نهاية العلم

نهاية العلم

المؤلف: جون هورغن

جون هورغن هو أحد كبار المحررين لدى المجلة العريقة (الأمريكي العلمي) (التي تتولى مؤسسة الكويت للتقدم العلمي ترجمتها تحت عنوان (مجلة العلوم)), وقد نشر مقالات عديدة في أرقى الجرائد والمجلات الأمريكية والبريطانية. وصدر كتابه الأول هذا, الذي عنونه (نهاية العلم: مواجهة حدود المعرفة في غسق العصر العلمي), سنة 1996 في طبعته الأولى, ثم في طبعته الثانية (وهي التي اعتمدناها هنا) سنة 1997, أضاف فيها فصلا قدم فيه ردوده للانتقادات الكثيرة التي لاقت صدور الكتاب. وسنعود إلى الانتقادات لاحقا.

نذكر على سبيل المثال لا الحصر: مستشار الرئيس كلينتون في مجال العلوم, والمدير العام للوكالة الفضائية الأمريكية NASA, وحوالي عشرة من الحاصلين على جائزة نوبل, وعددا كبيرا من النقاد في كل البلدان التي نشر أو سوق فيها الكتاب.

أود الإشارة إلى أننا بدأنا نتعود الآن على مثل هذه الكتب الاستفزازية التي تأتينا من صحفيين في معظم الأحيان وليس من باحثين عارفين بخلفيات الأمور واتجاهات التطور في مجالات العلم. فمنذ بضع سنوات فقط أصدر الكاتب الصحفي البريطاني براين آبليارد Bryan Appleyard كتابا تحت عنوان (فهم الحاضر: العلم وروح الإنسان المعاصر), أحدث ضجة كبيرة في الأوساط العلمية والفكرية بسبب النقد الحاد الذي وجهه للعلماء- ولمؤسسة العلم عموما, إذا اعتبر أن العلم أصابه الكبرياء والادعاء المفرط وأن العلماء أصابتهم نشوة اكتشافاتهم ونظرياتهم, وكانت خلاصة آبليارد وتوصيته الأساسية أن عملية السعي العلمي باتت تحتاج إلى تأديب وإذلال.

وفي نفس السنة الماضية نشر إدوار تنر كتابا تحت عنوان (لماذا تنتقم الأشياء) (Why Tthings Bite Back) زعم فيه أن العلم قطع أشواطا كبيرة وحقق انتصارات عظيمة لكنه أخرج في سياق تطوره جملة من النتائج والمخلفات السيئة, حتى أنه تمنى أن يعيد العلم ماضيا أو مستقبلا سيرته بانضباط أكبر.

وقبل بضعة أشهر فقط من صدور كتاب هورغن, نشر المؤلف جورج جونسن (صحفي النيويورك تايمز المختص بمجال العلوم) كتابا بعنوان (نار في الذهن: العلم والإيمان والبحث عن النظام) شكل هو الآخر هجوما قويا على العلم ككل ـ ولكن من زاوية مختلفة تماما ـ إذا ظل يلح على أن النظريات العلمية ما هي إلا نوع من أنواع التصورات البشرية, لا تعلو على أي تصور آخر, أسطوري كان أو دينيا أو فنيا أو غير ذلك, وأن (نتائج) العلم يجب اعتبارها وطيدة الصلة بالزمن الذي تظهر فيه, ولا يجوز إضفاء صفة (الدوام) لأى منها. وهكذا حاول جونسن القضاء على مفهوم (المعرفة الموضوعية) (المستقلة) كلية. ولست أدري كيف لا يفرق هذا الكاتب بين النظريات التي تؤكدها النتائج التجريبية العديدة, وبين التصورات الأخرى التي لا تدعمها منهجية المنطق ولا الفحص الدقيق والمقارنة.

وكان العالم الفيزيائي ستيفن واينبرج, الحائز على جائزة نوبل, قد صب مزيدا من الزيت على النار (نار الكثيرين من الصحفيين والمثقفين الناقمين على العلم) عندما نشر كتابه (أحلام النظرية النهائية) (Dreams of A Final theory), الذي أعلن فيه أولا أن الفيزياء (أعظم العلوم) قد اقتربت كثيرا من هدفها السامي المتمثل في إخراج نظرية نهائية موحدة تفسر العالم كاملا, وثانيا أن الفلسفة (أي كل ما هو ليس علما دقيقا) لا فائدة فيها تقريبا, كما أغار في هجمته على مفاهيم مقدسة, شديدة القداسة, على اعتبار أنها أفكار قديمة بالية. وربما يذكر القراء المتابعون لهذه النقاشات الثورة التي أحدثها واينبرج المتطرف حينها (سنة 1993) في الأوساط الثقافية عموما والصحفية خصوصا.

