الدار البيضاء في رمضان

الدار البيضاء في رمضان

تصوير: حسين لاري

لماذا الدار البيضاء ؟..إنها مجرد مدينة عصرية ولن تجد فيها مظاهر الشهر الفضيل واضحة, لماذا لا تذهب إلى إحدى المدن التاريخية الأخرى في المغرب وما أكثرها ؟

سمعنا هذا الاعتراض ـ أنا وزميلي المصور ـ في أكثر من مكان ونحن نستعد لسفرتنا المغربية كأن فعل الصوم يرتبط بالتاريخ الماضي أكثر من ارتباطه بديمومة الحياة المعاصرة, وكأن هذه المدينة النشطة التي ترقد على حافة الأطلنطي والتي تعتبر بوابة إفريقيا الشمالية يجب ألا يصيبها شيء من التكاسل الذي يحدثه يوم الصوم الطويل في رمضان, لقد كانت جولتنا بالفعل تتضمن عددا من المدن التاريخية مثل فاس ومكناس, حيث يبدو عالم الإسلام في سياقه الطبيعي مليئا بالحنين إلى ماض ذهبي بعيد وحيث تبدو العمارة تعبيرا حيا عن الطقوس والشعائر, ولكن كان الأكثر إثارة للنفس هو مراقبة هذه الطقوس وهي تحاول أن تعبر عن نفسها في ظل مدينة مفتوحة كالدار البيضاء ـ اجتماعيا وثقافيا.

مدن السواحل لا تنتمي إلا إلى البحر العميق الذي يلطم شواطئها ويوصلها مع غيرها من المدن الشبيهة, إنها مدن الغرباء والعابرين الذين تعودوا أن يأخذوا جزءا من ثقافة كل مدينة يهبطون إليها, ويتركون جزءا من أرواحهم القلقة التي لا تعرف الاستقرار, لذا فإن الدار البيضاء تنتمي إلى الإسكندرية وبيروت ومرسيليا وغيرها من الموانئ أكثر ما تنتمي إلى فاس ومراكش, ويبدو أحيانا أن إطلاق الاسم الأجنبي عليها (كازابلانكا) هو الأليق بها, فهي خالية من الأسوار التي تحيط بها مثل العديد من المدن المغربية, وخالية من آثار الحصون وبقايا معارك القرون الوسطى وأبهة السلاطين والولاة, إنها تحمل كل معالم التاريخ المعاصر, وخاصة ملامح ذلك الصراع الذي لم يهدأ بين المغرب وجيرانه الأوربيين الذين يواجهونه على الساحل الآخر من القارة, ولا تعاني المدينة فقط من هذه الازدواجية في الاسم, ولكن كل وجوه الحياة في الدار البيضاء هي مزدوجة بصورة أو بأخرى, فالشوارع تحمل أكثر من اسم, أسماء فرنسية لم تحل بدلا منها أسماء عربية, ولكن تجاورت وتعايشت معها, كذلك تداخلت اللغات على الألسنة, لذلك فاللهجة العامية أو المحكية المغربية واحدة من أصعب اللهجات العربية, لأن الكثير من مفرداتها مستمد من الفرنسية بعد أن جرت (مغربتها), وقد تتبعت عدة حوارات طويلة منها فلم أفهم منها شيئا, كذلك تختلط الثياب, ما بين الثياب الأوربية التي تتبع آخر الموضات والتنانير القصيرة جدا للنساء والثياب التقليدية التي تتكون من (الجلابة) والمركوب المغربي الشهير, تقسيم المدينة نفسه يعاني نفس هذه الازدواجية, فهي تهب من جزئها الأمامي قربانا لحياة البحر المفتوحة بما فيها من ملاه وعلب ليل مليئة بالفتيات المتحررات وبائعات الهوى ـ وهن بالمناسبة يصررن على صيام شهر رمضان ـ والقسم الخلفي منها المسلم المحافظ على التقاليد, كل شيء مختلط, له أكثر من وجه, فهي تنتمي للمغرب وللعالم في نفس الوقت, فهي أحدث مدن المغرب وقلبها التجاري وأكثرها ازدحاما بالسكان (حوالي 10 ملايين نسمة) وتمر بها 70% من تجارة المغرب الخارجية, يساهم في ذلك قربها من المناطق الزراعية ومناجم الفوسفات الكبرى في (خريبكة), كما أنها تحتوي على المراكز الصناعية المهمة مثل صناعة تجميع السيارات وتكرير السكر والنسيج وتعليب الأسماك والأسمنت والمواد الكيما وية والعديد من الصناعات, وهي أيضا المركز المصرفي, وملتقى كل طرق المواصلات والسكك الحديدية, وبها ثلاث مؤسسات للبحث العلمي وجامعة الحسن الثاني والمكتبة الحسنية للحرف العامة والكلية الوطنية للموسيقى, أي أن فيها الشيء الذي لا يستهان به من جماع الروح المغربية, وتقوها لكسر طوق الماضي, أليس من الجدير بنا أن نرصد فيها ملامح شهر رمضان؟!

