متى تنتهي حيرتنا العقلية وتبدأ معجزتنا الاقتصادية؟

متى تنتهي حيرتنا العقلية وتبدأ معجزتنا الاقتصادية؟

حديث الشهر
إلى متى نظل في حيرة من أمرنا، نراوح في المكان، بينما نماذج النجاح القريبة منا توضح لنا أي طريق نسلك؟

لا أذكر عدد المرات التي طرحت فيها قضية التقدم على صفحات "العربي"، وغيرها من المجلات والصحف، ولاأذكر أيضا عدد المرات التي بحثت فيها عن إجابة للسؤال الدائم الذي يراودني والذي لا أشك أنه يرادوكم أيضا: لماذا تقدموا هم وتأخرنا نحن؟ وهم هنا أناس عديدون في الشمال والجنوب في الشرق أو الغرب. وبرغم الإجابات العديدة فإن الوضع العربي مازال يواصل مرحلة التردي التي يخوض فيها منذ عقود، ورحم الله أستاذنا طه حسين حين قال: "يقولون إننا في مرحلة انتقالية وإن النهضة آتية، وأنا أرى أن هذه المرحلة قد طالت أكثر مما هو مقدر لها، وأن النهضة قد تأخرت أكثر مما ينبغي".

لقد علقنا أسباب التخلف العربي على عدد من المشاجب وسقنا له العديد من المبررات بداية من التركة الاستعمارية الثقيلة، إلى إسرائىل التي تستنزفنا، إلى قلة الموارد المتاحة، وهجرة الأدمغة إلى الخارج ولكن يبدو أن المسألة أكثر تعقيداً من ذلك، لأنها تتعلق أساسا بالحالة الذهنية العربية، وهي حالة كما أرى مزمنة لا علاج لها إلا بإدخال عالمنا العربي كله إلى غرفة إنعاش مركزة لعله يفيق قليلا ويرى الهوة التي ننزلق إليها جميعا.

إننا في حاجة إلى معجزة، وهي معجزة ليست وليدة الخوارق السماوية، فقد أخذنا نصيبنا منها، وليست وليدة الثروات الأرضية، فقد بددنا منها ما يكفي على حروبنا وخلافاتنا الداخلية، إننا في حاجة إلى معجزة "عقلية"، فالتقدم يأتي أولا من خلال تلافيف العقل قبل أن يأتي من نقل التقنيات واستيراد أدوات التقدم.

ولعل هذه هي القضية الأساسية التي يثيرها كتاب "المعجزة" الذي ترجم أخيرا إلى العربية. من دار النهار اللبنانية في نهاية العام الماضي، وبتعاون مع مؤسسة الأمير طلال بن عبد العزيز آل سعود، ومؤلفه مفكر وسياسي فرنسي هو آلان بيرفيت، وقد شغل في فرنسا وزارات عديدة في الستينيات والسبعينيات وأوائل الثمانينيات، ومن المناصب التي تقلدها وزارات الإعلام والثقافة والعدل والبحث العلمي من جملة مناصب أخرى وهو الآن عضو في أكاديمية العلوم الفرنسية.

والكتاب عنوانه الكامل "المعجزة في الاقتصاد من المدن الفينيقية إلى اليابان" وهو في الأصل، مجموعة محاضرات ألقيت في معهد الكولج دي فرانس الشهير، تبحث في أسباب التقدم البشري، وأيضاً أسباب تخلفه.

يبدأ الكاتب بالطواف للبحث عن أسباب التخلف: هل هي قابعة في الاستعداد الفطري للبشر أو هي محض ثقافية؟ أي في تربيتنا وتشعبنا الذهني مما تلقيناه من أهلينا وأقربائنا ومجتمعنا؟ ويتساءل ماذا يعني أن بلدا ما نام أو بالأصح متخلف؟ ويقول إنه من الأدعى للراحة، بطبيعة الحال، إلصاق تهمة التخلف بالمناخ أو التضاريس أو النظام السياسي أو الإمبريالية أو حتى صندوق النقد الدولي، وهي أسباب قد تكون ساعدت في الوقوف على باب التنمية دون الولوج إليه، ولكن السكوت عن بعض قيود البيئة الاجتماعية أمام الذين يكابدونها هو سكوت عن عمد، فالأدعى إلى الراحة أن يتم تفسير التقدم والتخلف في التنمية بمعايير الجغرافيا لا الذهنيات والثقافات.

