الصوم وبيولوجيا الأخلاق

الصوم وبيولوجيا الأخلاق

في عالم تتفجر طاقاته في كل اتجاه، صار البحث الأخلاقي العلمي أمانة، للحفاظ على شرف توجه هذه الطاقات، وهذاالمقال ـ البحث ـ نعتبره أداء لبعض هذه الأمانة، الأوجب في هذا الشهر الكريم.

أي طاقة في هذا الوجود هي بين ثلاث حالات: الكبت والانفلات والتنظيم، وينطبق هذا على قوى الطبيعة كما ينطبق على قوى النفس، وهكذا فالسدود هي عملية ضبط وتنظيم لطاقة الماء بين شح المياه في عام والفيضانات المدمرة في عام آخر، كذلك الكهرباء فهي بين حالة الصواعق الحارق أو القوة المهولة، واستطاع الذكاء الإنساني تسخير هذه الطاقة بأفضل من قصة »علي بابا والمصباح السحري والجني« حيث طوع هذه القوة الماردة والتي تشكل إحدى قوى الوجود الخمس الرئيسية في سلك رفيع نحيف ليرفع المصعد، وينير المصباح، يرن التليفون، ويضيء التلفزيون، يستقبل الفاكس، ويتوهج الكمبيوتر، كذلك هي الحال مع قوى النفس وغرائزها، فالغريزة الجنسية هي في حالة توتر بين الإفراط والتفريط، بين الوقاع بأشد من الأكباش والعنانة المحطمة، والعجز الجنسي المؤلم والمحير حتى للأطباء. إن استراتيجية الصيام تجاه طاقات النفس هي إنشاء »الذات المنتظمة« التي تصقل الإرادة من خلال رفع التوتر في مستوى المثل الأعلى كي يتم ضبط الغرائز وتنظيمها، ومنها الطاقة الجنسية التي تكسر حدتها ويسهل لجمها ويزداد تطويعها، وبقدر مايملك الإنسان في نفسه يملك العالم.

في نهاية عام 1493م بعد عام واحد من سقوط غرناطة ورحلة كولومبس لاكتشاف ماسمى بالعالم الجديد، حدثت واقعة عسكرية سخيفة في أوربا لم يأبه لها التاريخ كثيراً، وتحدث العشرات منها في أوربا دون أن تترك أية ذيول، وهي حادثة استيلاء الملك الفرنسي »كارل الثامن« على مدينة نيابل إلا أنها فجرت فيما بعد قنبلة مرضية تاريخية لم يتعاف منها الجنس البشري ويتمكن من السيطرة عليها إلا بعد مرور مايزيد على أربعة قرون، فما الذي حدث في هذه الحملة العسكرية المشئومة ياترى؟

تقول كتب التاريخ إن هذا الملك كان يقود حملة عسكرية قوامها 30 ألف جندي فيه خليط من الجنود المرتزقة من كل أوربا، منهم الألمان والإسبان والسويسريين، وبالطبع كانت القوة الضاربة من الجنود الفرنسيين، وفي نهاية هذا اللجب جيب من الداعرات قوامه 500 أنثى بهدف الترفيه عن هذا الجيش! ووصف الملك الشاب الذي كان في حدود 25 سنة بأنه كان ذا وجه يفيض بالشهوانية، وجسد غليظ، ورأس نادر مجوف يفيض بالبلادة، لم يعرف القراءة والكتابة ولا الحساب، كل ما عرفه وبرع فيه وأتقن فيه الصنعة كعشرة أبالسة هو الفساد، حكم فرنسا مدة 15 عاماً كاملة كغول بشع، مات عن عمر يناهز 28 عاماً في عام 1498م دون أن يترك هذا الأحمق الشبق أي أثر سياسي في مملكته، لم يشع من فنائه أية نبضات ثقافية أو روحية، كل تطلعاته في الحياة كانت التقلب في فراش الحب مع آلاف الإناث من جميع الأصناف والأشكال والأعمار.

ومما يذكر التاريخ وهو أمر لافت للنظر أن البابا الكسندر السادس الذي لم يكن بصاحب الذكر الطيب، خرج لاستقبال الملك الفرنسي ليحتفل بدخول روما قبل أعياد الميلاد، وليمتع الجيش العرمرم بتقديم آلاف الفتيات للترفيه، حيث تمت عربدة جنسية كاملة لمدة شهر بالتمام.