أهمية الرفق بالمعدة

وصلنا إلى الدار البيضاء قبل غروب الشمس, كنا ـ أنا وزميلي المصور ـ متعبين وجوعى إلى حد كبير, كانت أجهزتنا الهضمية مضبوطة على ساعة الغروب بتوقيت الكويت, أي أن موعد الإفطار كان قد مر عليه أكثر من ثلاث ساعات دون أن يحين موعده بعد في الدار البيضاء, ولكن الاستقبال الحار الذي استقبلنا به مصطفى دندني مدير الشركة الشريفية للنشر والتوزيع أنسانا وحشة السفر وقرصة الجوع, قال لنا ضاحكا ونحن في طريقنا إلى الفندق: (مرحبا بكم في كل وقت ولكن لماذا في شهر رمضان, التجوال طوال النهار متعب بلا شك, وعلى حد علمي فأنتم لا تكفون عن التجوال؟, (قلنا له إن التوقيت مقصود به رصد مظاهر شهر رمضان, ومن حسن الحظ أن الزمن لا يتوقف فقد أذن المغرب وهرعنا في سرعة إلى المطعم, وهناك وجدنا مفاجأة في انتظارنا, فلم يكن هناك ذلك الإفطار الذي تعودنا عليه في المشرق والحافل بكل الأصناف, لم نجد إلا مائدة رمزية إذا جاز لنا أن نصفها هكذا, قطعا من الحلوى المغربية المتنوعة وحساء ساخنا وبعض الفاكهة والتمر وقليل من الخبز. لا لحوم, لا أسماك, لا أرز, ولا حتى فول مدمس.

قالوا لنا ضاحكين: (نحن نأخذ المعدة برفق ولا نقتحمها بالأكل دفعة واحدة) هكذا كان علينا أن نأخذ أول درس رمضاني على الطريقة المغربية, فالمعدة تكون متكاسلة بعد يوم طويل من الصوم وازدحامها المفاجئ بالطعام يجعلها عاجزة عن الهضم بشكل جيد, لذلك فإن البداية يجب أن تكون نوعا من الغزل الخفيف, حساء ساخنا أو (الحريرة) الغنية بالخضراوات وسكريات سريعة الهضم مثل الشباكية والبقلاوة, ثم تترك الفرصة للمعدة لتستعيد نشاطها لمدة ساعة أو ساعتين, بعد ذلك تأتي الأطعمة المغربية الشهيرة وفي مقدمتها طبق (الكسكسي) الذي تتعدد أصنافه ولا تكاد تخلو منه مائدة مغربية, فهو يقدم مع اللحم والخضار وكذا يقدم مع الدجاج ويقدم كأحد أطباق الحلوى أيضاً, وكذلك الطواجن التي تحتوي على لحوم الضأن وثمار الخوخ والباستيليا وأصناف أخرى سمعنا عنها قبل أن تتاح لنا الفرصة لتذوقها.

ولكن ماذا عندما يكون هناك ضيوف؟ يقول المغاربة إنها فرصة أيضا لحسن الضيافة, فالضيوف يظلون جالسين يوصلون الإفطار بالعشاء في حديث لا ينتهي, وأحيانا تبدأ الضيافة الحقيقية بعد صلاة العشاء, إنه أمر شاق لربة الأسرة بطبيعة الحال أن تعد المائدة مرتين في فترة قصيرة, ولكنها فرصة أيضا لأن تستعرض مهارتها وهي ليست بالقليلة كما لسمناها خلال زياراتنا القصيرة.

