ليست المشكلة في الخط العربي أو الكمبيوتر

ليست المشكلة في الخط العربي أو الكمبيوتر

قبل أكثر من اثني عشر قرناً, حين كان العرب يصعدون سلم الحضارة بخطى واثقة تدفع بهم حركة علمية وثقافية موارة, ورغبة جياشة في المعرفة والعطاء الحضاري, لم يكونوا ينتظرون لتصل إليهم هذه المعرفة, بل كانوا يبحثون عنها ليوظفوها في البناء الحضاري الذي شرعوا في تشييده.

ترجموا مئات الكتب في الطب, والتاريخ, والفلسفة, والطبيعة, وفي غيرها وغيرها من علوم زمانهم ليدققوها, ويمحصوها, ويضيفوا إليها فيضعوا الأسس التي انطلقت منها الحضارة الإنسانية لتصل إلى ما وصلت إليه.

آنذاك, دفعتهم الرغبة في نشر المعرفة إلى البحث عن سر صناعة الورق, الذي لم يكن يعرفه إلا بعض الصينيين, حتى توصلوا إلى سر صناعته, ليستخدموه في معاملاتهم وليصبح سلاحاً فعالاً في أيديهم لاستنساخ الكتب ونشر المعرفة بشكل واسع, جعل الخاصة والعامة يتسابقون في اقتناء الكتب للاطلاع على كل جديد فيها, ولتصبح المكتبة جزءاً مهما في البيوت والقصور, ناهيك عن المكتبات العامة الكبرى التي عرفتها حواضر الحضارة العربية الإسلامية.

من الثابت تاريخياً أن خطاطي ذلك الزمن, الذين اعتادوا الكتابة على الرق وورق البردي, في أفضل الأحوال, لم يأخذوا موقفا سلبيا من الورق, هذه الخامة التي أصبحت مسيطرة, والتي تحتاج إلى أساليب مختلفة عما ألفوه للكتابة عليها, بل إنهم اعتمدوا على هيكلية الخط العربي التي تتميز بالمرونة والطواعية العالية التي تجعله قادراً على التلاؤم مع الخامات المختلفة, فطوروا أقلامهم وأساليبهم مستفيدين من هذه الميزات, ومن العوامل الإيجابية المساعدة في الورق, وربما كانت هذه أول خطوة مهمة على طريق انتقال الخط العربي من طوره الوظيفي الأدنى إلى أطواره الوظيفية الجمالية الأعلى, التي لا يخلو متحف من متاحف العالم الكبرى من نماذج لها, ناهيك عن الآثار المنتشرة على امتداد العالم القديم.

الطباعة حرام ?!

منذ ذلك الوقت, تطور الخط العربي كثيراً وعلى مستويات عديدة, إلى أن أصابه ما أصابنا منذ عصر الانحطاط, الذي وصل بنا إلى تسيد التخلف الفكري العثماني, وسيادة الكهنوت والدروشة على حياتنا الفكرية والعلمية والثقافية ناهيك عن الدينية, ليصل الأمر بفقهاء العثمانيين إلى تحريم الطباعة, التي لم يكن من الممكن إلا أن تفرض نفسها كوسيلة ضرورية لنشر المعرفة والمعلومات, بدلاً من أسلوب النسخ اليدوي الذي لم يكن له أن يلبي الطلب المتزايد من قبل المؤلفين والقراء, الذين كانت أعدادهم تنمو باطراد, وكان من شأن بقائه كوسيلة وحيدة أن يحصر العلم والمعرفة في شريحة صغيرة من شرائح المجتمع. ولقد انتصرت الطباعة على الكهنوت الديني, وعلى كهنوت النساخ وعلى دراويش الخط, الذين ادعوا أنها ستهدد الدين واللغة والخط العربي, وفرضت نفسها من خلال إقبال الناس على إنتاجها الذي جلب فوائد كثيرة لا تخفي على أحد.