إن ما ينبغي تفسيره في هذا المجال ليس التخلف، بل النمو، فأبرز ما يسم نصف القرن المنصرم، على الأرجح، هو الوعي المتنامي للشعوب ـ بفعل تطور وسائل الاتصال ـ للهوة التي لاتطاق، التي تفصل بين البلدان المتقدمة والبلدان المتخلفة، ولعل السمة الأبرز على الأرجح في القرن الذي ينتظره العالم بعد سنتين من الآن، هي تفاقم هذا الخلل بفعل الانفجار السكاني في البلدان المتخلفة، وبفعل التراجع المتزامن معه في معدلات الولادة في البلدان المتقدمة، ولايخضع التقدم والتخلف في نظر المؤلف لحتمية جغرافية الشمال والجنوب، فهناك في الشمال مجتمعات متخلفة كالإسكيمو والاينويت في ألاسكا، وهي مجتمعات حافظت على سمات التخلف بكل أشكاله وأبرز معانيه، أما في المناخ المعتدل في نصف الكرة الشمالي والنصف الجنوبي منها، فيمكن العثور على مجتمعات متقدمة وأخرى متخلفة، يكفي أن نذكر أن الجزائر وتونس مثلا تقعان في الشمال من طوكيو، وكذلك لوس انجلوس وفلوريدا، كما كان الجنوب حتى القرن السابع عشر الميلادي مركزا للمجتمعات الأكثر ازدهارا ثم توقف فجأة عن أن يكون كذلك منذ ذلك الحين، ويقرر الكاتب أن لا أحد يجزم علميا أن المناخات الباردة أو المعتدلة هي المحرك لعمية التقدم، في حين أن المناخات الحارة تحكم على مجتمعاتنا بالجمود والتخلف.

بصرف النظر عن التسميات المختلفة فإن الحقيقة التي تواجه العالم أن هناك مجتمعات متطورة يبلغ مجموع سكانها خمس العالم فقط، بينما هناك مجتمعات غير متطورة تمثلها أربعة الأخماس الباقية من سكان العالم، وهذه الحالة القلقة بين بلدان متخلفة أكثرية وأخرى متقدمة أقلية تواجه الإنسانية بواحد من أخطر التحديات المستقبلية.

ظواهر التخلف

البلدان المتطورة هي بلدان أوربا الشمالية والولايات المتحدة الأمريكية واليابان ودول النمور الصغرى، كوريا الجنوبية وتايوان وسنغافورة وهونج كونج، ومعها الآن التخوم البحرية الجنوبية للصين، أي نحو من سدس إلى سبع العالم، أما الدول غير النامية فهي بلدان إفريقيا بمجملها، وآسيا عدا البلدان المذكورة سابقا، مضافا إليها بعض البلدان المنتجة للنفط في الشرق الأوسط "وهي في نظر المؤلف غير متطورة ولكن يحملها مخزونها النفطي إلى مصاف استهلاكية متطورة" وهذه الدول "غير النامية" يعيش بها نحو ثلاثة أرباع السكان في العالم، وبين هاتين الكتلتين هناك كتلة ثالثة صغيرة تتمثل في بعض بلدان أوربا الشرقية والوسطى، وبعض بلدان أمريكا اللاتينية وجنوب شرق آسيا التي تنعم الآن بوضع متوسط، ومجموع سكان هذه البلدان يمثل واحدا من ثلاثة عشر من مجموع سكان العالم.

بعبارة أخرى فإن المجموعات الثلاث التي يتوزع عليها سكان الأرض، مؤلفة من 800 مليون ثري، وأربعة مليارات فقير، و400 مليون متوسط الحال، ويبلغ متوسط دخل الفرد الواحد في المجموعة الأولى 12 ألف دولار في العام، وأدنى من 3 آلاف دولار في المجموعة الثالثة. الأرقام ليست بالضرورة مؤشرا صحيحا على الفقر أو الغنى، قد تخضع أحيانا لرغبة في المغالاة، أو على العكس من ذلك لرغبة في تمويه الفقر للبعض حيال ثروة الآخر، لذلك يلجأ المؤلف لتمييز الدول الفقيرة وفق ظواهر منها:

1 ـ أن الدول الفقيرة تحيا في ظل اقتصاد الكفاية، تنصرف إلى اقتصاد منزلي، أو إلى تبادل عيني مع الجوار، وعندما تبدأ عملية النمو، يسهم الاقتصاد غير المنظور "الخفي" والعمل غير المرخص، ودوائر التبادل الموازية، في إرباك عملية التنمية.

2 ـ تتراوح الاحتياجات الإنسانية بحسب البلدان، فتكلفة التدفئة والسكن والملابس في سريلانكا مثلا أقل مما هي عليه في كندا، كما يستحيل حساب عناصر المعيشة التي توفرها الطبيعة بسخاء للبعض، في حين أن تكلفة الحصول عليها للبعض الآخر تكون باهظة الثمن. كما يعدد الكاتب ظواهر أخرى منها انخفاض قيمة العملة، والخلل لفادح في توزيع الثروة.

المؤشرات الرقمية

إن المؤشرات الرقمية الواجب البحث عنها لسبر الفقر هي ـ ضمن مؤشرات أخرى ـ :

أولا: معدل الوفيات بين الأطفال، فخلال السنة الأولى من أعمار الأطفال تسجل من أصل كل ألف مولود، 103 حالات وفاة في إفريقيا، و81 حالة في آسيا، و54 في أمريكا اللاتينية، و13 في أوربا، و10 في أمريكا الشمالية.

ثانيا: سوء التغذية فلا يتوافر لنصف سكان البلدان الفقيرة الـ 2500 وحدة حرارية التي يحتاج إليها الفرد الواحد يوميا، وسوء التغذية هذا يرجع إلى نقص في الكمية والنوعية أيضا.

