بحر الأعالي

بحر الأعالي

صبيحة كل يوم، تضغط أمها بأصابعها زر العاشر في المصعد، فيعلو بهما ويعلو حتى يتوقف في دور الشقة الخامسة والعشرين، فتدخلان إليها من بابها الخشبي المحفور، والذي يذكرها دائما بدكة النورج في بلدهم، عندما كان أبوها يحصد الغلة وقت الحصاد، عندما كانوا فلاحين قبل انتقالهم إلى البندر.

في المطبخ الوسيع الذي تراه أوسع وأجمل من بيتهم كله، تجلس كما العادة على كرسي من كراسي الطاولة المستديرة فلا تقوم من مطرحها حتى تفرغ أمها من غسل الصحون ولم الحوض، وقد يخفف من وطأة ذلك الجلوس الإجباري بعض من حليب بارد تبقى في اللبانة، تعبّه قبل غسلها، أو لقمة رغيف أفرنجي تغمس بها ما فاض من جبن رومي أو مربى تمنحها إياها الأم وهي تقول لها:

ـ كليها كلها، وامسحي الطبق تمام.

تدفع باللقمة إلى فمها لتعود أصابعها مسرعة إلى دلاية مفتاح الشقة، التي يتركها صاحبها مع أمها كل يوم قبل خروجه إلى شغله. تشخشع قليلاً محركة الدلاية على الطاولة، لكن سرعان ما يقاطعها صوت الأم مختلطاً بخرير مياه الصنبور، وحكة السلك والليف بالماعون:

ـ حطي مفتاح الباب مطرحه، إياك يروح هنا ولا هنا، وصاحب الشقة يعملها حكاية، ونهارنا يبقى نهار.

تترك المفتاح من يدها، تعيده كما كان في جوف السمكة الخزفية البيضاء، ذات الفم الذهبي المفتوح، والموضوعة وسط الطاولة، تتأمل السمكة بإعجاب وقد استقرت بداخلها دلاية المفتاح الفضية، والمنتهية سلسلتها بمركب صغير له شراع، شكله كشكل المراكب الكبيرة التي تراها من بعيد سارحة في النيل، تخبط رجلها برجل الكرسي وتفكر: "آه لو آخذ السمكة وأعومها في البحر، آه لو يكون عندي مفتاح بمركب أحطه في جيب الجلابية، وأشخشخ به وقتما أحب".

تتنهد مترقبة بصبر فارغ فروغ أمها من تشطيب المطبخ، لتتبعها بعد ذلك إلى الشرفة الجانبية الملحقة به لنشر الغسيل، وهناك يصدمها ـ كل مرة ـ المشهد الفادح للمدى السماوي المفتوح فوقها، وتظل عيناها مشدودتين إليه، قد تتبع سحابة على هيئة كومة قطن ضخمة شاهقة البياض، أو طيراً ناشراً جناحيه في استعراض صباحي للإمكانات، أما عندما ترسل ناظرها بعيدا إلى تحت، وتبدأ روحها تتماوج موجات الدهشة والانبهار فإنها تأخذ بالاقتراب شيئا فشيئا من افريز الشرفة الحديدي المرتفع، وسرعان ما تتشبث به بكل ما تملك من قوة في يديها وقدميها، حتى ترتفع وتتمكن من رؤية المشهد على هواها بكامله، لكن صوت الأم يفاجئها، كصوت قطة ديس على ذيلها فجأة:

ـ غوري. ابعدي عن السور وادخلي جوه، وإلا تطبي واقعة.

لا تمثيل، تتوقف فقط في مكانها بعد أن تترك الإفريز، ريثما تهدأ الأم، أو تنهمك في فرد الغسيل على الحبال.

هي مصرة على التسلق والشوف، لكن أمها لا تقل إصرارا عنها رغم انشغالها فتقول:

ـ اسمعي الكلام وادخلي. إعملي معروف يا أختي وادخلي. الله يسترك.

تسمع دون أن تحيد بعينيها عن الماء الجاري على البعد، فتساوم بنبرات راجية:

ـ والنبي خليني أشوف من هنا.

لكنها تتراجع سريعاً متخلية عن عنادها، وتعود إلى حيث كانت عند مدخل الشرفة، بعد أن أخشن صوت الأم بالغضب وقد أعلنت:

ـ ادخلي يا عديمة الإحساس، وإلا أدغك وأكسرلك رقبتك.