ثم يذكر التاريخ دخول الملك الفرنسي مدينة نيابل وممارسة الحب فيها أيضاً دون حدود، وتماماً في عام 1496 ومع موت الملك الفرنسي كارل الثامن قائد الحملة العسكرية، وقبطان سفينة الدعارة هذه، حدث تحول خطير مع تشرذم هذا الجيش في كل أوربا، وهو انفجار مرض الزهري أو »الأفرنجي« في كل أوربا، بل وفي العالم كله.

وصف شاهد في ذلك العصر منظر المصابين مع نهاية القرن الخامس عشر هو »جوزيف جورنبيك فون بوركهاوزن« سكرتير القيصر »مكسيميليان« على النحو التالي: »البعض كان مغطى من مفرق الرأس حتى أخمص القدم باندفاعات جلدية حاكة مثل الجرب، وطائفة ثانية تحمل اندفاعات جلدية محددة ولكن في قساوة لحاء الشجر، آخرون قد غطت أجسامهم التقيحات والبثور والفقاعات، وطائفة قد علت البثور وجوههم والآذان أو الأنف بما يشبه الأورام والخوابير في شكل ثآليل قاسية خشنة كبيرة الحجم مع رائحة تذكر بالطاعون«.

أمراض تصنع التاريخ

وفي أغسطس من عام 1496م كتب الدكتور سباستيان برانت ومؤلف كتاب »سفينة الحمقى« ما يلي: من فرنسا جاءت اللوثة اللئيمة وتسلل الزهري عبر الألب متجاوزاً نهرالدانوب إلى ألمانيا، والآن يحصد في تراسيا وبوهيميا ووصل الذعر إلى بولونيا حيث يسرع إليها.

ثم انفجر المرض في العالم برمته، وغلف بجناحيه السوداوين الكرة الأرضية، بحيث يزداد شدة عندما تزداد شدة الفسوق والانحراف الأخلاقي، وبالطبع لم يتفطن العالم بادئ الأمر إلى مسبب هذا المرض، ولم تكن عنده فكرة عن عالم الجراثيم والطبيعة الإمراضية التي تحملها الجراثيم، لكن ماعرفه وبشكل واضح، هو ارتباطه بالفسق الأخلاقي والشذوذ الجنسي والخيانة الزوجية، ويمكن تجنب المرض وعدم الإصابة به بالأحادية الزوجية والنظافة الأخلاقية وتحديد الفوضى الجنسية.

أصاب المرض شرائح واسعة من المجتمع الأوربي قواداً وملوكا، شعراء ومفكرين، فلاسفة ونوابغ، فنانين موسيقيين، وهذا دمر دماغ الفيلسوف الألماني »نيتشة« بالصمغ الإفرنجي، وتعفن النخاع الشوكي عند الشاعر المرموق »هاينة«، كما أصاب بيتهوفن بالصمم، وعطب ملك بريطانيا هنري الثامن فلم تولد له زوجته ماريا الحولاء سوى أولاد أموات بسبب انتقال المرض من زوجها إليها، فكان هذا سببا في زواج جديد له، بحيث نبذ الكنيسة الكاثوليكية ليتبنى المذهب البروتستانتي!! وهكذا تصنع الأمراض التاريخ!!

ومع استفحال مرض الزهري تدفق المشعوذون من كل حدب وصوب واخترعت مئات الوصفات التي تزعم الشفاء من المرض، لم يترك شيء غريب ومستهجن إلا وجرب للخلاص من هذا المرض، كل أنواع النباتات والطحالب، نقيع لحاء الشجر، غطس المرضى في دماء العجول المذبوحة حديثاً، كتابة الرقى للأرواح والنجوم والكواكب، استخدام علم الفلك والجن والأرواح والأشباح، مركبات اليود والبزموت والزئبق، ضمادات الخردل والحشيش والأفيون، وباختصار لم تبق مادة مشكوكة إلا وجربت، ولا عصير أو مستقطر أو محلول أو نقاعة أو خلاصة أو مزيج إلا واستخدم، وكانت أكثر الأدوية والتي تقترب في تأثيرها من التأثير السام هي جرعة الزئبق بمقدار خمسة جرامات، وكانت تظهر بعض التباطؤ في سير المرض.