ثالثا: الأمية فأكثر من نصف سكان الهند وباكستان وبنجلاديش وإفريقيا من الأميين.

رابعا: التمييز بين الجنسين فمتوسط نسبة التعليم لدى الذكور في الجنوب تبلغ ضعفي ما هي عليه لدى الإناث، وتميل هذه النسبة إلى الارتفاع في الهند والدول الإسلامية.

فالهوة تتسع بين البلدان الفقيرة والبلدان الثرية. إن مؤشرات التطور السابقة تسمح لنا بتحديد هذا التطور، غير أنها لا تخبرنا بأسبابه ولا بطرق الوصول إليه.

مراسيم النمو

النمو والتقدم لايتحققان بمراسيم، لقد جرى السعي حثيثا لتطبيق معالجات البلدان الثرية على البلدان الفقيرة، ولكن هذه المحاولات باءت بالفشل، لأن الذهنية الراسخة قاومت نقل تقنيات الإنتاج والإدارة الحديثة، وجعلتها غير مجدية، بل سلبية، لقد ساد الاعتقاد لردح من الزمن أن اقتصادا ما بمجرد نقل الآليات المادية أو الإجراءات الشكلية يمكن أن يتطور، ولكن الكثير من خيبات الأمل التي تكررت خلال نصف القرن الماضي تجعلنا ندرك أن هذا الزعم كان سرابا، فكما أن المجتمع لايتغير بمرسوم، كذلك الاقتصاد يستحيل انطلاقه عبر فرض نمط من الخارج عليه.

لقد سعى النمط الغربي بصيغتيه البارزتين: الاشتراكية والرأسمالية، إلى التوسع ليسود البشرية، فالاستعمار الرأسمالي من جهة، والتأميم الذي يستلهم الماركسية من جهة أخرى، قد تقاسما العالم النامي، وقد اخفقت الصيغتان في السيطرة على العالم، أو تقديم نموذج كامل يحتذى به.

إن الاستعمار الرأسمالي مهما بدا مثاليا في ذهن رواده، ومهما بلغت محاولات الاستيعاب التي خاضها، لم يخلف إلا بصمات هيمنة غير مقبولة على الشعوب ولم يذلل المعوقات التي تحول دون التنمية، بل كان غالبا ما يفاقم في شروط التبادل الذي يعتاش منه، والذي أدى في النهاية إلى ظاهرة رفض عنيفة اجتاحت معظم البلدان المستعمَرة.

كذلك الأمر بالنسبة للنظام السوفييتي الذي نقل عنوة إلى الشعوب المختلفة وسمي بـ "الديمقراطيات الشعبية" فقد أثار أيضا موجة من اللاتسامح أدت ليس فقط إلى تفتيت الإمبراطورية السوفييتية، بل إلى انهيار النظام الاشتراكي نفسه.

شكل ثالث للصراع ضد التخلف

لقد حاول العالم أن يجد طريقا ثالثا للتغلب على التخلف، يعتمد على اسداء النصح وتبادل الخبرات، مصحوبا بالمنح والقروض، وقد نجم عن ذلك قدر أقل من الآثار السلبية، هذا الشكل من الحرب ضد التخلف لم يشهد سقوطا تاما غير أنه استتبع قدرا من خيبات الأمل في العالم الثالث، على سبيل المثال عودة النظم الاستبدادية بقوة، الحروب الأهلية والقبلية، خاصة في العالم الأقل نموا، استيلاء طبقة أو شريحة من المجتمع على السلطة والثروة، وتفشي الفساد والهجرة من الأرياف إلى المدن المكتظة، وتكدس السكان في ضواحي الفقر حيث البؤس والمخدرات والجريمة، وما الأزمات التي نراها حولنا إلا نتاج هذه الأزمة المستحكمة في النمو.

هذه الأشكال الثلاثة للصراع ضد التخلف قد برهنت، أو تبرهن على قصورها وعلى أنها لاتفي بالغرض المراد، فهل ينبغي أن نستسلم أو أيسعنا أن نستسلم؟ هكذا تساءل المؤلف.

أصل التقدم وسره

لايتردد الكاتب في أن يشير إلى أن أصل التنمية والتقدم في أي مجتمع هو الثقافة الجمعية للمجتمع، فعندما تخفق المحاكاة الشكلية، المنقولة من مجتمع إلى آخر، لقواعد اقتصاد عقلاني وتفشل في الاستنهاض، فإن السبب يجب أن يأخذنا إلى فحص التربية الفردية والتثاقف الجمعي، وشكل القيم السائدة، ولكن ما هي هذه التربية وما هي هذه الدفعة الروحية؟ التي نتوخاها لاستنهاض التنمية، تلك عقبة يصعب الاتفاق عليها، لأن المجتمعات المتطورة لاتدرك بالفعل سرها الخاص في التطور، وهناك على هذا الصعيد من النظريات ما يوازي عدد المنظرين، ولم تتمكن أي نظرية من فرض ملاءمتها.