كان من شأن هذا الموقف السلبي للكهنوت والدراويش أن يعطي الفرصة لبعض المتغربين والمغرضين, الذين مالبثوا أن شنوا هجوما على الحرف العربي مدعين أنه غير ملائم للطباعة, الأمر الذي ثارت حوله معارك كثيرة, وعقدت حلقات وندوات ومؤتمرات لمناقشته, وقدّمت أوراق ومبادرات واقتراحات, ناقشتها الصحف واللجان والمجمعات والجامعة العربية, لتنتهي الزوبعة إلى لا شيء, لأن التطوير المستمر على أرض الواقع حسم الأمر, وكان أصدق أنباء من كل الاجتماعات واللجان والاقتراحات, وأكثر تعبيرا عن مقدرة الخط العربي على التلاؤم مع التطورات, وعلى التفاعل مع الخامة أو الوسيط أو التقنية, فأنتجت أشكال ملائمة للطباعة, ومختصرة كان لأصحابها دور الريادة, بمزاياه وعيوبه, في فترة الصحوة القصيرة التي سبقت سباتنا الحالي, الذي أدى فيما أدى إليه, إلى عدم تطوير هذه الأشكال والارتقاء بها جمالياً ووظيفياً بشكل متتابع, وترك الميدان لشركات الطباعة التي اعتمدت على محدودي الموهبة والكفاءة في رسم حروفها, وإعادة إنتاج الأشكال التي كانت مستعملة من قبل بشكل يفتقر إلى كثير من الأسس المتعلقة بالتصميم الخطي من الناحيتين الجمالية والوظيفية, هذه الشركات التي لم تعد تضع في اعتبارها إلا زيادة الربح, بعد غياب الاهتمام الرسمي العربي بهذا المجال, ونعلم جميعاً أن شركات الطباعة التي تصنع قوالب الحروف هي في مجملها شركات أجنبية, ليس للقائمين عليها أي دراية بالخط العربي, ولا يعنيهم من الأمر إلا ترويج بضاعتهم.

والكمبيوتر شر ؟ !

مع الثورة الهائلة في الاتصالات, اقتحم الكمبيوتر مجالات الحياة كافة, فكان لابد من برمجة خطوط عربية لاستخدامها في الوظائف التي يؤديها الكمبيوتر, الأمر الذي رأى فيه دراويش الخط العربي, من ممتهنيه, وبعض المتزمتين السلفيين من محبيه شراً كبيراً, فمن قائل: إن برمجة الخط العربي في الكمبيوتر مؤامرة عليه, ودفع بالأمور إلى أن تكسد بضاعة الخطاط العربي, لينعدم الإقبال على تعلم الخط العربي, وينعدم وجود الخطاطين. ومن قائل: إن من العار أن نستخدم خطوطا مبرمجة على الكمبيوتر ولدينا هذه الكثرة من الخطاطين, الذين يمكن أن يبدعوا في اللافتات, وفي عناوين الصحف والمجلات والكتب وغيرها من المطبوعات بشكل لا يمكن أن ترقى إليه الخطوط المبرمجة, وإن برمجة الخط العربي لاستخدامه في الكمبيوتر ستقضي على هذا الفن. ومن قائل: إن برمجة الخط العربي في الكمبيوتر لا يمكن أن تحافظ على قواعد أنواعه) إلى غيرهم ممن يطلقون الصرخات متذرعين بأقاويل لا تستحق منا أن نتوقف عندها.

إن مراجعة بسيطة لأقاويل وادعاءات الرافضين لبرمجة الخط العربي في الكمبيوتر تبرز لنا مدى جهلهم بالكمبيوتر واستخداماته, وبرحلة الخط العربي وتطوره, سواء بسواء, ناهيك عما تنطوي عليه من خلط بين المهني والفنان, وبين استخدامات الخط العربي الوظيفية والفنية المتعددة, ونظرهم إليها بسكونية وعيون مغمضة لا ترى أن برمجة الخط العربي في الكمبيوتر باتت ضرورة, بل إنها أصبحت واقعا بعد كل هذه الأشكال التي أفرزتها شركات الكمبيوتر, والتي قلما نرى بينها أشكالاً مدروسة جيداً. الأمر الذي يضعنا في مواجهة هذا التحدي.