مدينة الأحلام البيضاء

في النهار بدأنا جولتنا في أرجاء الدار البيضاء, رغم كل المظاهر العصرية فإن طقوس الشهر محترمة, مطاعم الوجبات السريعة ومقاهي الأرصفة الفاتنة مغلقة, لا أحد يدخن بشكل علني, لا ملابس مثيرة في الشوارع, لا شجار بين سائقي السيارات, لكن تسود روح من التسامح النادرة الحدوث كما يقول أهل المدينة, كل شيء ينتظر آذان المغرب, غير ذلك فالمدينة المترامية تعج بحركة لا تنتهي, والجو البديع الذي تخالطه نسمات الاطلنطي تجعلك لا تتوقف عن السير والاستكشاف. منذ عشرين عاما والمدينة لا تكف عن التوسع, في كل عام ينزح إليها الآلاف من الباحثين عن فرصة أفضل للعيش والنتيجة عشرات من العاطلين عن العمل والمتسولين, إنها نفس المحنة التي تواجهها كل المدن الكبرى في العالم العربي.

الشوارع الواسعة تحتضن العمائر البيضاء التي تعود في معمارها إلى الثلاثينيات من هذا القرن, خليط مدهش من العمارة الفرنسية والمغربية, ولكن الأكثر دهشة هو أهل المدينة بطبيعة الحال في ذلك الإقبال والافتتان بمدينتهم, بذلك الاختلاط الهائل بين الرجال والنساء, الذي يبدو واضحا خاصة بعد الإفطار, حين تحتشد بهم الشوارع التجارية في وسط المدينة, وكذا أماكن المنتزهات والأندية الليلية الموجودة في (عين دياب) على شاطئ المحيط, إنهم من أكثر سكان المدن العربية عشقا للحياة, والسهر على حافة المحيط يمتد إلى ساعات متأخرة من الليل.

إن التاريخ يعود بعمر المدينة إلى عصور أقدم من ذلك بكثير من تلك الصورة المعاصرة, فالاستقرار في هذه المنطقة قد بدأ قبل الفتح الإسلامي, خاصة في (الأنفا) التي كانت عاصمة لحكم البربر وخاصة قبيلة (البرجواتة), وموقع هذه المدينة الآن هو أحد الأحياء الراقية, وقد فشل المرابطون في ضمها إلى دائرة ملكهم وظلت محافظة على استقلالها حتى استولى عليها الموحدون لفترات قصيرة, ورغم ذلك فالمنطقة ظلت محافظة على نوع من الاستقلالية الذاتية حتى أنها أقامت علاقات تجارية مباشرة مع كل من إنجلترا والبرتغال.

في منتصف القرن الخامس عشر أصبح الصراع ضاريا بين بحارة (الأنفا) والأسطول البرتغالي الذي كان يسعى للاستيلاء على ذهب إفريقيا, وقد قام أسطول برتغالي مكون من 50 سفينة ويحمل 10 آلاف جندي بالإبحار من (لشبونة) إلى الساحل المغربي وسلط مدافعه على (الأنفا) ولم يتركها إلا خرابا, وقد ظل الأسطول البرتغالي لها بالمرصاد, ما إن تنهض وتستعيد قدراتها التجارية والعسكرية حتى يعاود الهجوم عليها, وفي النهاية ـ عام 1575 ـ وصل الأسطول البرتغالي ليبقى ويقيم تحصيناته التي منها مدينة (كازابلانكا) لقد بقي البرتغاليون بها حتى عام 1575 ولم يتركوها حتى حطمها زلزال مدمر, وهو نفس الزلزال الذي حطم مدينة لشبونة, وقد أمر السلطان سيدي محمد بن عبدالله بإعادة بنائها وتحصينها.