يمتلئ صدرها بالحنق، تفكر في النحيب، لكنها تعرف أنه لا فائدة مع الأم عند هذا الحد من الكلام، فلسوف تضربها بجد، إذا لم تتراجع وتمتثل، لذلك فضلت تلطيف الأجواء، وعودة المياه إلى مجاريها، وراحت تسألها عن ذلك الماء الكثير، الكثير، تهدأ الأم وترد بصوت ضجر خارج من فمها مع مشبك غسيل، كانت تقبض عليه بأسنانها ريثما تفرغ واحدة من يديها المشغولتين بفرد منشفة حمام على الحبل، وتقول:

ـ قلت لك ستين مرة بحر النيل، هي غلبة كلام، والسلام!.

هي تعرف أنه بحر النيل، لكنها تحب اللت والعجن في الكلام عنه، لأنه حلو، كبير، واسع، على ناحيتيه زرع أخضر وشجر عال، وفيه مراكب بأشرعة تروح وتجيء، وهي تحب أمها عندما تغني له، في بعض المرات، لما تكون طالعة من الحمام، وتتربع على الأرض لتمشط شعرها وتعمله ضفيرتين، وتسمع صوتها حنونا كصوت القطة السوداء الوالدة في المنور، جنب بيتهما، عندما تنادي صغارها لترضعهم. خصوصاً عندما تقول:

ـ أمانة يا أسمر يا جميل تسلّم علي بحر النيل

لكن أمها لا تغني هذه الأغنية، عندما تكون في الشقة الخامسة والعشرين، بل هي لا تحب أن تتكلم معها خلال هذه الأوقات، ويكون خلقها ضيقاً دائماً، وروحها في مناخيرها، غير أن ذلك لن يمنعها من حبس سؤال ظل يشغلها منذ الأمس، فقالت لأمها:

ـ هل البحر الأعظم، هو بحر النيل؟

فوجئت الأم بالسؤال، فلم تكن تفكر كثيراً في بحر النيل، ولم تفكر أبداً في البحر الأعظم، نظرت إلى ابنتها التي كانت قد أخذت في النطّ، وقالت:

ـ أبصر! ومن دلك على كلمة البحر الأعظم؟!

ـ آه. أنت. امبارح قلت للشيخ بالليل، وقتما كنت واقفة عند بوابة العمارة، لما سأل وكان عاوز أي واحد يدله على العنوان. أنت قلت له: "غلط يا عم. هنا شارع كورنيش النيل، البحر الأعظم تدخل له من ناحية يدك اليمين، وبعدها شمال طوالي.

ابتسمت الأم وهمست:

ـ النبي حارسك. دماغك مصفحة!.

استدارت الأم متابعة عملها دون أن تشفي فضولها بإجابة عن السؤال، فجلست القرفصاء، وراحت تعبث بطرف ثوبها وهي تفكر وتسبح بخيالاتها في بحر النيل، البحر الأعظم، بينما صورته تتجسد دوماً في عينيها، مياه كثيرة، كثيرة، ماشية لبعيد، ولطالما تمنت وهي على تلك الحال أن تعيش في الشقة الخامسة والعشرين، في الصبح وفي النهار وفي الليل، حتى تبص على بحر النيل في أي وقت وتشوفه، وكم تمنت ألا تهبط مع أمها أبداً إلى بيتهما في أسفل العمارة، حيث لا شيء يرى إلا تلك المناظر التي تكره مشاهدتها، وتجعل روحها مخنوقة وزهقانة دائماً، لذلك فهي في حالة دهشة مزمنة، وتساؤل لا يغيب عنها، عن السر في أن أمها لا تعيش في الشقة الخامسة والعشرين، وتنام على السرير بجوار الرجل الوحيد ساكن تلك الشقة، مثلما تفعل وتنام إلى جانب أبيها الذي تكنس وتمسح وتطبخ وتنشر الغسيل له في المنور بين الحين والحين.

لم يكن هذا السؤال المعضلة هو الوحيد الذي دفعت به إلى مخيلتها الشقة الخامسة والعشرين، بل كان الأهم منه بالنسبة إليها، والأكثر إثارة لروحها، هو شرفة الشقة الخامسة والعشرين، وما تظهره من بحر النيل العجيب، ومياهه الكثيرة، السارحة لبعيد، لذلك أفصحت عن هواجسها ذات مرة وسألت أمها:

ـ عاوزة بلكونة الشقة خمسة وعشرين تكون عندي، عاوزة أشوف من فوق.