وبقي هذا المرض يحصد الأرواح دون رحمة وكان أمام البشرية الانتظار للخلاص من هذا المرض التطور النوعي لكل من علم الطب والبيولوجيا وعلم الجراثيم والميكروسكوبات المكبرة بشكل كاف، وأهم من هذا كله اكتشاف المضادات الحيوية، ومع مطلع القرن العشرين في عام 1906 كشف الغطاء أمام عيني »فريتز شاودين« ليكشف اللثام عن المجرم الحقيقي المختبئ خلف المرض وهو جرثومة »اللولبية الشاحبة«، كما استطاع الطبيب »فاسرمان« الكشف عن وجود المرض من خلال تفاعل مصلي بأخذ عينة دم، وأخيراً استطاع »فلمنج« في عام 1928م وبواسطة اكتشاف البنسلين وضع الحد النهائي للمرض في أي مرحلة من مراحله، هذه القصة ذات أهمية قصوى لمعرفة علاقة البيولوجيا بالأخلاق، وأن الانحراف الجنسي يعادل تماماً الانحراف في تطبيق قانون الجاذبية، كأن يقع فرد من الطابق الخامس فتدق عنقه، أو اختراق قانون الاحتراق فيكتوي الإنسان بالنار، أو الصدمة الكهربية فيتدمر القلب، أو نقص الأنسولين فيصاب بالغيبوبة، أو هبوط الضغط فيقع مغشياً عليه أو رجفة الأرض بالزلازل فتتساقط البنايات وتنهار الجسور فكلها قوانين من قوانين الوجود، عمد الفيلسوف الهولندي »اسبينوزا« في كتابه »الأخلاق مبرهنة بالدليل الهندسي« إلى محاولة إثبات الناظم الأخلاقي كما يبرهن على السطوح والخطوط والنقط الرياضية، وهو ما أحاول فعله الآن من خلال البيولوجيا.

البيولوجيا والأخلاق

حينما ناقش عالم النفس »ج.ا. هادفيلد« موضوع الأمانة الزوجية فإنه وضعه تحت »قانون الأمانة الزوجية« ووجهة نظره أنه يخالف أولئك الذين يرون أن »القانون الطبيعي مضاد للقانون الخلقي الذي يظن أنه مشتق من مصدر خارج الطبيعة« وأنه »ليس ثمة تعارض بين البيولوجيا وبين الخلقية، فالقوانين الخلقية هي تقرير للقوانين البيولوجية العليا« ومن أجل توضيح الارتباط بين القوانين البيولوجية والمبادئ الخلقية علينا أن نعلم أن الغاية الرئيسية للطبيعة من خلال العمل الجنسي هي المحافظة على النوع، وأن تطور هذا النظام عبر التاريخ أوصله إلى الأحادية الزوجية من خلال التطور البيولوجي البحت، وبذا يمتزج القانون الأخلاقي بالقانون البيولوجي بحيث يصبحان وجهين لعملة واحدة، يقول هادفيلد: »فإذا احتكمنا إلى الطبيعة فيجب أن نحتكم إلى الطبيعة كلها لا إلى مظاهرها الأدنى والأقدم، وهنا سوف نرى أن القانون الفطري والقانون الأخلاقي إن هما إلا طوران في تطور الإنسان نحو تحقيق الذات، فالإنسان البدائي في حالته الفطرية لايعتبر آخر ما جاءت به الطبيعة وكثيراً ماتوصف حياة الإنسان البدائي بأنها بسيطة وقد تكون كذلك في النظيم الظاهري ولكنها من الناحية السيكولوجية أشد تهويشاً من الحياة المرئية للرجل المتمدن الذي توجه قواه الغريزية إلى غرض مشترك، وكذلك الحال بالنسبة للفرد الذي يسمح بالتعبير المطلق عن اندفاعاته فإن هذا الفرد لايجد في الحياة سلاماً، إن كل كيان حي، ويدخل في ذلك العقل الإنساني الذي يتجه نحو التركيب لانحو التعبير فحسب، وكل مذهب في السلوك أو الطب النفسي يهمل ذلك عملياً فهو يهمل مبدأ سيكولوجيا وبيولوجيا أساسياً، وعلى هذه الصخرة سوف يتحطم«. وإذا كنا قد استشهدنا حتى الآن لتنظيم أعظم غريزة في كياننا التي تشبه المستعمر الأعظم »السوبرنوفا«، والتي اعتبرها فرويد وراء كل تصرف وكل عقدة وكل إحباط، بل ووراء كل مرض نفسي، فإنه أصاب في قسم من الحقيقة ولم يقنص كل الحقيقة، فالطاقة الجنسية هي طاقة أساسية ومهمة في كياننا، ولها الحق في الهيمنة، لأنها خلف إيجاد النوع، وهذه يشترك فيها الإنسان مع الأرانب والسلاحف، وتبقى الثقافة هي التي ترقي النوع، إلا أن »رقي النوع« يتركب كطابق علوي فوق »حفظ النوع« لذا فإن عمق هذه الغريزة وحرارتها واستعارها وإلحاحها الدائم تخبئ خلفها حقيقة مهمة وبنيوية، وهي أن توقف الإنجاب لجيل واحد فقط يهدد الجنس البشري بالانقراض، بل وفهمت منه حقائق عزتني كثيراً في حياتي، وأفهمتني حقائق جوهرية في الحياة، فلقد صدمت عندما وصلني خبر موت صديق عزيز عليَّ في ميعة الصبا لم يتجاوز الثلاثين من العمر، بسرطان في المستقيم، جاءه المرض كالصاعقة الحارقة بحيث أن المرض تسلط عليه فلم ينفك عنه حتى نقله إلى العالم الأخروي وفي مدى شهر واحد لايزيد، وعندما كنت أعزي زوجته في الحادث شعرت بتألق هذه الحقيقة ودمعة حارة تسيل على خدي، قلت لها: لقد صرعه الموت ولكن الحياة أقوى من الموت لأنها من الله الحي الذي لايموت، هو قد رحل ولكن طفلين اثنين احتلا مكانه، فالموت الغاشم قد خطفه، ولكن الحياة وسعت مقعده إلى مقعدين، نعم إن الحياة هشة إلى أبعد الحدود كما قال الفيلسوف الألماني »شوبنهاور«: بقدر ماتسحق الحياة الفرد دون أية رحمة ولاتعبأ به، فإنها تحافظ على النوع البشري وتنميه، وكل هذا يتم من خلال الإنجاب، الذي تكمن خلفه تلك الغريزة المتقدة كالنار النووية المستعرة التي لاتنطفئ بالماء.

