حرية الضمير.. واختيار الروح
حرية الضمير.. واختيار الروح
ملف خاص ولاينكر منصف, كذلك, تميز التاريخ الغربي بحروب الإكراه الديني, لإدخال الناس في المسيحية, بل ولإكراههم على الانتقال من مذهب إلى آخر من مذاهبها. وإذا كان الأمر كذلك, فكيف انقلبت الأوضاع, حتى صار الغرب هو الذي (يزايد) علينا في ميدان (حق الإنسان في اختيار المعتقد الديني الذي يطمئن إليه الضمير). هل اختلت المعايير؟! أم تبدلت مواقع الفرقاء؟! نحن لاننكر أن الإنسان المسلم, في واقعه الراهن يعيش مأساة الافتقار إلى الحدود الدنيا التي قررها له الإسلام فرائض وواجبات.. لامجرد حقوق في ميادين السياسة والاجتماع والاقتصاد والتفكير والتعبير. لكن هذه القضية ليست موضوع بحثنا الآن وإنما نحن نريد أن نبحث عما يميز الخيط الأبيض من الخيط الأسود في دعوى الغرب نكوصنا عن حق الإنسان وحريته وحرية ضميره في الاعتقاد الديني! لنتبين الحق فنميزه من الباطل, في مقام الغمز واللمز والتهجم الذي يوجه إلى الإسلام والمسلمين عندما يكون الحديث عن حقوق الإنسان, وعن مضمون (الإعلان العالمي لحقوق الإنسان)! وإذا نحن أردنا تشخيصا دقيقا لهذه الدعوى, فإننا نقول:إنهم لايدعون أن الإسلام يكره الآخرين على تغيير الدين والمعتقد الديني, ولكن دعواهم أنه يكره الذات, ذات المسلم, على عدم تغيير عقيدتها الإسلامية, فيحرمها من حرية وحق الإنسان في تغيير ذاته إن هو أراد, وإلا وقع تحت طائلة (حد الردة) فالإكراه الذي يتحدثون عنه هو إكراه الذات على ألا ترتد عن دين الإسلام! وعلينا ـ بمنطق الإسلام ـ أن ننظر هذا الأمر, أمر ما يسمونه (حق الإنسان في الارتداد عن دينه) لنرى أين الحق, وأين الباطل في هذا الادعاء. إن النظرة الإسلامية, التي بلغت مابلغت في تقديس حرية الضمير والاعتقاد, لتأسيس الإيمان على هذه الحرية ـ كتصديق بالقلب يبلغ مرتبة اليقين ـ ولاستحالة تحققه بغير هذه الحرية, تفرق ـ هذه النظرة الإسلامية ـ بين ما يمكن أن نسميه (الشك والوسوسة), كعارض ذاتي, قد يصاب به إنسان, نتيجة للتأمل والنظر, أو فقدان العلم والدليل, أو بسببهما معا, تفرق بين ذلك وبين الدعوة إلى طرح الإيمان جانبا, وعلى النطاق العام, من قبل هؤلاء الذين يصيب (الشك) معتقدهم الديني, فيقودهم إلى الكفر والإلحاد. فلو أن (زيدا) من الناس, عرضت له (الوساوس والشكوك) في أصل الإيمان الديني, فقاده ذلك ـ والعياذ بالله ـ إلى الإلحاد, فإن الإسلام يطلب من هذا (الشاك) أن ينظر إلى حالته هذه (كعارض مرضي), يجب أن يطلب له العلاج, فعليه أن يبحث عن سبل الهداية, ويطلبها من جميع مظانها, لدى العلماء وفي بطون الكتب, ما استطاع إلى ذلك سبيلا, ودون تهاون أو تقصير, ثم إن عليه أن يستر حالته هذه عن (العامة) فلا يشيعها بين (الجمهور), فمثلها كمثل (العورة) يبحث لها العاقل الراشد عما يسترها, لا أن يعرضها على الجمهور ـ بدعوى الحرية ـ فيشيع الفاحشة بين الناس! وإذا كان الله, سبحانه وتعالى, لا يكلف نفسا إلا وسعها, فليس مطلوبا من الشاك الذي لم يقصر في طلب الهداية, أن يكون كالمؤمن سواء بسواء, فما دام مفتقرا إلى التصديق القلبي اليقيني, فإن طلب الإيمان منه لن يفضي إلا إلى الحصول على حالة من حالات النفاق, لأن فاقد الشيء لايعطيه! والسؤال هو: ماذا إذا التمس (الشاك), الذي قاده الشك إلى (الإلحاد) سبل الهداية المستطاعة, فلم يطمئن قلبه بالإيمان, ومات دون أن يبلغ في الإيمان مرتبة اليقين؟ هنا ـ في تقديرنا ـ وبناء على قاعدة إذن, فالشاك, نتيجة للتأمل والنظر, إذا قاده الشك إلى الإلحاد بدلا من الإيمان, لاتثريب عليه إسلاميا, إن هو لم يقصر في طلب الهداية والرشاد, مادام قد ستر (عورة الإلحاد) عن (العامة), كي لاتشيع فاحشتها في مجتمع المؤمنين, مادام قد وقف بجواره حول أمره عند حدود العلماء الذين طلب لديهم سبل الهداية والرشاد. فليس إذن في هذا المنطق الإسلامي والموقف الإسلامي (إكراه للذات) على الإيمان القسري, لأن هذا (الإكراه) هو تكليف بما لايطاق يرفضه الإسلام ـ ثم هو طلب (للنفاق) إذ لايحقق جوهر الإيمان كما يعرفه الإسلام! أما إذا كان (الإلحاد) فكرا ورسالة يدعو إليهاالملحدون ويشيعونها بين الناس, فتلك قضية أخرى, تتجاوز نطاق حرية الاعتقاد إلى العمل على تدمير (النظام العام) في المجتمع الإسلامي, إذ الإيمان واحد من أبرز سمات هذا النظام, لما يمثله من رباط انتماء, وعامل وحدة وتأليف, وأيديولوجية أمة, فضلا عن كونه كمال فطرة العقل الراشد السليم, هنا يصبح النشاط الداعي إلى الإلحاد خروجا على (النظام العام), ومحاولة لتدميره, يدخل في باب (الحرابة) المستهدفة لفساد الدنيا والدولة بإفساد الدين. ردة المنافقين وحتى نلمس جليا تمييز الإسلام بين هاتين الحالتين من حالات الإلحاد والملحدين, فإننا ندعو إلى تأمل عدد من الحقائق الماثلة في إطار الأدلة المرجعية في الإسلام حول هذا الموضوع, وذلك من مثل: 1 ـ خلو الآيات القرآنية التي تحدثت عن الردة من ذكر عقوبة القتل ـ بعد الاستتابة كحد لها.. لماذا؟ لأن هذه الآيات القرآنية كانت تتحدث عن (ردة النفاق والمنافقين), فهي ردة ذاتية وسرية غير معلنة, يظهر أهلها الإسلام في مجتمع المدينة على عهد الرسول, عليه الصلاة والسلام, فهي في الحقيقة, (زندقة), وكما يقول الإمام الشافعي (051 ـ 402هـ 767 ـ 028م):(فإن الزنديق هو الذي يسر الكفر ويظهر الإيمان, ولقد عبر الإمام مالك (39 ـ 971هـ 217 ـ 597م) عن ذات المعنى في قوله: (إن النفاق في عهد رسول الله, صلى الله عليه وسلم), هو الزندقة فينا اليوم، وهؤلاء المنافقون, الزنادقة, الذين أسروا الكفر وأظهروا الإيمان, ولم يدعوا غيرهم إلى زندقتهم, ولم يظهروها فيشيعوها بين الناس, عوملوا معاملة المسلمين, وترك حسابهم الأخروي إلى الله, فخلت آيات القرآن التي تحدثت عنهم, والتي استخدمت مصطلح (الردة) في وصف حالهم, من تقرير عقوبة الردة: القتل بعد الاستتابة وعن هؤلاء, الزنادقة المنافقين, الذين لم يعلنوا ردتهم, ولم يشيعوا فاحشتها, والذين ـ لذلك الإسرار ـ لم تنص الآيات التي تحدثت عنهم ـ بلفظ الردة ـ على عقوبة الردة في حقهم, عنهم يقول الإمام ابن جرير الطبري (422 ـ 013هـ 938 ـ 329م): لقد جعل الله الأحكام بين عباده على الظاهر وتولى الحكم في سرائرهم دون أحد من خلقه, فليس لأحد