خلاصة القول إننا لم نعد نهتز كثيرا لمثل هذه السجالات بين العلميين والصحفيين, ولمثل تلك الشتائم المتبادلة, لأن هذا لا يفيدنا في شيء. أما ما يهمنا حقا فهو معرفة ما إذا كان العلم يتجه فعلا نحو نهايته أم لا.

أفكار في فصول

قبل أن نتعرض لأفكار هورغن بالنقاش, يتحتم علينا أولا إعطاء فكرة وجيزة عن محتويات الكتاب. وأعتقد أنه يجدر بنا تقديم عناوين فصول الكتاب, لأن فيها دلالة مفيدة حول آراء المؤلف, إذ جاءت كلها في شكل (نهايات):

مقدمة: بحثا عن (الجواب). ثم توالت فصول الكتاب بعد ذلك.

نهاية التقدم.

نهاية الفلسفة.

نهاية الفيزياء.

نهاية الكوسمولوجيا.

نهاية البيولوجيا التطورية.

نهاية العلوم الاجتماعية.

نهاية علم الأعصاب والتفكير.

نهاية علم الشواش والتعقيد.

نهاية علم الحدود.

اللاهوت العلمي, أو نهاية علم الآلات.

خاتمة: الرعب الإلهي.

لاحظ معي أن العلوم الاجتماعية والفلسفية, بل التقدم برمته, كلها لم تنج من قرار هورغن بأنها وصلت إلى (النهاية)!.

بل لقد ذهب هورغن إلى أبعد من ذلك, حين قرر أنه لا يعتقد فقط أن العلوم الأساسية قد انتهت, بل إن العلوم التطبيقية هي أيضا تتجه بسرعة إلى نهاية الطريق. وأعطى لذلك المثالين (غير المقنعين) التاليين: الأول هو الصهر النووي, الذي يعد بحل مشكلة الطاقة للإنسانية بصفة نهائية, وذلك بجعل الماء (أو على الأقل النوع الثقيل منه) مصدر الطاقة, وهو متوفر على سطح الأرض بكميات شبه نهائية, فيصرح هورغن بأن الصهر النووي الذي ظللنا نوعد به منذ 20 سنة لن يتحول إلى حقيقة أبدا ـ حسب رأي الاخصائيين الواقعيين ـ بسبب الصعوبات التقنية والاقتصادية والسياسية الجبارة التي يواجهها. أما المثال الثاني فيأخذه صاحبنا من البيولوجيا, ويحصره في عدم قدرة الباحثين على التوصل إلى علاج للسرطان, وبعده على مفتاح الخلود! فبعد أن أعلنت (الحرب على السرطان) سنة 1971, وبعد صرف 30 مليار دولار على الأبحاث, نجد نسبة الوفيات بالسرطان قد ارتفعت بـ 6%, ولم تبتكر أي تقنية جديدة لعلاج هذا المرض الخبيث. ويقرر صاحبنا في الأخير أن (مشكلة السرطان) ربما تكون مستحيلة الحل!.

وأريد الآن أن أناقش المؤلف في أفكاره الرئيسية, ولو بشكل موجز.

بنى الكاتب أطروحته على ثلاثة أفكار رئيسية هي: أولا أنه لم يعد يرى اكتشافات كبرى تحدث في الآونة الأخيرة, ثانيا أن العلم المعاصر تحول إلى عمليات رياضية معقدة لا يفهمها ولا يهتم بها معظم البشر على الإطلاق. وثالثا أن بعض ما يبحث عنه العلميون اليوم (أو يزعمون ذلك) لن يصلوا إليه أبدا.

وأعتقد أن هورغن مخطىء في أفكاره الثلاثة.

أولا سأقول بشيء من الجرأة أن وتيرة الاكتشافات قد تزايدت في السنوات القليلة الأخيرة بشكل كبير, خاصة في مجال الفلك, فخلال السنة الأخيرة فقط, تم اكتشاف أول الكواكب خارج مجموعتنا الشمسية (وبلغ عددها عشرة لحد الآن!), وتم اكتشاف الماء على سطح القمر, وربما وجدت بوادر الحياة البدائية على المريخ, وتضاعف عدد المجرات المعروفة في الكون نحو خمس مرات, وحدد عمر الكون بدقة أعلى.. وكل هذه اكتشافات تاريخية. وإذ لا أود التطفل على الاختصاصات الأخرى, أقول فقط إن معظم المجالات الأخرى تشهد نهضة وتسارعا في الأبحاث بل ظهرت مجالات جديدة يجب اعتبارها بالغة الأهمية, مثل الشواش والشبكات العصبية وغيرها. حتى الكيمياء, التي بدأ العديدون يعتبرونها في آخر حياتها, صارت تشهد (ميلادا جديدا) على تعبير أحد الحاصلين على جائزة نوبل لسنة 69, لأنها في طور التحول من (دراسة المركبات الموجودة في الطبيعة) إلى (دراسة المركبات الممكنة في الطبيعة).. أما في الفيزياء فقال جون ويلر, الذي لم يعد يحتاج إلى تعريف (إن أعظم الاكتشافات العلمية لا تزال أمامنا!..).