إنهم يجهلون أبسط المعلومات عن الكمبيوتر, فهم لا يعرفون أن استخدامات الكمبيوتر لا تقتصر على المسائل الطباعية, فهنالك مئات من البرامج التي يتعامل مستخدم الكمبيوتر مع الكلمة فيها عبر الشاشة, بدءاً من تعليمات التشغيل مرورا ببرامج المعلومات, وصولاً إلى شبكة الإنترنت التي اقتحمت العالم كله, بالإضافة إلى أن الكمبيوتر أصبح وسيلة أساسية من وسائل التعليم ونقل المعرفة في المدارس والمكتبات العامة وفي كثير من البيوت, وأصبح منتشراً في كل مكان, الأمر الذي يجعل التعامل معه ضرورة ملحة تدعونا إلى التوصل إلى أفضل الأشكال لتطوير أدائه البصري والجمالي.

وهم يجهلون أن الخط العربي تطور على مستويات عدة, انطلاقا من التطور البنيوي والهيكلي الذي أوصله إليه رواده من الفنانين العظام. تطور على مستوى الرسائل والدواوين والعقود والمخطوطات وما أشبه ذلك ليؤدي وظيفته بشكل أفضل وأجمل فتعددت أشكاله, وتطور بفعل اتساع رقعة استخدامه وتفاعله مع ذائقة كل شعب من الشعوب التي وصل إليها وتعاملت معه, من الصين شرقاً, إلى الأندلس غرباً, فولدت أنواعا وأشكالا كثيرة على درجة عالية من الجمال, وتطور من خلال التفاعل الذي تم بين الخامة وبين أجيال من الخطاطين الفنانين الذين استطاعوا أن يولدوا لكل خامة أنواعا وأشكالا من الخطوط تتلاءم معها, مشكلين تحفاً فنية لا حصر لها, تنتشر في أرجاء العالم القديم, وتملأ متاحف عالم اليوم, وربما جاز لنا هنا أن نستطرد لنوضح أنه على صعيد العمارة ظهرت أنواع عديدة من الخط العربي على درجة عالية من الجمال نتيجة التعامل مع الحجارة أو مع الطين أو مع الجص أو مع الخزف والزليج أو مع الفسيفساء وغيرها, وليس أدل على ذلك من الخطوط المبتكرة التي نجدها على المشغولات الخشبية من أثاث ومنابر وأبواب ومشربيات وغيرها, ناهيك عن الخطوط المبتكرة على المنسوجات من ملابس وستائر ومفارش وأرائك وغيرها, وعلى السجاد والبسط والزرابي, وعلى الأواني الفخارية والخزفية, وغيرها وغيرها مما لا يمكن الإحاطة به هنا, والتي تؤكد أن الابتكار والتجديد هما روح الخط العربي التي تحلّ في هيكله وبنيته فتمنحه حياة أبدية وفتوة مفعمة بالحيوية والجمال.

يزعم ذوو المرجعية العثمانية أن الخط قد وصل إلى ذروته في العصر العثماني, ولم يعد ممكناً أي ابتكار أو تطوير بعد الأنواع الستة, التي قرر العثمانيون أنها قمة الجمال, وقد أدى هذا الزعم إلى غياب عشرات الأنواع من الخطوط الكوفية التي لم تكن تنسجم مع ذائقة الأتراك على رغم أنها على درجة عالية من الجمالية وإلى إهمال أنواع أخرى عديدة كالخط المغربي وتفرعاته.