لقد حاول المنظرون منذ والت ويتمن روستو أن يحدد عام الانطلاقة في المجتمع الصناعي في بريطانيا وكان ،1783 ولكن ثبت بعد ذلك أن بداية الانطلاق البريطاني كانت قبل ذلك، واختلفوا في تحديد أسبابها، وإن كان تاريخ الاقتصاد الغربي غير محدد بعد كل هذه الدراسات الكثيفة فكيف يستطيع أحد أن يعلم الآخرين ما في بلادهم ما لايعرفه في بلاده.

ويبدو هذا الأمر محيرا أكثر في غمرة تدبير نظام عالمي جديد. لقد انتهى الرعب المتبادل الذي بدأ سنة 1945 وكان عنصر استقرار نسبي على كوكبنا، وزالت المواجهة بين الشرق والغرب، بين الديمقراطيات التمثيلية والجمهوريات الشعبية، لنكتشف أن هناك مجابهة أهم بين الشمال والجنوب، أي التعاظم في التفاوت بين شعوب فقيرة وشعوب ميسورة، وليست التنمية معجزة لهذه البلدان الفقيرة ترغب أن تتحقق بل لنعترف أنها سراب يبتعد يوما بعد يوم، ولأن التنمية ليست شروطا مادية فحسب، فهي لايعاد إنتاجها متى ما شئنا، إذن فإن البحث عن سر أو أسرار هذه التنمية في عالم يتوق إليها ويحتاج إليها أيضا عملية واجبة بل ومطلوبة.

هل التنمية مادية فقط؟

في معظم الكتابات يكون الجواب على سؤال: لماذ حدث الازدهار الصناعي المبكر في بلد مثل بريطانيا؟ تكون الإجابة: لأن إنجلترا كانت تملك الفحم الحجري، هكذا تجيب كتب التاريخ والجغرافيا، وعند متابعة السؤال: لماذا كانت فرنسا أقل بروزا على هذا الصعيد الصناعي؟ تكون الإجابة لأن مناجمها أشد فقرا، وعند السؤال: لماذا استطاعت اليابان أن تصبح بلدا صناعيا في هذه الفترة القصيرة؟ كتب أخرى أو الكتب نفسها تقلب التفسير رأسا على عقب فتقول، كان على اليابانيين أن يصدروا المنتجات الصناعية، لأنهم مجبرون على تسديد تكلفة ما يستوردونه من الفحم لأنه غير متوافر لديهم؟

كيف نثق بهذا التفسير "المادي" الذي ينقلب الوجه فيه قفا بجرة قلم؟

والسؤال الملح هو: ما هي العلامات الظاهرية للنماء؟ إنها الازدياد الناجز ذاتيا لبعض المقدرات الاقتصادية، يعطيها الاقتصاديون بعض المسميات المتعارف عليها مثل إجمالي الناتج القومي، ارتفاع معدل دخل الفرد في المجتمع، الصادرات السلعية والخدمية المنظورة وغير المنظورة، ارتفاع معدل الاستثمار، التطور في تخصيص الأيدي العاملة، التجديد في التكنولوجيا، تقدم القطاعين التحويلي والخدمي إلى آخره من المؤشرات، فالنمو هو مزيج من التغيرات الذهنية والاجتماعية لشعب ما، يكون قادرا على زيادة إنتاجه الإجمالي الحقيقي تراكميا وعلى نحو مستمر، فالتغير الذهني هو الأساس والحاسم كفاعل أكثر منه مجرد عامل في التنمية.

لايمكن لأي دارس جاد لشروط التنمية استبعاد أكثر السمات المادية في المجتمع من تلك الشروط، كالدين، والأحكام المسبقة، والخرافات، والمحرمات، والدوافع إلى العمل والموقف حيال السلطة السياسية، وردود الأفعال التاريخية، والأخلاق الفردية والجماعية ونظم التربية ومجمل القيم الثابتة في المجتمع، لأنها تؤثر في سلوك كل شعب وتحور مسار كل حضارة، حتى في أكثر المجالات مادية، كالاستثمار وعلاقات الإنتاج والتبادل ومعدلات النمو، يكون لتلك العوامل دور فاعل، لذلك يتساءل المؤلف: لم لايكون الاقتصاد بعيدا عن اختزاله في معطيات مادية خالصة مثل المواد الأولية ورءوس الأموال؟ لم لا يكون قبل ذلك ذهنية مواتية للاقتصاد؟ ماذا لو كانت الديمقراطية لاتنحصر في المؤسسات؟ بل تتطلب حسا عاما قادرا على تفعيلها؟ لماذا لايكون العامل الذهني هو الحاسم "وليس الوحيد بالطبع" لأسباب التخلف والتقدم الاقتصاديين؟

تتعدد الأسباب والنتائج على نحو يجعل من العبث الاعتقاد أن خيطا واحدا قد يحل العقد المستحيلة، فالتاريخ ليس خيطيا، بل هو متعدد الأبعاد، لذا يجب أن تكون دراسته متعددة الاختصاصات، ومن العبث أن نعزل عاملا من العوامل أو أكثر زاعمين أنه يفسر كل شيء، ولكن يبدو مفيدا أن نشير بين عوامل كثيرة إلى أهمية العامل الذي يغفله الكثيرون وهو السلوك البشري، قد يكون أكثر العوامل أهمية، فضلا عن كونه أكثر ارتباطا بنا.

