الناس فيما يعرفون من أخلاقك أنك لاتعاجل بالثواب ولا بالعقاب، فإن ذلك أدوم لخوف الخائف، ورجاء الراجي.

موعظة جامعة

عود نفسك الصبر على من خالفك من ذوي النصيحة، والتجرع لمرارة قولهم وعذلهم. ولاتسهلن سبيل ذلك إلا لأهل العقل والسن والمروءة، لئلا ينتشر من ذلك ما يجترئ به سفيه، أو يستخف به شانئ. لاتتركن مباشرة جسيم أمرك، فيعود شأنك صغيرا، ولا تلزم نفسك مباشرة الصغير، فيصير الكبير ضائعا.

اعلم أن رأيك لايتسع لكل شيء، ففرغه للمهم، وأن مالك لايغني الناس كلهم، فاختص به ذوي الحقوق، وأن كرامتك لاتطيق العامة، فتوخ بها أهل الفضائل، وأن ليلك ونهارك لايستوعبان حاجتك وإن دأبت فيهما. وأنه ليس لك إلى أدائها سبيل مع حاجة جسدك إلى نصيبه من الدعة، فأحسن قسمتهما بين دعتك وعملك.

واعلم أنك ماشغلت من رأيك في غير المهم أزرى بالمهم، وماصرفت من مالك بالباطل، فقدته حين تريده للحق، وما عدلت به من كرامتك إلى أهل النقص أضر بك في العجز عن أهل الفضل، وماشغلت من ليلك ونهارك في غير الحاجة أزرى بك في الحاجة.

اعلم أن من الناس ناساً كثيراً يبلغ من أحدهم الغضب إذا غضب أن يحمله ذلك على الكلوح والتقطيب في غير من أغضبه، وسوء اللفظ لمن لاذنب له، والعقوبة لمن لم يكن يهم بعقوبته، وشدة المعاقبة باليد واللسان لمن لم يكن يريد به إلا دون ذلك. ثم يبلغ به الرضا إذا رضي أن يتبرع بالأمر ذي الخطر لمن ليس بمنزلة ذلك عنده، ويعطي من لم يكن يريد إعطاءه، ويكرم من لاحق له ولامودة.

فاحذر هذا الباب (الحذر) كله؟ فإنه ليس أحد أسوأ حالا من أهل القدرة الذين يفرطون باقتدارهم في غضبهم ورضاهم، فإنه لو وصف بهذه الصفة من يلتبس بعقله، أو يتخبطه المس، أن يعاقب في غضبه غير من أغضبه، ويحبو عند رضاه غير من أرضاه، لكان جائزا في صفته.

 

فاروق شوشة