أن يحكم بخلاف ماظهر, لأنه حكم بالظنون, ولو كان ذلك لأحد كان أولى الناس به رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وقد حكم للمنافقين بحكم الإسلام بما أظهروا, ووكل سرائرهم إلى الله, وقد كذب الله ظاهرهم في قوله: وهؤلاء (الشكاك) الذين أصابتهم الوساوس فزعزعت قواعد إيمانهم, إذا هم التمسوا سبل الهداية وأدلة اليقين لدى العلماء, لايعد شيء من سعيهم هذا, وحوارهم مع العلماء, إظهارا للإلحاد وإشاعة للشكوك والوساوس, يستوجب الاستتابة وإقامة حد الردة عليهم, بل إنه سعي يدعو إليه الإسلام ويأمر به الله, ولقد رأينا في عهد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) حال ذلك النفر من الصحابة الذين أصابهم شيء من ذلك, فذهبوا إلى رسول الله يطلبون ويلتمسون سبل الهداية واليقين, وحدثوه عما عرض ليقينهم من زلزال جعلهم يبلغون حالا قالوا إنهم يتعاظمون أن ينطق به لسانهم, فأهون عليهم أن يلقوا في النار من أن يتلفظوا به ـ وما نراه إلا الإلحاد- فتلقاهم الرسول (صلى الله عليه وسلم) لقاء البشير, وحدثهم عن أن شك البحث عن الحقيقة هو الطريق الآمن إلى اليقين! لقد قالوا له فيما يرويه أبوهريرة: لقد حدثوا أنفسهم بهذا الذي عرض لهم, ثم ذهبوا يطلبون سبل الرشاد واليقين, فلم يقل أحد إنهم قد أعلنوا شكهم أو أشاعوا وساوسهم حتى تقام عليهم العقوبات! جريمة الحرابة أما الردة التي يقام الحد على مرتكبها, فإنها أشبه بجريمة (الحرابة) التي هي محادة لله ولرسوله ولجماعة المؤمنين, إنها إعلان الحرب على الإيمان, كنظام للاجتماع الإسلامي, تجعل من المرتدين معول هدم للنظام الإسلامي! وليس سرا ولا هو مما يخفى دلالته أن الفقهاء الذين قرروا للردة حدا ـ هو القتل بعد الاستتابة ـ قد استندوا إلى الحديث النبوي, لا إلى القرآن, وأن الحديث الذي استندوا إليه لايدع مجالا للشك في أن هذا هو معنى الردة التـي تستحـق هذا العقاب, لأنها إعـلان وإشاعة للفاحشة, ومحاربة للأمة, والتحاق بمعسكر العدو في ظل ملابسات الصراع ومخاطره, ففيها مفارقة للجماعة المؤمنة, ودعم لمعسكر الأعداء وهناك حديث عن الرجل المنافق, الذي كان يزيف في كتابة القرآن, فبدلا من أن يكتب: غفورا رحيما, يكتب: عليما حكيما.. وهكذا.. ثم لحق بالمشركين, فاستحق لقب المرتد وحكم الردة, وحديث الذين ارتدوا كفارا بلحاقهم بالمشركين (فضرب الله أعناقهم مع أبي جهل) يوم بدر ـ كما رواه ابن عباس. ولعلنا نلمح معنى ومغزى لمجيء (باب الردة) في كتب الفقه الإسلامي عقب (كتاب الحرابة).. ولقول بعض الفقهاء إن آية الحرابة ونلمح كذلك مغزى قول الثوري وأبي حنيفة وأصحابه وابن شبرمة وابن علية وعطاء والحسن وابن عباس وعلي بن أبي طالب, قول هؤلاء العلماء بعدم قتل المرأة المرتدة, لعدم تحقق آثار الحرابة في ردتها! إذن, فليس في الإسلام (إكراه للذات) على (إيمان قسري) لم يقم عليه دليل, وإنما الذي في الإسلام هو حماية للنظام الاجتماعي, المؤسس على الإيمان الديني, من هدم (المرتدين) الذين تحمل (ردتهم) كل معاني (الحرابة) ومحادة الله ورسوله, ومناصبة الأمة الإسلامية والمجتمع الإسلامي كل العداء.
|
|