حكمة الحمقى

حكمة الحمقى

المسألة ليست على هذا القدر من البساطة، "فحكمة الحمقى" تعبير شهير في تاريخ الفكر البشري يضرب جذوره في أغوار الماضي البعيد، ويبدو أنه يرتبط بشعور الإنسان، بين الحين والحين، بضرب من الحنين "المرضى" إلى الماضي كلما تعقدت حياته، سعياً وراء طرق أبسط للعيش، وفي الوقت ذاته فإنه يسعى إلى أبسط ضروب الحكمة ـ سواء أكانت فطرية أو مكتسبة ـ التي تعلو على كل أنواع المعارف التي اكتسبها عن العالم من خلال استدلالاته، وتجاربه، وبحوثه، وتعاليم الآخرين، وكلما تشكك العقل في ذاته، ولم يطمئن إلى استدلالاته، اعترف بعبارة بسكال الشهيرة (1623 ـ 1662) بأن "للقلب مبرراته التي لايعلم عنها العقل شيئا"، ومن ثم نسب إلى الحمقى نوع من الحكمة. وكثيرا ما لاحظ الناس، في كل العصور، أن أصحاب العقول الساذجة، بما لهم من نقاء في القلب، وطهارة في الضمير، يستطيعون النفاذ إلى حقائق أكثر عمقاً من تلك العقول التي أثقلتها المعلومات، والمعارف، والاستدلالات وكثرة المصطلحات، فوضعت على عينها غشاوة، وأبعدتها عن رؤية الحقائق البسيطة التي تكون أمامها في وضوح ناصع! ألسنا نجد في الأقوال المأثورة، والأمثال الشعبية، وكلمات البسطاء من الناس تعبيراً عن حقائق صارخة، أكثر مما نجده في الدراسات النظرية، والبحوث العقلية العميقة المعقدة؟

والواقع أنه ليس من قبيل المصادفات أن يتميز الحمقى في الآداب العالمية المتنوعة باعتمادهم المستمر على عبارات تعبر عن أقوال مأثورة، وأمثال شعبية تستمد قوتها من "أنتيوس" من الأرض المتواضعة، والقلب البسيط، وفضلا عن ذلك فيبدو أن العقلانية النظرية المتقدمة، والحضارة المتطورة تجلب مضار كثيرة مع ما تجلبه من منافع، ومن هنا فكلما ازداد تطور المجتمع، واشتد تعقده، سعى بعض الناس للبحث في أغوار الماضي عما هو بسيط، وما يعبرعن حالات طبيعية أكثر، وشعروا بما في اللامعقول، وفي البدائية، وعدم التحضر من متع وتسلية، وهو ما عبر عنه شاعرنا العربي القديم بقوله عن جمال البادية الطبيعي:

حسن الحضارة مجلوب بنظرية

وفي البداوة حسن غير مجلوب

وهكذا ظهر مفهومان متقابلان: "حكمة الحمقى" في مقابل "حكمة الفلاسفة" والحكيم الأحمق، في مقابل الحكيم النظري، بل قيل إن الأولى أكثر عمقا وأبعد غوراً من كل ما وصل إليه الإنسان من معلومات وما حققه من إنجازات!

رأس فارغ

غير أن المضامين الكامنة في شخصية "الحكيم الأحمق" تنبع من المواقف المختلفة التي تتخذها معظم المجتمعات إزاء الحمقى، وما تنسبه إليهم من خصائص: فالأحمق رجل يحمل رأساً فارغا، لا هو سريع البديهة، ولا هو سريع الفهم، وإنما هو بطيء الإدراك، ضعيف العقل ينقصه الفهم والاستيعاب، يختلف عن الرجل العادي من حيث أنه "أبله"، وهو لايعرف قواعد اللياقة، ولا الآداب العامة، وربما كان يسعد من سخريات الآخرين، واستهزاء الناس به، يتصرف كما يتصرف الطفل الصغير، لديه بساطة طبيعية، وبراءة في القلب، ويتقبله الناس كما هو يمتدحونه أحيانا بل ويجلونه أحيانا أخرى حتى قيل عنه إنه "كله بركة"!!