في هذا الوقت بدأت أوربا نهضتها الصناعية وازدادت شراهتها للمواد الخام وللأسواق وكانت (كازا) هي موطئ قدمها إلى إفريقيا وبدأت تفتح وكالاتها وقنصلياتها, وفي مواجهة السلاطين الضعاف الذين لم يستطيعوا فرض سيطرتهم على البلاد وحمايتها من التدخل الأجنبي فرض القناصلة الأوربيون سلطانهم وتلاعبوا بالسلطان وأعوانه مما أثار حنق المغاربة ودفعهم إلى التمرد والثورة, وقد تطور الأمر إلى حده المأساوي عندما ثارت مشاجرة بين بعض العمال الأوربيين والسكان المحليين, وقد بدا الأمر عندما كان هؤلاء العمال يمدون خطا للسكة الحديد من الميناء وكان من المفروض أن يمر هذا الخط وسط مقابر المسلمين من أهل المدينة, وأثارت هذه الحادثة كل مشاعر الحنق التي كان الأهالي يشعرون بها, فلم يعد كافيا ما يشعر به أهالي المدينة من إهانات يومية بل وصل الأمر إلى إهانة موتاهم, وقعت الاضطرابات. وتذكر المصادر الغربية بأسى سقوط ثمانية من القتلى الأوربيين ولا تعتني كثيرا بذكر من قتل من المغاربة, ولكنها كانت حجة مناسبة تنتظرها فرنسا منذ زمن كي توجه أساطيلها إلى المدينة التعيسة وتبدأ في قصفها بعنف بالغ ثم لتعلن فرضها الحماية على المغرب كله في عام 1907.

ويصف والتر هاريس الذي كان يعمل مراسلا لجريدة (التايمز) اللندنية في الدار البيضاء ـ وقد كان شاهدا حيا على جريمة القصف فيقول: (ظهرت السفن الحربية الفرنسية في الأفق, وفي الوقت الذي كانت تهبط فيه وحدات من الجيش لحماية الأوربيين, بدأت السفن في قصف الأحياء الوطنية, وهكذا أصبح المغاربة بين نارين, نار المدافع ونار الجنود في الداخل, لقد أصبح المشهد مليئا بالرعب وارتكبت في (كازابلانكا) كل أنواع الجرائم, لقد شاهدت بعد أيام من القصف العديد من جثث الناس والجياد مازالت ملقاة في الشوارع, بينما تناثرت محتويات البيوت المدمرة يخرج منها الجرحى زاحفين على بطونهم طالبين المعونة دون جدوى, وفي وسط المدينة لم أقابل غير نساء يصرخن في جنون لفقدهن أطفالهن). هكذا كانت بداية الاحتلال الفرنسي للمغرب العربي التي استمرت حتى عام 1956 حين وقع الملك المغربي محمد الخامس اتفاقية إلغاء الحماية والاعتراف باستقلال المغرب, وفي الحق أن هذه السنوات الستين لم تكن سهلة, لقد كانت مليئة بالتمردات والثورات ودفع شهداء المغرب ثمنا غاليا لهذا الاستقلال.

البقاء لرموز الحضارة

توقفنا في قلب الدار البيضاء, ميدان محمد الخامس, إنه المكان الذي تتفرع منه معظم الشوارع الرئيسية للمدينة, شارع الجيش الملكي, شارع مولاي الحسن الأول وكذا الحسن الثاني ومحمد الخامس, أسماء هذه الشوارع موجودة في كل المدن المغربية تقريبا, وكما قلت من قبل فمعظم هذه الأسماء مزدوجة, لقد هبطت أسماء الكثيرين من قادة الاستعمار الفرنسي وحل بدلا منها رموز التاريخ المغربي والأفريقي, ورغم ذلك فهناك شوارع مازالت تحمل أسماء مشاهير الفرنسيين من كتاب ومفكرين وشعراء أمثال فيكتور هوجو وجان جاك روسو وباستور, كأن المدينة تحاول أن تمحو من ذاكرتها (فرنسا الاستعمار) وفي الوقت نفسه تبقي على فرنسا الحضارة).