ثانيا ليس صحيحا أن معظم الأبحاث الجارية اليوم تتمثل في دراسات نظرية رياضية مجردة لا يفقه الإنسان العادي منها شيئا. فكثير من المسائل المطروحة اليوم هي تطبيقية بالدرجة الأولى, مثل الناقلية الفائقة, ومحاولة الوصول إلى المخطط الجيني الإنساني الكامل, وغير ذلك.

ثم من قال إن قدرة العامة على فهم أبحاث ما يجب اعتباره معيارا لأهمية تلك الأبحاث? هل يفقه العامة ـ بل كثير من المثقفين ـ نسبية آينشتاين أو النظرية الكوانتية, التي لن يجادل أحد, بمن فيهم هورغن نفسه, أنهما أهم ثورتين علميتين في هذا القرن?.. وهل كان أحد يظن أن هاتين النظريتين, اللتين كانتا تبدوان مجردتين حين وضعتا, سيكون لهما كل تلك التطبيقات والتأثيرات على حياة الإنسان وفكره اليوم?.

ثالثا لا أفهم كيف يمكن لكاتبنا أن يجزم بأن ما يجري البحث فيه حاليا, من القواعد الفيزيائية الكامنة وراء القوانين المفهومة إلى التفاعلات التي ينشأ عنها الوعي, لن نتوصل فيه إلى نتيجة يوما ما, آجلا أو عاجلا!.

وأخيرا أريد التأكيد على فكرة مهمة تبدو بشكل خفي في كتابات هورغن, وهي مهمة لأنها تكشف عن الأسباب الذاتية الدفينة التي أوصلت الكاتب إلى تلك القناعات. نجده أولا يتأسف أمام حالة العالم الراهنة ويلوم العلم عليها, إذ يقول لنا: (رغم كل إنجازاته, يبقى العلم مخيبا للآمال, فقد تركنا نتخبط في الحروب والأمراض والفقر والنزاعات العرقية ومصائب أخرى. كل ما فعله العلم أنه كسر الاعتقادات والأساطير التي كانت تعطي معنى للحياة..).

أما الفكرة الثانية التي يجب الإشارة إليها هنا فهي رأيه حول الله. أولا نجده معجبا بستيفن واينبرج (الملحد), فيعيد طرح التساؤل الإنكاري الذي كان العالم الفيزيائي طرحه في كتابه المشار إليه آنفا بزعم (تجاهل معاناة البشر). ثم نجده في خاتمته الميتافيزيقية يقدم تصورا لاهوتيا ساذجا يلخصه في اعتبار أن العالم خلق ليس فقط بدافع الحب والفرحة, ولكن كذلك بدافع الرعب واليأس.

هذا هو الحل الذي أراه للغز الوجود, وكان عليّ طرحه على البشرية..).

أود الآن عرض بعض الأفكار المهمة التي قدمها بعض المفكرين العلميين في السنوات الأخيرة وهي تختلف مع آراء هورغن اختلافا جذريا.

في المقام الأول تجدر الإشارة إلى كتاب مهم نشره العالم الفيزيائي جون كاستي John Casti سنة 1989 بعنوان (قناعات مفقودة) (Paradigms Lost) حاول فيه التطرق إلى أهم القضايا العالقة في العلم الحديث. وبعد فصل أولي طويل خاض فيه في المنهجية العلمية والقناعات المكتسبة ومدى أهمية الجانبين النظري والتجريبي, خص فصلا كاملا لكل من القضايا الست الرئيسية في نظره, والتي تمثلت في المواضيع التالية:

1ـ هل ظهرت الحياة على الأرض أم أتت من الفضاء?, وهل الحياة نتيجة عمليات فيزيائية وكيميائية طبيعية?

2 ـ هل يمكن القول إن السلوك البشري محكوم أساسا بالتركيبات الجينية?

3 ـ هل يمكن الجزم بأن قدرة البشر على الكلام هي نتيجة خاصيات دماغية وراثية استثنائية?

4 ـ هل تستطيع الحواسب (الرقمية) التفكير (مبدئيا)?

5ـ هل هناك أجناس ذكية أخرى في مجرتنا يمكن الاتصال بها, أم هل نحن وحيدون?

6ـ هل هناك (حقيقة موضوعية) في الطبيعة مستقلة عن المشاهد (المشكلة الجوهرية في النظرية الكوانتية..).