ولا ينظر إليه المجتمع أبداً على أنه "مجنون"، والدليل على ذلك أنه على الرغم من أن جميع المجتمعات تضع على المجانين قيوداً معينة حتى تمنع أذاهم، فإنها تنظر إلى الحمقى على أنهم غير مؤذين أو ضارين، ولهذا السبب كثيراً ما تمنحهم امتيازات خاصة، وكثيراً ما أكسبهم عجزهم وضعفهم شفقة الناس، فنحن مثلا نجد المجتمع ينظر إلى تصرفاتهم على أنها طفولية، ولهذا فإنه يمنحهم، كالأطفال "اللامسئولية" فيما يتفوهون به من ألفاظ، وما يقومون به من أفعال، ومادام الأحمق، كالطفل، لايرشده شيء سوى غرائزه الطبيعية، فإنه لا يراعي قواعد المجتمع المتحضر، ولا يطلب منه أحد ذلك، وعلى حين أن المجتمع يحرم على الراشد الناضج كسر قواعد السلوك مفترضا أنه "يعرفها" سلفا، فإنه لايتوقع من الأحمق أن يعرف شيئا، ولهذا السبب فكثيرا ما يمنحه المجتمع حرية أوسع.

وربما لهذا السبب كان الحمقى من الموضوعات المحببة الجذابة لخيال الأدباء والفنانين على مدار التاريخ، ولما كان الحمقي يقفون بعيداً عن مستوى البشر العاديين، فإن هذه الآداب تعاملهم أحياناً على أنهم موضوعات للسخرية والاستهزاء، وأحيانا أخرى على أنهم موضع توقير واحترام، بل إن الناس في العصور الوسطى ـ كما هي الحال في بعض المجتمعات البدائية ـ كانوا يعتقدون أنهم يحظون من الله برعاية خاصة، وأنه يهتم بهم ويقوم بحمايتهم! ومن هنا ظهر إمكان دائم لتفسير ما يبدو لنا من أقوالهم ثرثرة ولغواً فارغاً ـ إنه في حقيقة الأمر، ضرب من الإلهام أو وحي من السماء.

ولقد اهتم علم النفس الحديث بشخصية الأحمق، فهو في رأي فرويد "1865 ـ 1939" يجسد شخصية "الأبله" ـ ولما كان يفتقر إلى "الأنا الأعلى" فإنه لاينتابه أي شعور بالخجل من شهواته الحسية، ورغباته الطبيعية، كما أنه يشعر بصفة منتظمة بالجوع والظمأ والشهوة.

عيد الحمقى

حظي الحمقى في العصور الوسطى ـ منذ القرن الثاني عشر على وجه الخصوص، وربما قبل ذلك ـ بمنزلة مرموقة، فكان لهم عيد يسمى "عيد الحمقى"، وجدوا له أسانيد من الكتاب المقدس، فصبغوه بصبغة دينية، فكانت مسيحية العصر الوسيط تحتفل به على شرف "الحمار" الذي دخل عليه السيد المسيح مدينة أورشليم في اليوم المسمى بأحد السعف، ويقام الاحتفال في أول يناير من كل عام، وهونفسه يوم الاحتفال بختان يسوع، وكانت الطقوس في ذلك اليوم تقوم على أساس الإنشاد، لكن بطريقة مضحكة، إذ تنغمس المدينة كلها في استعراض مجنون يطغى عليه الخبل والتصرفات الحمقاء، وكان الحمار جزءاً من الحفل، وبدلا من أن تقال كلمة "آمين" في نهاية الصلوات كالمعتاد، يقوم جميع الحاضرين معا بالنهيق!

ويقوم جانب آخر من الاحتفال على أساس ترسيم مجموعة من الحمقى كقساوسة ومطارنة، كما يقومون على المذبح بممارسة لعبة النرد، أو تناول الطعام من الفطائر والحلوى واللحوم وغيرها، وتحرق الأحذية بدلا من البخور، وكثيراً ما يرتدي الرجال ملابس النساء، ويضعون أقنعة على وجوههم.

غير أن عيد الحمقى بدأ يتوارى منذ القرن السادس عشر بفضل ضغوط المصلحين البروتستانت الذين كرهوا الهزل، فضلا عن أن الكنيسة الرومانية بدأت تتبرأ منه، وهكذا راح الناس يميزون بين الحمقى "الأصلاء" والحمقى "المصطنعين" أو "الدخلاء" على الحمق!!