ما هي مميزات الاقتصاد غير النامي؟

يعدد لنا المؤلف هنا مجموعة من العوامل "الاثني عشرية" التي إن اجتمع معظمها في مجتمع فإن اقتصاده يمكن أن يوصف بأنه غير نام وهي:

1 ـ أنه مجتمع غير متحرك، يتقوقع مكتفيا بإعادة إنتاج نفسه ويتحصن أفراده قانونيا في وظيفة ثابتة، فرضت عليهم، أما الحركية الاجتماعية والمهنية فيه فقد تكون محط شبهة.

2 ـ أنه مجتمع معاد للتجديد، إذ ينظر فيه إلى الابتكار التقني أو الفكري على أنه مجرد فضول لاطائل من بعده، وينظر إلى التجديد بوصفه بلبلة، فالسنن والعادات والسلوك تنقل من جيل إلى جيل وفق تقليد تحف به المعتقدات، وأي سلوك يجانب السائد هو سلوك مرذول.

3 ـ أنه مجتمع مقطع، إذ تنحصر حركة الأفكار والأشخاص فيه ضمن أطر هي أشبه بالقنوات المقلقة، فلا يسود الانسجام بين أفراده بفعل شبكة مشتركة من الإعلام أو التعليم، لذلك يشكل التنافر الذي يسود المجتمع عائقا يحول دون قيام اقتصاد تبادلي حقيقي.

4 ـ أنه مجتمع غير متسامح، يمارس على أفراده رقابة صارمة، حيث ينظر إلى الاستقلالية الفكرية بوصفها أمارة على التفكك والفساد.

5 ـ أنه مجتمل ظلامي تحتكر فيه فئة قليلة سبل العلم والمعرفة، ويضيق فيه على الكلمة والمطبوعة بطرق شتى.

6 ـ أنه مجتمع يخضع للوصاية وتمارس عليه الإقطاعيات السياسية أو الدينية التي تتحكم بمجمل الأنشطة الاجتماعية فيه والتراتب فيه مقدس، ويدعي المجتمع أنه يعرف يقينا ما يصلح للأفراد أكثر من الأفراد أنفسهم.

7 ـ أنه مجتمع ذو اقتصاد مكبل، العرف هو الذي يحدد فيه مقادير وأشكال الإنتاج والتبادل والاستثمار، فالمرجعية فيه هي سلطة الوصاية لا المبادرة والتنافسية مما يمت إلى تنظيم النشاط أو تقسيم العمل، فيسود المجتمع الركون إلى المداخيل الظرفية.

8 ـ أنه مجتمع ذو اقتصاد خاضع للهيمنة، ذلك أن إنتاج الخيرات فيه يكون تحت سيطرة القيمين على السلطة "سواء كانوا من الداخل أو الخارج" ولا يملك سكان البلد الأصليون القدرة على استغلال مواردهم بأنفسهم، وعليهم إما أن يتركوها دون استغلال وإما أن يستنجدوا بالخارج لاستغلالها.

9 ـ أنه مجتمع يتميز بصحة عامة هشة، النظافة فيه بدائية، والمرض يسبب الكوارث، وتسود فيه نسبة وفيات مرتفعة ويستسلم للأوبئة والأمراض.

10 ـ أنه مجتمع تسوده معدلات ولادة مرتفعة، حيث تعوض معدلات الوفيات في الأطفال بمعدلات خصوبة مرتفعة غير مسئولة، فالحياة في مثل هذه المجتمعات لاتستمر بالتحوط ولا تورث بوصفها مشروعا حيويا، بل تنتقل وكأنها عدوى محتمة.

11 ـ إنه مجتمع حاجة إذ لايتوافر فيه لنسبة كبيرة من السكان الحد الأدنى الضروري للبقاء، وهؤلاء ليسوا بمنجى من الفاقة.

12 ـ إنه مجتمع تشنجي فحينما تكون شرعية السلطة موضع اعتراض تصبح هذه الأخيرة عاجزة عن ضمان الأمن وعن كسر الحلقة المفرغة لتصفية الحسابات الفردية والعشائرية والقبلية، وحال انعدام الأمن تعوق بل تمنع أي تخطيط اقتصادي مستقبلي وأي استثمار، ويجد المجتمع في صراعاته الإثنية مخرجا لمصاعبه السياسية والاقتصادية والاجتماعية، مما يطيل من عمر تشنجاته الداخلية.

هذه عناصر يعتقد المؤلف أنها تمثل الظواهر المصاحبة للتخلف، وهي ظواهر ليس بالضرورة أن تكون كلها ملازمة لمجتمع معين حتى يوصف بالتخلف، بل يكفي بعضها أن يظهر على سطح المجتمع ليكون ذلك.

مميزات الاقتصاد النامي

وعلى العكس من الظواهر السابقة، فإن هناك ظواهر إن وجدت في مجتمع فإنها تدل على تركيبة التطور وهي أيضا اثنا عشرية.