تنهدت الأم، ثم تصعبت وهي ترد بحكمة تعليمية، لم تجعلها تصرف النظر عن تقليب تقلية بصلة فول الغداء وتقول:

ـ بصي من هنا أحسن.

بصت دائرة ببصرها على جدران الغرفة ـ البيت، فلما لم تشف غير جلابية أبيها البيضاء، المعلقة على المسمار، وحزمة الثوم المربوطة إلى مسافة منها، والمعلقة على مسمار آخر، ثم الرف العالي المحطوطة عليه علبة دواء أبيها، ومفتاح الغرفة، شعرت كأنها على وشك الاختناق، فحتى الشباك الصغير في الحجرة، والمفتوح على المنور، لا يستبين من ورائه غير حيطة الطوب الأحمر، ومواسير المجاري الغليظة السوداء.

تركت أمها لتقليتها وفولها، وانسحبت خارجة إلى فناء العمارة، مشت قليلاً حتى وصلت إلى مدخلها، وقفت تتأمل الشجرة العالية الموجودة في نهايته قرب رصيف الشارع، فكرت، وهي تتنهد برضا، في جذعها المتين، وفروعها العالية الممتدة، والتي تعرف بعضها القريب من الأرض، فلطالما قفزت إليها، وتشبثت بها لتؤرجح نفسها وتلعب، لكنها الآن تفكر في الشجرة على نحو لم يكن قد خطر في بالها من قبل، وهكذا وجدت نفسها تتقدم منها، وتأخذ في تسلق جذعها الراسخ في سهولة ويسر، ثم تعتليه دونما مشقة، يعاونها جسد خفيف لم يحظ بغذاء يليق بطفلة لم تبلغ السادسة بعد. ما إن استقرت على الجذع حتى راحت تتجاوزه صاعدة إلى الفروع، وكانت كلما صعدت فرعاً انكشف لها جزء من بحر النيل، فتأخذها المغامرة أكثر، ويدفعها الطموح إلى فرع أعلى تشاهد منه أكثر وأكثر مما تتمنى رؤيته دائما، وهكذا راحت تبعد شيئا فشيئاً عن فروع الجذع المتين إلى فروع الفروع العليا.

كان سؤال يلحف في روحها ويوصف بها أثناء ذلك، بينما يدفع بساقيها ويديها بعيداً إلى أعلى، "هل يمكن أن أراه عندما أصل أعلى فرع، مثلما أراه دوماً من شرفة الشقة خمسة وعشرين؟".

بعد لحظات، بدا لها أنها أوشكت على الإجابة عن السؤال، إذ كانت مساحة لا بأس بها من الجسد المائي الساحر الممتد قد باتت ملك ناظرها، وهي تقبض بيدها على فرع جديد، وقد هُيء لها أنها إذا ما بلغته بلغت مرادها ومنتهى أملها في رؤية بحر النيل، كاملاً، رائعاً، عظيماً، مثلما يكون أبداً من شرفة الشقة الخامسة والعشرين.

في هذه المرة، حدث ما لم تتوقعه، وكان لابد أن يحدث، فقد تشبث فرع الشجرة الصغير الفض بفرعها، مثلما كانت تتشبث هي بفروع أمة الكبيرة، وسرعان ما عكس رحلتها إلى الأعالي، فهوى هابطاً بها، وقد ناء بحمله المستحيل.

بعد ذلك بساعات، كانت قد بدأت تفتح عينيها في المستشفى، تطلعت من رقدتها إلى أعلى، لم يكن هناك غير السقف الأبيض وقد تدلت منه لمبة الكهرباء بسلكها الطويل، هبطت بعينيها إلى أسفل، فلم تجد إلى جوارها غير أمها، وأبيها وقد وقف مرتديا جلابية المسمار، والتي لا يستعملها إلا لماماً في المناسبات المهمة. كانت أمها تبكي وهي تنظر إلى ذراعها ورجلها الملفوفتين في لفائف صلبة بيضاء، ثم سمعتها تقول لها بإشفاق وحنان.

ـ شفتِ آخر شقاوتك وعفرتتك. كان لازمك البص من فوق.. يعني!.

 

سلوى بكر