والواقع أن التمييز ظل قائما بين "حكمة الحمقى" وحكمة الفلاسفة أو حكمة المعرفة التي تسمى أحيانا "بالحكمة الدنيوية". ومن هذه الزاوية فإن التعبير المتناقض عن "الحكيم الأحمق" كان من الممكن عكسه باستمرار، فما دمنا قد اعترفنا بأنه يمكن أن يكون هناك "الأحمق الحكيم"، فلابد لنا أن نسلم كذلك ـ صراحة أو ضمنا ـ بأن الحكيم يمكن أن يكون أحمق، وربما كان أقدم تعبير عن هذه المفارقة ما ورد في شذرات الفيلسوف اليوناني القديم هيراقليطس (544 ـ 483 ق.م) من أن ".. كثرة المعارف لاتعلم الحكمة".

سقراط.. هل هو أحمق؟

والشخصية الكلاسيكية "للحكيم الأحمق" هو سقراط (469 ـ 399 ق.م). الذي كثيراً ما استلهمه المفكرون بعد عصره، لا لأن منهجه كان يقوم على حماقة، أو لأنه تظاهر بالحكمة، وإنما لأنه هو نفسه قد أعلن أن حكمته الخاصة مستمدة من إدراكه بأنه "جاهل"، ففي محاورة الدفاع (20 ـ 23) يروي لنا سقراط كيف أن كاهنة معبد دلفي قد أعلنت ذات مرة أنه ليس ثمة من هو أحكم من سقراط، ولما كان يعرف أنه ليس حكيما، فقد حاول أن يبرهن على كذب العرافة بأن يعثر بين الأثينيين على شخص أكثر منه حكمة، فراح يتنقل بين رجال أثينا ممن اشتهرت عنهم الحكمة: قصد إلى الشعراء، وطلب منهم أن يفسروا الأساس الذي ترتكز عليه أشعارهم، لكنهم عجزوا عن أداء ما طلبه منهم، فعرف أنهم لايكتبون الشعر صدروا عن حكمة! ثم ذهب إلى رجال الصناعة والفنون فلقي عندهم ما لقي عند هؤلاء من خيبة رجاء! عندئذ أدرك أن أولئك الذين يزعمون الحكمة هم في الواقع جهلة، لكنهم لا يدركون أنهم كذلك، على حين أنه ـ هو وحده ـ الذي يعترف صراحة بجهله، ومن ثم فقد استنتج أن مايريد الإله أبوللو أن يقوله على لسان كاهنته هو "أن أفضلكم، أيها الناس، هو ذلك الرجل ـ مثل سقراط ـ الذي يعرف بوضوح أنه لم يصل في ميدان الحكمة إلى شيء يستحق الذكر!!

ولهذا فإننا نرى سقراط يعود في محاورة "فايدروس" فيرفض أن تنسب الحكمة ـ ذلك اللفظ العظيم ـ إلى الإنسان لأنها لاتنسب إلا إلى الله وحده "كلا! لن أسميهم حكماء، لأن الحكمة اسم لايضاف إلا إلى الله وحده، لكني سوف أسميهم محبي الحكمة أعني فلاسفة، ذلك هو اللقب المتواضع الذي يناسبهم"!

فإذا انتقلنا من مجال الفلسفة إلى ميدان الدين وجدنا القديس بولس يذهب إلى أن الله جعل حكمة العالم "جهالة" وحمقاً.. أين الحكيم؟ أين للكاتب؟ أين مباحث هذا الدهر؟ ألم يجهل الله حكمة هذا العالم؟ كورنثوس الأولى 1 : 20. وكذلك "الرب يعلم أفكار الحكماء أنها باطلة". كورنثوس الأولى 3 : 20" ويؤكد القديس بولس هنا تفاهة "الحكمة الدنيوية" في مقابل الحكمة المسيحية التي تبدو للعالم حماقة، وهو يعلن أننا حمقى من أجل المسيح، في حين أننا حكماء في المسيح "نحن جهال من أجل المسيح، وأما أنتم فحكماء في المسيح" كورنثوس الأولى 4 : 10). وهو يذهب أيضا إلى أن "جهالة الله أحكم من الناس" (كورنثوس الأولى 1 : 25) وهو يقول عن غير المؤمنين إنهم حمقى برغم أنهم يعتقدون الحكمة في أنفسهم، بينما هم يزعمون أنهم حكماء صاروا جهلاء.. "الرسالة الأولى إلى أهل رومية 1 : 22". ويقول أيضا "لا يخدعن أحد نفسه، إن كان أحد يظن أنه حكيم بينكم في هذا الدهر، فليصر جاهلا ليصير حكيما" (كورنثوس الأولى 3 : 18).