مودة ورحمة أو خراب ودمار

إن استراتيجية الصيام لتنظيم هذه الغريزة والحد من لهيبها ولجمها كما تلجم الطاقة النووية، بإدخال قضبان »الكادميوم« بين عواميد اليورانيوم، حيث إن انفجاراً نوويا رهيباً ينتظر عنصر اليورانيوم، لولا لجم أعمدة الكادميوم له، كما فعل الفيزيائي النووي الإيطالي »انريكو فيرمي« لأول مرة مع استحداث أول مفاعل نووي في العالم، يقوم على تنظيم الطاقة النووية التي هي من أعتى طاقات الكون، ويقابلها أعتى طاقات البدن العضوي »الطاقة الجنسية«، إن قضبان الكادميوم في البدن للجم الطاقة النووية الجنسية هي الصيام من أجل إطفاء الحريق النووي الجنسي بقطع تفاعلاته من خلال تخفيف المواد التي تزيد اشتعاله، فالنظام الغذائي بانقلابه الشامل يقود إلى انقلاب أخلاقي، ولقد انتبه ابن خلدون في مقدمته إلى حقيقة ارتباط المناخ والهواء والغذاء بأثر واضح في تغيير أخلاق الإنسان، وأنا شخصياً لفت نظري تأكيد صغير في حديث صحيح يشير إلى علاقة نوع من الأخلاق بنوعية خاصة من الغذاء »والفخر والخيلاء في أهل الإبل والسكينة والوقار في أهل الغنم«، فتساءلت ماسبب السكينة في أهل الغنم لولا طبيعة الحليب واللبن والزبد والقشدة واللحم وتأثيرها في التصرفات؟ أي أن التغذي بهذا الحيوان ومشتقاته له دوره في هذا الضرب من الأخلاق، ولكن كيف تفعل هذه المواد فتعطي هنا سكينة؟ في حين أن لحم الإبل يعطي ظاهرة الانتفاخ وحب الظهور!!