تقودنا أقدامنا إلى سوق المدينة القديم, تماما مثل العديد من المدن العربية يوجد السور الحجري الذي يضم في داخله متاهة من الأزقة الضيقة والمتقاطعة, كل شيء هنا قابل للبيع, ولكنه صباح يوم من أيام رمضان والحركة التجارية مازالت نائمة, تعال بعد الإفطار ولن تجد هنا موطئا لقدم, ولكن بعض الظهر تبدأ الحركة تدب في سوق الأطعمة والخضراوات, والكنافة والبقلاوة والشباكية تتراص في أهرامات تتساقط منها قطرات العسل, هذه الأصناف الشهيرة من الحلوى حملها الفاطميون من المغرب إلى مصر وانتقلت منها إلى الشام, ورغم ذلك فإن للحلوى المغربية طعما مميزا, إنها تستمد غناها من تقاليد المطبخ المغربي التي طهيت على ناره الهادئة ثقافات الطعام العربية والبربرية وتلك التي عبرت البحر إليه قادمة من الأندلس, وهناك أغنية من التراث المغربي يطلب فيها المغني من صديقه أن يقيم له وليمة في بيته لا يحضرها إلا هو فقط, ويأخذ في تعديد أصناف الطعام التي يجب على صديقه أن يقدمها إليه, وهي أغنية طويلة حافلة بأصناف الطعام المعقدة والدسمة وهي تدل على مدى غنى المطبخ المغربي.

ولكن مالنا كلما بدأنا موضوعا قادنا إلى الطعام.. ألا يمكن لرمضان بكل ما فيه من تأمل روحي ونفسي أن يقودنا إلى موضوع آخر؟ فلنتأمل فنون المغرب على سبيل المثال, ففي يوم الصوم الطويل يمكن للفن أن يصبح غذاء (شرعيا) للروح.

فنون من المغرب

حي (الأحباس) يعطيك نفحة من نفحات الأندلس المعمارية, الأحباس تعني عندنا ـ أهل المشرق ـ الأوقاف وليس المساجين, والحي ليس قديما كما يوحي تصميمه المعماري ولكن تم بناؤه بعد دمار المدينة من جراء القصف الفرنسي, لقد قامت سلطات الاحتلال ببناء هذا الحي وفق التقاليد الأندلسية والمغربية القديمة, فهناك بوابة مقوسة ندخل منها إلى الساحة الرئيسية, فتجد نفسك فجأة وقد خرجت من أسر المباني العصرية وأحاطت بك المباني ذات القباب البيضاء والممرات المسقوفة والأبهاء المتصلة المزينة بالمقرنصات والآيات القرآنية, لقد تحول هذا المكان إلى موطن للحرف الشعبية والمكتبات المتنوعة, وبالنسبة لفأر كتب مثلي فقد كان هذا المكان مدهشا, لقد كشف لي عن الوجه الثقافي الغني للمدينة, مئات من الكتب المؤلفة والمترجمة في كل فنون المعرفة, ومعظمها كتب جادة لا يغلب عليها كتب الطبخ والعفاريت كما في العديد من المكتبات, قال لي أحمد بنوس صاحب إحدى المكتبات: (الشعب المغربي قارئ جيد لولا أن قدرته الشرائية ضعيفة وأثمان الكتب أصبحت باهظة الثمن).

على باب أحد المحلات الحافلة بالتحف المصنوعة يدويا استوقفتني الرقية المصنوعة ضد الحسد, كف منبسطة بأصابع خمسة وفي وسطها خرزة زرقاء, تساءلت لماذا أخذ هذا الرمز كل تلك الشهرة العربية الواسعة, فقد كان في طفولتي يرسم على واجهات البيوت, ومازال حتى الآن يعلق على جدران الشقق مصنوعا من النحاس وعلى صدور النساء مصنوعا من الذهب, إن هناك إحساسا خفيا في أعماق كل منا بأن هناك عينا شريرة تترصد خطانا, ونحن نستغل مهارة الصانع الشعبي حتى يمنحنا تلك الرقية المعدنية التي لا تقدر العين الشريرة على اختراقها, والصانع الشعبي المغربي واحد من أبرع الصناع العرب, وهذا الحانوت الذي نقف فيه والممتلئ بالنفائس الفنية دليل على ذلك.