وهكذا ظهر تقابل واضح بين الحكمة الدنيوية "التي هي في جوهرها حماقة، وبين الحماقة الدينية" التي هي في جوهرها حكمة، وإن كان القديس توما الأكويني (1226 ـ 1274) ـ أعظم فلاسفة العصر الوسيط ـ لايفسر إدانة القديس بولس لحكمة البشر على نحو ما فسرها الفيلسوف الفرنسي مونتني (1533 ـ 1592) عندما قال: إن كارثة البشر هي إيمانهم بالحكمة، ولهذا السبب فإن ديننا يوصي بالجهل! فاللاهوتيون، في الواقع، يدينون التظاهر بالحكمة ـ وهو ما نجده عند بعض الناس أحيانا ـ ويعتبرونها حكمة مزيفة، وإما حكمة الفلاسفة فهي في نظرهم ليست "مزيفة" بل ناقصة فحسب.

ونحن نجد عند القديس توما الأكويني ثلاثة أنواع من الحكمة المزيفة، أولا: الحكمة الأرضية التي تجعل غايتها في موضوعات أرضية، ثانيا: الحكمة التي تجعل غايتها متعة الجسد، ثالثا: الحكمة الشيطانية التي يقلد فيها الإنسان غرور الشيطان، وتلك في نظره "حكمة الحمقى" لأن الحكمة الأرضية هي التي تضلل الإنسان وتجعلنا حمقى في نظر الله، برغم أنه لايوجد أحد يريد أن يكون أحمق، لكنه يسعى وراء تلك الأشياء التي يكون الحمق نتيجتها الحتمية.

فرار.. من الحمقى!

لانريد أن نستطرد طويلاً في الحديث عن "حكمة الحمقى" لأنها لاتعبر في الواقع عن "حكمة حقيقية"، وإنما هي تعبير عن ضيق الإنسان بتعقيدات الحياة، واشتياقه إلى البساطة الطبيعية التي لاتكلفه عنتا عن البحث ولا إرهاقاً في التحصيل والدرس، فهي أقرب إلى أحلام الرومانسيين بالعودة إلى الطبيعة، وتمسكهم بالشعور والوجدان وبعدهم عن العقل والمنطق، ونحن جميعا نعرف صيحة جان جاك روسو (1712 ـ 1778) بالعودة إلى الطبيعة وتربية الطفل في أحضانها، لكنها كلها انفعالات مؤقتة لافتة للنظر بين الحين والحين إلى أن الإنسان ليس عقلاً جافاً فحسب، ولكنه شعور، ووجدان، وقلب وإحساس، فلا الدين يدعو إلى "حكمة الحمقى" كما ذهب البعض، ولا الفلاسفة يقيمون لها وزنا، إن الذين امتدحوا الحمق باسم الدين خلال التراث المسيحي، لم تستوقفهم الملاحظة التي وردت في أمثال سليمان الحكيم والتي تقول "الحمقى وحدهم هم الذين يحتقرون الحكمة ويبغضون العلم" (الأمثال: الإصحاح الأول: 22). ولا قول النبي داود في مزاميره "قال الأحمق في قلبه: ليس يوجد إله" (المزمور رقم 14). ولا ما جاء في سفر التثنية من أن الله هو "الصخر الكامل الصنيع: كل طرقة حكمة" (سفر التثنية الإصحاح 32:4).

فإذا يممنا شطر الإسلام العظيم وجدناه يرفع من قدر العلم والعلماء ويحث على طلب العلم، ثم إن معجزته "كتاب" هو القرآن الكريم وأولى آياته "اقرأ باسم ربك" (الآية الأولى من سورة العلق). "ويرفع الله الذين آمنوا منكم، والذين أتوا العلم درجات" (المجادلة: 11) ويتساءل: "هل يستوي الذين يعلمون والذين لايعلمون" (الرمز: 9). وفي الحديث الشريف "غزوة في طلب العلم أحب إلى الله من مائة غزوة".. إلخ كما يسخر من الحمقى والسفهاء من الناس.

جنبك الله، صديقي القارئ، حكمة الحمقى.. "وأسبغ عليك نعمة الحكمة الدنيوية، وليكن شعارك عبارة شكسبير الخالدة، إنني أشفق، باستمرار، أن يتحدث الحمقى بحكمة، وأن يسلك الرجال الحكماء بحمق!" وليس عبارة مونتني الغريبة " إنني أسمع الحمقى كل يوم يتمتعون بأشياء حكيمة"!

 

عبدالفتاح إمام