1 ـ الحركية الاجتماعية وهي تظهر في تطور المجتمع المدني والقدرة على التكيف المؤسسي.

2 ـ قبول الجديد وطلبه، ذلك أن الاستشراف، والتخطيط المستقبلي واحترام البحث والتطوير، والتجديد والمبادرة هي لهذا المجتمع بمنزلة قيم يسعى إليها وليست مخاطر يتوجب الابتعاد عنها لخطورتها على المجتمع.

3 ـ خلق انسجام يسود المجتمع عبر حركة ميسرة للخيرات والأشخاص والمعلومات.

4 ـ التسامح حيال الأفكار المهجنة المبنية على التشبث بالتعددية.

5 ـ الرهان على التعليم أي الثقة في التطور الفوري ونشر الثقافة.

6 ـ السعي وراء تنظيم سياسي يكون شرعيا في نظر السواد الأعظم من الجمهور.

7 ـ استقلالية عمل النشاط الاقتصادي، واحترام المبادرة الاقتصادية وتشجيعها.

8 ـ اقتصاد مبني على تعاون السواد الأعظم من الشعب ولصالحه.

9 ـ اعتبار الصحة العامة قيمة جوهرية بالتصدي لمعدل الوفيات العالي، وضمان حد أدنى من العلاج الصحي وتوافر الأدوية.

10 ـ الحفاظ على معدلات ولادة مدروسة تتسم بحس المسئولية وعدم مصادرة الحياة.

11 ـ تنظيم عقلاني للموارد الغذائىة من خلال سوق حرة ولكن تنافسية.

12 ـ عنف قانوني تمارسه فقط السلطتان التنفيذية والقضائىة من خلال قوانين نابعة من المجتمع.

إذا ما سلمنا جدلا بهاتين التركيبتين لمواصفات المجتمعات المتطورة والمتخلفة بصفاتها المتناقضة الاثني عشرية نكون قد سلمنا بحاجتنا إلى إدراك مشكلة التنمية فكريا، وهذه الأفكار قد نحت الاقتراب الكلاسيكي السابق لمشاكل التنمية وهي الاقتصار على عنصر رأس المال والعمل لدى المفكرين الليبراليين والاشتراكيين على حد سواء، ويقترح الكاتب أن يسمى العامل الذهني "العامل الثالث"، ويعتقد أن هذا العامل قد أخفق في التعرف عليه مفكرو الاقتصاد الكلاسيكيون، فالاستعدادات الذهنية والبيئية الثقافية لشعب ما تشكل تربة قد تساعد على نمو بعض النباتات وقد تيبس نباتات أخرى في التربة غير صالحة.

أمثلة لاختبار النظرية

لايترك المؤلف هذه النظرة مجردة من التطبيقات، فيطوف بك للتدليل على صحتها أمثلة كثيرة لايسمح المقام هنا باستعراضها جميعا، ولكن لابأس من اختيار بعضها للتدليل على ما ذهب إليه، فيأخذ مثلا بالعامل الجغرافي الذي يتماثل في بعض المجتمعات وينتج نتائج مختلفة، فبمقارنة الإنتاج الزراعي في التاميل، في المنطقة الجنوبية الشرقية من شبه القارة الهندية، بمناطق إفريقيا الاستوائية، نجد أنه برغم تماثل المناخ فإن الإنتاج الزراعي في بلاد التاميل يستطيع الكيلو متر المربع فيه إطعام حوالي أربعمائة شخص، في الوقت الذي لاتستطيع فيه نفس المساحة في إفريقيا الاستوائية أن تطعم أربعة أشخاص. يستنتج المؤلف أن أسباب هذا الفارق تكمن في البشر لا الأرض. والمثل الثاني يأتي من أوربا فيضرب مثلا بمنطقة الالزاس التي ظلت حتى القرن الثامن عشر تنمي خيرات أرضها ومواردها الجوفية، ثم أخذت الثروة المعدنية تستنفد فيها بدءا من القرن التاسع عشر ومع ذلك ظلت الالزاس من أنشط اقتصادات أوربا في القرن الماضي حيث توجه رأس المال الأوربي للاستفادة من جدية اليد العاملة، وفعالية المنشآت الصناعية، وهما العاملان الحاسمان اللذان أبقيا المنطقة نشطة اقتصاديا في أعلى درجات تصاعد كلفة النقل والحواجز الجمركية في أوربا.

الشروط النادرة

التطور هو سلعة تاريخية نادرة، ولاغنى له عن بعض الشروط الثقافية، هذه الشروط لاتجتمع بالسهولة التي يحسبها البعض، وتبيانها يتطلب استقصاء تاريخيا. التخلف في مسيرة البشرية هو العادي، والتطور هو الاستثناء. لقد فارق فرنسا النمو حتى أواسط القرن التاسع عشر، وكانت المجاعة هي السبب في اندلاع الثورة الفرنسية، وأبادت الكوليرا بعدها سكان باريس في الثلث الأول من القرن الماضي، وبقى شبح الجوع يحوم حولها حتى نهاية القرن، منذ مائتي عام لا أكثر كان نصف الأطفال في بلدان أوربا الغربية يموتون قبل سن البلوغ.