منذ القرن السادس عشر والسفن الأوربية تغادر شواطئ المغرب وهي محملة بالبضائع الغريبة, لقد أطلق اسم (الموريكينري) على الصناعات الجلدية نسبة إلى المغرب, ومازال هذا الاسم دليلا على الجيد منها حتى الآن, لقد واصلت هذه التقاليد حياتها مستندة إلى واقع من التراث الغني في صناعة أنواع عديدة من هذه البضائع من السجاد إلى الخزف المنقوش ومن حلي الفضة إلى النحاس المطروق والخشب المحفور, أن هناك جهودا حكومية للحفاظ على هذا التراث, ولا تكاد تخلو مدينة مغربية من مركز متخصص لتعليم أبناء الحرفة, وحتى عندما فرضت فرنسا حمايتها على المغرب انتبهت لأهمية هذا الأمر فأنشأت في عام 1918 إدارة خاصة لتنمية هذه الصناعات, لقد امتزجت الخطوط البربرية القديمة التي تبدو على وجه الخصوص في نسيج الصوف مع خطوط الفن الإسلامي, ويكتسب الفن تفرده من ذلك التكرار اللا نهائي لأشكال مجردة قد تكون زهورا غريبة الشكل أو آيات مشتقة من القرآن الكريم, وقد ابتكر المغاربة ضربا من خط النسخ الخاص بهم وزينوا به العديد من تحفهم المعمارية, ووصل هذا الفن إلى ذروته في القرن الثالث عشر في عهد المرينيين الذي تميز ببناء العديد من العمائر, من مساجد وقصور ومدارس دينية, زينت كلها بالفسيفساء والأزليج, بحيث لم تترك في الجدران أي مساحة فارغة مهما كانت ضئيلة. وقد كانت الدولة المرينية واحدة من ثلاث دول بربرية حكمت المغرب وأضافت للإسلام رصيدا زاخرا بالبطولات, فالبربر الذين كانوا قبائل شتى قد وجدوا نفسهم في الإسلام وتحولوا إلى رهبان في الليل وفرسان في النهار.

بطاقة هوية للمدينة

كنا في الدار البيضاء على موعد آخر في مكان مميز أثبت فيه الفنان المغربي أنه مازال قادرا على الإبداع

وتقديم معالم مذهلة من هذا الفن التقليدي رغم تغير ظروف العصر.. كنا على موعد مع مسجد الحسن الثاني.

في كل مكان نذهب إليه كانت منارته تلوح في الأفق كأنها شاهد يتابع خطواتنا, ذراع متضرع دائم الامتداد نحو سماء نائية, إنها تبلغ من العمر الآن حوالي خمسة أعوام, فقد تم افتتاح المسجد في الثلاثين من أغسطس عام 1993 ومنذ ذلك الحين وقد أصبحت هذه المنارة معلما مهما من معالم الدار البيضاء, ويقول البعض إنه بعد بناء مسجد الحسن الثاني لم يعد من اللائق أن نطلق على المدينة اسم (كازابلانكا) فقد أكد المسجد هويتها العربية الإسلامية, وهذا يجب أن يكون واضحا من خلال اسمها وعلي حد تعبير الكاتب الكويتي المغربي الهوى ياسر الفهد: (منذ زيارتي للمغرب منذ 27 سنة لم أكن على وفاق مع مدينة الدار البيضاء العاصمة الاقتصادية وأكبر الحواضر المغربية وأكثرها تلوثا وضجيجا, ولكن بعد بناء هذا المسجد وجب الاعتذار من الدار البيضاء التي أصبحت تستأهل المصالحة, والوصل والصداقة الحميمة لكونها (تمركشت) ولله الحمد) ويقول مصطفى دندني: (لقد قامت الدار البيضاء بدور مهم في الحركة الوطنية المغربية من أجل الاستقلال وهذا المسجد هو مكافأتها على ذلك.