إن معارضي التطور هؤلاء بسلفيتهم وجمودهم وجهلهم وبتكريسهم لفكرة أن الخطاط الفنان هو الذي يحاكي ويجود الخطوط الستة الموروثة بأساليبها وأدواتها ووسائلها فحسب, إن هؤلاء قد أضروا بالخط العربي ولو أرادوا النفع, لأن إرهاب الفكرة جعل معظم الموهوبين يبرمجون أنفسهم على إتقان المحاكاة والتقليد, ويحجمون عن البحث أو التفكير في الابتكار والتجديد لمواجهة المتطلبات التي يطرحها التطور ومستجدات الحياة, وأصبح ممتهنو الخط يؤدون أعمالهم بشكل نمطي وبصيغ مكرورة لا تلقي بالا إلى خصوصية كل حالة أو خامة أو وظيفة, ويستخدمون الأنواع الستة في كل شيء من الورق والمطبوعات, إلى الزجاج, إلى الحديد, إلى القماش, إلى الرخام, إلى النحاس وغيره. ومن دعوة إلى فرح أو مأتم أو أية مناسبة أخرى, إلى عناوين الكتب والمجلات والصحف, إلى الإعلانات والملصقات واللافتات, إلى مقدمات الأفلام السينمائية أو التلفزيونية (التيترات) وإعلاناتها, إلى اللوحات الخطية وخطوط المساجد, إلى غيره وغيره, مما جعل كثيرا من الناس ينفضّون عن هؤلاء الخطاطين إلى الأشكال الجاهزة أو في الحالات الأفضل إلى بعض ذوي اللمسة الخاصة من الخطاطين على قلتهم.

أين تكمن المشكلة ?!

لقد بتنا بأمس الحاجة إلى الاستيقاظ من سباتنا, وإزالة الصدأ عن عقولنا, لنستطيع الوصول إلى مخرج من التخلف والتبعية واللا فعل يؤدي بنا إلى التقدم والتحرر والفعل في ميادين الحضارة كافة, ولن يكون لنا هذا ونحن نكتفي بتعداد مآثر أجدادنا دون أن ندرك أن العقل والإرادة والبحث والسعي إلى التطور بروح مبدعة وثابة كانت وراء إنجازاتهم كل في مجاله.

وفي مجال الخط العربي أرى لزاما علينا أن نكمل ما بدأوه لا أن نجتر ما أنجزوه وأن نستفيد من منهجهم الذي قام على الفرز المستمر والانتخاب والتوليد والاشتقاق والإضافة والابتكار تبعاً للجماليات العامة وجماليات الوظيفة وخصوصيتها وخاماتها وأساليب تنفيذها وأغراضها, وغيرها من العوامل المؤثرة.

إن العلم والثقافة والوعي هي ما نحتاج إليه إلى جانب الموهبة والفن للارتقاء باستخدامات الخط العربي لنلبي المتطلبات التي يطرحها التطور ومستجدات الحياة بصيغ جمالية دائمة التطور تطال وظائفه كلها من أدناها إلى أرقاها, من الكتابة اليدوية إلى اللوحة الفنية, الأمر الذي سيضر حقاً بالنساخ ومهتمي الخط العربي, ولكنه سيفتح الباب واسعاً أمام الفنانين من الخطاطين ذوي الموهبة والثقافة والوعي, وعلى هؤلاء تقع مسئولية تصميم الأشكال الملائمة لبرامج الكمبيوتر وتطويرها باستمرار, وهم القادرون على الارتقاء بالخط العربي كفن تشكيلي وإعادة ألقه إليه.

ليست المشكلة ـ إذن ـ في الكمبيوتر أو في الخط العربي, إنما هي في التخلف والسلفية والجمود والجهل والتقليدية المحافظة.

 

منير الشعراني

 
  




الخط العربي والزخرفة اللونية يتضافران في هذه الآيات





جمال الخط وجمال شكل الآنية جعلاها تحفة أثرية





المسجد الجامع في أصفهان- القرن الحادي عشر (خزف)





الخط العربي وقد استخدم على القطع النقدية قديما