التطور والنمو في نظر المؤلف هما معجزة نادرة وغير قابلة للتقليد إلا بفعل تحول داخلي، في المجتمع المعني، ولكن هذه "المعجزة" قابلة للتحليل العلمي. لقد نجحت ألمانيا بعد الحرب الثانية لسببين: المعونة الأمريكية والبدء من جديد في ترميم الماضي، أما المعجزة غير المادية فقد كانت في ألمانيا شكلا مستحدثا من المشاركة في الإدارة التي كان شعارها "لن ننجو من هذا الحال ما حيينا إذا اخترنا أن نتعارك، فلنعمل معا" ومن الملاحظ أن الكاتب يبحث أيضا في المعطيات غير المادية للنمو مثل الثقة بالنفس والإيمان، لأن الإيمان والثقة هما الصنوان الديني والعلمي للنمو.

لاشك أن مثل هذا الكتاب يقدم لنا منظورا آخر لسبل التنمية التي تكافح الشعوب للوصول إلى أول دروبها، وهو يشير إلى أن هذا الحلم بالدخول إلى الجنة وتحقيق المعجزة ليس مرتبطا بأسباب مادية فقط لأنها حتى لو تحققت فلن تقدم لنا الوصفة الناجعة، هناك شروط غير مادية لتحقيق المعجزة الاقتصادية منها الشرط الثقافي العام وهو القدرة على قبول التغيير.

معجزات قديمة ومعاصرة

لايتوقف الكتاب عند المعجزات المعاصرة ولكنه يغوص في أعماق التاريخ لتتبع صور التجليات الأولية لها. وهو يرى أن سر أي معجزة يكمن في الثقافة أو مجموعة القيم التي يتبناها مجتمع ما.

فقد اعتنق اليهود فكرة التوحيد وأتاحوا الفرصة لنشر المسيحية، وأفردت المعجزة اليونانية مكانا متفرداً للمصائر الشخصية للبشر، وكان الفينيقيون أول من أداروا ظهورهم لليابسة وركبوا البحر ليبدأوا عصراً من التجارة بين الجماعات البشرية المتباعدة، وقد أخذ اليونانيون عنهم هذا الحس التجاري الذي كان يقوم على التبادل واخترعوا العملة، وتحول بذلك دور المعدن من غاية إلى وسيلة للشراء والبيع وقد تزامن تطور التجارة والعملة إلى بروز الديمقراطية في أثينا وقد شدد المؤلف كثيرا على الطابع الإنساني للديمقراطية اليونانية.

أما بالنسبة للحضارة المصرية القديمة، فلايقيم لها المؤلف وزنا كبيراً، فبرغم أنها ولدت كاملة بنظمها الإدارية والزراعية، فهي تمثل نوعاً من الوعي المحدود والساكن لأنها عاشت دائما تحت رحمة الطبيعة التي تجود عليهم أو لاتجود، عاشوا مرحلة من الانصياع لتوالي ظواهر هذه الطبيعة، أما الفينيقيون فقد تجاوزوا هذا الانصياع واكتشفوا فوائد التحرر من قيود الطبيعة وجعلهم هذا أكثر ثقة في ذكائهم وقدرتهم على السيطرة على هذه الظروف الطبيعية.

هذه هي نفس النظرة التي يواصل بها المفكر الفرنسي آلان بيرفيت تحليله لبقية المعجزات أو بالأحرى التحولات الكبيرة التي شهدها التاريخ البشري، إنها تحدي المخاطر والرغبة في الاستكشاف والتحرر من القيود الفكرية والدينية وحتى الطبيعية وهو يؤكد ذلك من خلال استقرائه أربعا من التجارب الكبرى هي المعجزات الهولندية، والإنجليزية، والأمريكية، وأخيراً اليابانية.

إن السر الكامن وراء المعجزة الهولندية كما يراه هوالتحرر، تحرر سياسي وتحرر ديني وتحرر اقتصادي، فالطبيعة ليست سخية في تلك الأراضي الواطئة، والمستنقعات تملؤها ولكنها تحولت إلى وطن لكل الذين لفظتهم أوربا بسبب آرائهم التحررية، لقد فتحت ذراعيها أمامهم وأتاحت لهم أن يحققوا أفكارهم ويمارسوا اختراعاتهم. لقد تخلصوا من النبالة والارستقراطية بشكلها التقليدي، كما تخلصوا من أي هيمنة متخلفة باسم الدين ولعبت الدولة دور الضامن للحريات الفردية وهذا هو الشيء الذي أتاح لكل الأفراد أن يمارسوا إبداعاتهم.

وقد فعلت إنجلترا ذلك من خلال معجزتها الصناعية، وهي لم تكتف بذلك ولكنها أرسلت العديد من التجار المغامرين الذين طافوا حول العالم يبحثون عن الخامات ويفتحون الأسواق. ويتحدث المؤلف عن نشأة الإمبراطورية البريطانية التي سادت العالم قائلا: كانت قطعان الخراف ترعى على مساحات أرضها، ولكي تبيع صوف هذه الخراف سعت إلى إيجاد أماكن للتسويق، فتزودت بأسطول وعملت على حمايته، وشيئا فشيئا ومن تحد إلى آخر تحولت السياسة الإنجليزية إلى سياسة بحرية وإمبراطورية.