على حافة المحيط الأطلنطي تضطرم الأمواج تحت أعتاب أضخم مسجد في العالم, أمامها يمتزج الماء في الزرقة اللانهائية للسماء, وتحت الشمس يبدو المشهد رائعا ومهيبا, وقال زميلي المصور في همس كأنه يحدث نفسه (كيف يمكن احتواء كل هذا الجمال داخل إطار الصورة) لقد تركني وسرح بعيدا يحاول أن يلتقط أدق التفاصيل, وعندما لم يشبع هذا الاقتراب الحميم من شغفه ركب سيارة ووقف بعيدا فوق تلة مقابلة لعله يحتوي بالصورة مالا يمكن احتوائه في الواقع, لقد وضع في هذا البناء الذي استغرق ستة أعوام خبرة قرون طويلة من البناء والزخرفة والنحت وشارك فيه أكثر من ثلاثين ألفا من البنائين والصناع وأصحاب الحرف, ولا تقف المشاركة عند هذا الحد, فقد شاركت في كلفة البناء كل طوائف الشعب المغربي, شارك التجار بمبالغ معينة كل واحد حسب حجم تجارته, وتبرع الموظفون بشهر من الراتب, ولم يستثن أحد حتى خدم المنازل, كان هناك إصرار من السلطة الحاكمة على أن يكون هذا الكيان ملكا لجموع شعب بأكمله وليس مأثرة من أحد.

ترتفع أمامنا المنارة المربعة بنقوشها البديعة, تتقدم واجهة المسجد كأنها حارس عملاق لا ينام خاصة وفي قمتها تلك العين الساهرة الزرقاء من أشعة الليزر, إنما تتجه شرقا دائما حيث توجد مكة, ولكن فائدتها الفعلية هي حماية المنارة من الاصطدام بحركة الطيران الكثيفة, فهي تبلغ من الارتفاع مائتين وعشرة أمتار, مكسوة بالرخام المزين بنقوش خضراء باهتة وبيضاء زاهية, وقد راعى الصانع الحرفي أصول العمارة الإسلامية فجعل النقوش على واجهات المنارة الأربع مختلفة الشكل متوحدة في الروح حتى لا يسقط في هوة التماثل الرخيص.

تقليد معماري آخر حافظ عليه الصانع المغربي هو ذلك العدد الكبير من نوافير الماء المبثوثة في مختلف أجزاء المسجد, وتمثل هنا محورا من أساسيات العمارة كأن الصانع يضعها أولا ثم يأخذ في ملء الفراغ من حولها, تماما كما تنفجر عيون الماء في وسط الصحراء ويبدأ العمران في التكون من حولها, ولعل هذا سر حرص المسلمين على وضع نوافير المياه في الأماكن التي يقيمون فيها, إن صوت الخرير يذكرهم دائما بديمومة الحياة, وتداخلها مع

ضوء الشمس ـ كما في مسجد الحسن الثاني ـ ويخلق أيضا أقواسا قزحية الألوان في تفاعل حركة المياه مع ضوء الشمس, ومن المؤكد أن الفنان المغربي كان مدركا لتلك المكانة النفسية للنافورة, فقد نقش عليها وزينها بأغصان النبات والزهور الملونة تعبيرا عن الفرح العميق بالخصوبة التي تبثها هذه المياه الدائمة التدفق.

صحن المسجد يسع 25 ألف مصلي, وإذا أضفنا إليه الفناء الخارجي وباقي الأروقة فسوف ترتفع سعة المسجد إلى 100 ألف على الأقل, وهو مقسم بواسطة مشربيات بديعة النقش إلى مكان للرجال وآخر للنساء, وتظلل الصحن قبة خشبية تتحرك آليا حتى تنكشف السموات البعيدة مباشرة للمصلين, ولابد أن نقف مبهورين أمام نقوش القبة التي حفلت بالخط المغربي وهو يردد أسماء الله الحسنى, إنها من تصميم فنان مغربي مبدع هو كمال بيلامين نفس الفنان الذي قام بتصميم ضريح محمد الخامس في الرباط.

لا أدري كم ساعة مرت علي وأنا أتأمل أرجاء هذا المسجد, وكنت مبهورا ـ أنا الذي تخيلت أنني لم أعد قابلا للإبهار ـ وكل جزء من المسجد يسلمني إلى آخر, من بوابات المعدن المطروق التي تأخذ جمالها من ثنايا نفسها دون أي إضافة, صوامع الخشب المتداخلة كخطوط اليد وتلافيف المصائر, المحراب المتوجه شرقا في اشتياق لا ينتهي, أقواس الصحون والمقرنصات المعلقة عليها مثل ثريات حجرية, الكوات المفتوحة بحساب كي تنفذ منها أشعات خجول من الشمس تضيء التفاصيل دون أن تفضحها, والمنمنمات والنقوش التي لا تنتهي, تتكرر كأنها أدعية لا يكف عباد مجهولون عن ترديدها ليلا ونهارا, سرا وجهرا.