إنني اعتبر أن دراسات من هذا النوع مهمة للغاية في علاقة البروتينات والشحوم وتراكيبها الخاصة في تشكيل أخلاقيات معينة، أو على الأقل في تشكيل اتجاه خلقي معين.

بعد العرض التاريخي ومداخلة علم النفس يبقى بين يدي ضوء آخر من القطاع البيولوجي ـ السسيولوجي في معنى »الفصل« و»الوصل« الجنسي وتنظيم العلاقة الجنسية، فالعضوية تفيدنا بمشهد لافت للنظر لمن ألقى السمع وهو شهيد، فالأعصاب حينما تمشي في تضاعيف المادة العصبية تفصل عن بعضها بغمد واحد هو غمد »النخاعين« فإذا غادرت الأعصاب منزلها من المادة العصبية، التي تعتبر مفاتيح الكهرباء للبدن، لتمشي بين الأوتار والعضلات أو في تجاويف السن ومغارات العظام، فإنها تتغلف مضاعفاً بغمد جديد إضافي هو غمد »شوان« وهكذا يصبح العصب مفصولاً عما حوله من أعصاب أخرى أو أنسجة مختلفة مغايرة مرتين بدل مرة واحدة، كل هذا حرصاً من العضوية على عدم التعري والتماس إلا في المنطقة المحددة والمسموح بها فقط.

ونفس الشيء يفعله مهندسو الكهرباء في تغليف الأسلاك وفصلها عن بعضها، ومن أجل إحداث الأثر الكهربي فلابد من إيجاد وصل منظم ومحمي وفي نقطة بعينها، وهكذا يحصل تنظيم وتسخير الطاقة الكهربائية أو أثر العمل العصبي في النسيج المطلوب، وقريب من هذا يجب أن يحصل في تنظيم الطاقة الجنسية، وإيجاد جو الحرام، الذي هو مكان الاتصال المحرم بالمحارم، وتحديد العلاقات الجنسية، ورفض المشاعية الجنسية، فالإنسان كائن ثقافي قبل كل شيء، وأن يحصل الاتصال الجنسي في نقطة بعينها وبالكيفية والكمية الملائمتين، لأن نفس التيار المار يؤدي إلى حرق الأسلاك فيما لو ارتفع مقدار الفولتاج، وفي نقطة التماس هذه تتولد المودة والرحمة والإنجاب وإلا الخراب والصواعق والدمار!!

وثبات الروح

في نقطة التماس المنظمة هذه لأسلاك الكهرباء، يولد التيار الكهربائي وينتشر الدفء والحرارة فيضيء المصباح، وتبرد الثلاجة، وتغلي السخانة الماء، وتعصر الغسالة، وتهرس العصارة، وترفع المصاعد الناس إلى أعلى البنايات، وتنزلهم إلى أسفل الأرض في المناجم، تحرك القطارات، وتطبع المطابع، وينتشر النور والخير، وتضج الحياة بالحركة والنماء والإيجابيات، وإلا فعطب المصابيح، وانطفاء النور، وتخرب الآلات، واحتراق المحركات، وبوار الصناعات.

وفي نهاية البحث نشير إلى أن هذا القانون يسري أيضاً على نهوض الحضارات وسقوطها فهي تنهض بوثبة الروح التي تلجم الغرائز وتنظمها، وتنهار وتتحلل بسيطرة الغرائز وتمكنها، وبالطبع فإن الغرائز لاتتفلت دفعة واحدة بل بالتدريج وشيئاً فشيئا، على قدر ارتخاء قبضة الروح عليها، وعندما ينقلب الوضع وتستحكم الغرائز والشهوات في المجتمع، يصل عندها إلى ذروة انحلاله، ويدخل المجتمع ليل التاريخ البهيم »وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا«. قال المفكر الجزائري مالك بن نبي: »فدورة الحضارة تتم على هذا المنوال، إذ تبدأ حينما تدخل التاريخ فكرة دينية معينة، أو عندما يدخل التاريخ مبدأ أخلاقي معين على حد قول »كسرلنج« كما أنها تنتهي حينما تفقد الروح نهائياً الهيمنة التي كانت لها على الغرائز المكبوتة أو المكبوحة الجماح«.

هذا هو المصير بين انفلات الطاقة وتنظيم الطاقة وكبت الطاقة »فعليه بالصوم فإنه له وجاء«.

 

خالص جلبي