وكذلك الحال في المعجزة الأمريكية فعلى مدى قرنين من الزمان، تمكن مجتمع ريفي، لم يكن أعداد المهاجرين إليه يتجاوزون الملايين الأربعة، من أن يتحول إلى دولة ـ قارة يفوق عدد سكانها المائتين وخمسين مليون نسمة، وأن تصبح القوة العظمى على وجه الأرض، بل إن صعودها إلى مكانتها الصناعية التي تفوقت بها على إنجلترا لم يتجاوز عقدين من الزمان، وقد كانت أمريكا في بدايتها تنقسم إلى مجتمعين، الجنوب الارستقراطي العبودي الذي يميل إلى الثبات، والشمال التجاري الصناعي الذي يندفع دوماً للمغامرة والتجريب من خلال استغلال منابع الحرية وقد انتصر الشمال وهو الذي حرر الطاقة الأمريكية.

اليابان القالب الشرقي

ولابد أن يستوقفنا حديث المؤلف عن المعجزة اليابانية، فقد حققت اليابان نجاحاً لامثيل له بقليل من المؤهلات على مساحة صغيرة نسبيا من الأرض، 80% منها أرض غير صالحة للسكنى و 17% منها فقط صالحة للزراعة، كما أن الطبيعة التي تواجهها بالغة العنف سواء أكانت في شكل أعاصير أو زلازل.

لقد قبل اليابانيون الانفتاح، وخرجوا من القالب الشرقي القديم، وتحدوا الغرب بعد أن تعلموا أسلحته، فقد أرسلوا العديد من البعثات للتعلم في الدول الغربية وأصبحوا يفكرون بطريقة أخرى ويتصرفون بطريقة أخرى أيضا، لقد أخذوا من الغرب تنظيمه السياسي، الاقتصادي، والاجتماعي، البرلمان من إنجلترا، القانون المدني والجزائي من فرنسا، الجيش من بروسيا "إحدى مقاطعات ألمانيا"، تنظيم الميزانية من أمريكا، صناعة الساعات من سويسرا، صيد السمك من النرويج، علم المرئىات والقانون التجاري من ألمانيا، الحرم الجامعي الأمريكي، المدرسة الابتدائية الفرنسية، التجارة الحرة والمشاريع والمقاولات والمرافئ والبورصة والبنوك كل ذلك على الطريقة الأنجلو ـ سكسونية.

وهكذا، كما يؤكد المؤلف، برغم أن اليابانيين كانوا يكرهون الغرب كرها شديدا فإنهم أقبلوا على الدراسات الغربية بشجاعة ومثابرة، وهم يدركون أنهم من غير هذه الدراسات لن يكونوا قادرين على المحافظة على بلادهم.

قد يكون المؤلف منحازاً إلى حد كبير إلى النمط الرأسمالي ويبدو هذا واضحاً من الثناء الواضح الذي يضفيه على التجربة اليابانية التي انتزعت نفسها من عالم الشرق الجامد، وهو يضيف محذراً في نهاية كتابه أنه ليس هناك إلا طريقان أمام الدول المتخلفة، فهي إما أن تتجاوز حقدها على البلدان المتطورة وتقلدها مكيفة أسرارها مع ظروفها الخاصة كما فعلت اليابان وتبنى قيما ثقافية منها التسامح وقبول التعددية واحترام القانون وإطلاق المبادرات. أو تستغرق عميقاً في الحقد وإحالة أسباب التخلف لا إلى الذات بل إلى جشع البلدان المتطورة.

ولايتوقف انحياز المؤلف عند هذا الحد، ولكنه يصل إلى رفض أن تكون الظاهرة الاستعمارية أحد أسباب التخلف. وهو يبدو أحيانا كمحامي الشيطان وهو يؤكد أن التخلف الأفريقي ما هو إلى نتاج عادات وتقاليد متخلفة برغم أن أرقام الاستنزاف للمواد الخام لهذه البلاد من وجهة نظر الآخرين تفوق الخيال، والحصار التقني والمعلوماتي المفروض عليها مازال مستمراً.

ومن الطبيعي في هذا السياق أن يهمل المؤلف أي تقويم للتجربة الاشتراكية حتى في البلاد التي لاتزال فيها هذه التجربة تؤكد وجودها وقدرتها على المواءمة كما هو حادث في الصين، إنه يكتفي فقط برصد التجارب التي تؤكد النهج الرأسمالي، برغم أن العديد من النظم الاشتراكية قد أحدث تلك النقلة أو المعجزة التي تحدث عنها في كتابه، وإن أدمجتها بقيمها وقيم جديدة.

وبرغم ذلك فالكتاب يقدم رؤية جديدة لسؤال مازال يؤرقنا، ويضع يده بشكل مباشر على الأعراض التي تعاني منها معظم بلدان عالمنا العربي.. وأعني بها أعراض الجمود العقلي.

 

محمد الرميحي

 
  




غلاف الكتاب