ولا تتوقف التقاليد الإسلامية عند العمارة والزخرفة فقط ولكنها تمتد إلى الدور المتكامل الذي كان يقوم به المسجد في المجتمع, فهذا المكان ليس مكانا للعبادة فقط ولكن للتعلم أيضا, حول الساحة الخارجية تبدو ملامح مشروع لم يكتمل بعد لعمل مدرسة دينية تابعة للمسجد يقيم فيها الطلاب ويدرسون على نفقة الدولة. وهي ملامح مشروع طموح يهدف إلى استقطاب مئات الدارسين من المغرب والعالم الإسلامي لتلقي علوم الدين والدنيا في هذا المكان.

تدفق البشر

في النهار تبدو ساحة المسجد هادئة, تتألق تحت ضوء الشمس وتقشعر تحت لمسات ريح المحيط الباردة, لا يوجد بها إلا بعض الطلبة الذين يستذكرون دروسهم وبعض العشاق الصغار يجلسون على حافة السور المقام على الشاطئ وبعض الزوار المبهورين من أمثالي, ولكن المكان في الليل يختلف تماما, من قبل آذان المغرب وجموع البشر تبدأ في التدفق على المسجد, يجلسون خاشعين في انتظار الآذان, يحملون معهم زادا من التمر والحلوى, ليتناولوا هذا الإفطار الخفيف قبل أن ينهضوا إلى الصلاة, بعد ذلك لا يتوقف التدفق البشري, كأن الدار البيضاء قد وجدت في هذا المكان بغيتها ومهوى فؤادها, وكأن شهر رمضان لن يكتمل إلا بالصلاة بين جدرانه, أفواج البشر تضم الجميع, الأطفال وهم يعدون بسرعة في ساحة المسجد ليلحقوا بالركعة الأولى من صلاة التراويح والنساء وهن يلبسن العباءات المنقوشة وأغطية الرأس, والرجال أيضا قد تركوا ثياب العمل الأوربية وارتدوا الجلابة ذات القب والمركوب, أقف مندهشا من هذه اللهفة الجماعية, كأن هذا هو الاحتفال الشعبي الذي تقيمه المدينة في كل يوم من أيام شهر رمضان. هناك احتفال آخر ولكنه ملكي هذه المرة, وهو لا يقام في الدار البيضاء, ولكن في ضريح الملك محمد الخامس في الرباط, إنه احتفال الدروس الحسنية التي يحرص الملك الحسن على حضورها كل ليلة, وهو يجلس على الأرض, متواضعا مثل أي طالب علم يحيط به كبار رجال الدولة وسفراء الدول الإسلامية بينما يجلس المحاضر فوق مكان مرتفع حتى يراه الجميع ويراهم, وحتى يتأكد من خلال المجلس أن العلم والعلماء في الإسلام يجب أن تكون لهم المكانة العليا, ولا تقتصر الدروس الحسنية على أمور الدين فقط ولكنها تمتد إلى كل فروع العلم ويدعى إليها العلماء من جميع أرجاء العالم الإسلامي.

ومع الأسف الشديد لم أر الدروس الحسنية إلا على شاشات التلفزيون مشبعة ولكني كنت شاهدا على هذا الاحتفال الشعبي المتدفق في الدار البيضاء على مدى أكثر من ليلة, لقد كان الحضور كثيفا متواصلا حتى في صلاة الفجر والنور ينسل من غبش المحيط ليلد يوما آخر, ربما كان أفضل, والآيات القرآنية تعلو مشبعة بالوجد لتنداح فوق الأمواج ذاهبة إلى مداها الأبعد, وكأننا نقف فوق نفس البقعة التي هبط فيها عقبة بن نافع إلى غمار المحيط وهو يصرخ (يا الله.. لو كنت أعلم أن خلف هذا البحر أرضا لخضته في سبيلك) وسواء أكان هذا الكلام ينتمي إلى دنيا الواقع أو إلى زمن الأسطورة فهو خليق بهذا الصبح الذي يولد, وخليق بجلال الموقع الذي نقف عنده والأثر المقام عليه.

 

 

محمد المنسي قنديل