وفي المقام الثاني أود إلقاء بعض الأضواء على كتاب واينبرج المشار إليه آنفا (أحلام النظرية النهائية). يختلف طرح واينبرج في أنه رغم اعتقاده بأن الفيزياء أوشكت على إنجاز أكبر انتصار لها متمثلا في وضع نظرية نهائية توحد كل التفاعلات والقوى المعروفة في الكون, بحيث تكون أساسا لتفسير كل الظواهر الطبيعية على شتى المستويات, الفيزيائي والكيميائي والبيولوجي والإنساني, مما يفسر تلقيبها بـ (نظرية كل شيء) (Theory of Everything = TOE). إلا أن واينبرج يلح على أنه لا يعتبر مثل هذا الإنجاز ـ إذا ما تم ـ نهاية للعلم! ففي رأيه, ربما يكتمل إطار العلم ولكننا سنظل نتعمق في الفهم وستبرز لنا ظواهر وألغاز جديدة باستمرار تستدعي البحث والتفسير.

لكن معظم العلماء يشككون في إمكان الوصول إلى مثل هذه النظرية النهائية, سواء شكلت نهاية للعلم أم لا!.

هل من نظرية نهائية ?

يعتقد جون ويلر أننا لن نجد في آخر الطريق أية نظرية أو قانون نهائي موحد, ذلك لأن قوانين الفيزياء ـ في نظره ـ ليست إلا تعبيرا عن فهمنا للطبيعة وكيفية تفسيرنا للمشاهدات والتجارب التي نقوم بها.

وكذلك نجد رأيا مهما للفيزيائي الدنماركي الكبير نيلس بور, أبو الذرة الحديثة وأكبر مناصري النظرية الكوانتية, فقد ذكر ابنه (الذي فاز مثل أبيه بجائزة نوبل للفيزياء!) لجون ويلر (تلميذ بور) أن أباه كان لا يعتقد أن السعي وراء نظرية نهائية للفيزياء أو العلم سوف يحقق يوما ما نجاحا معتبرا, لأن الفيزيائيين, في تصوره, سوف يواجهون, مع كل اكتشاف جديد وتعمق في فهم الطبيعة, أسئلة متزايدة التعقيد والصعوبة تؤدي بهم في نهاية المطاف إلى (الغرق).

وفي المحيط الفلسفي نجد كارل بوبر, عملاق فلسفة العلوم الحديثة الراحل, يرفض فكرة (النظرية النهائية) كلية لأنه لا يستطيع تصور فكرة أو تفسير لا يحتاج بدوره إلى أدلة أو شروح, أي أن يكتفي بذاته فيكون (نهائيا).

ثم هناك أفكار أخرى معارضة, من بينها تلك (المتنازع فيها أيضا) التي ترى أن نظريات وتفاسير الفيزياء قد لا تصلح إطلاقا بالنسبة للأنظمة المعقدة, خاصة تلك المتعلقة بالحياة والوعي.

وهناك من يرى أن النظرية النهائية (الموحدة والشاملة) ربما تكون بمثابة الجذع الأصلي لفروع (أو قوانين) الفيزياء, ولكن لا يكون باستطاعة البشر تصورها وفهمها لمحدودية عقولهم, تماما كما لا تقدر الحيوانات على تصور أو فهم آلة, ميكانيكية أو بيولوجية, معقدة وبناء نموذج فكري لها.

ويشكك الفيزيائي الفيلسوف بول دايفيس في إمكان الوصول إلى مثل هذه النظرية النهائية, وذلك من منطلق عقلاني, إذ يرى أن ذلك يعني ببساطة أن الكون يكون قابلا للإدراك والفهم عن طريق (العقل المحض) (بمصطلح كانط) أو (الفكرة) (بمصطلح أفلاطون), وهو شيء مناف للمنهجية التجريبية المعتمدة منذ قرون وتعارضه محدودية العقل البشري المعروفة.

وأخيرا نجد المفكر الفيزيائي الأمريكي جون بارو هو أيضا ينفي إمكان الوصول إلى نظرية نهائية شاملة, ويؤسس رأيه على البرهان الرياضي المهم الذي توصل إليه العالم النمساوي كورت جودل والذي مفاده استحالة وجود إطار رياضي يسمح بالفصل في جميع الطروحات ـ ومن ثم استحالة البرهنة على جميع النظريات التي يمكن أن تصاغ حول الطبيعة والكون ـ فكتب بارو: (لن توجد صيغة قادرة على التعبير عن كل الحقيقة وكل التناغم وكل البساطة (الكونية)).

ردود

كما ذكرنا فإن الطبيعة الثانية التي اعتمدناها في قراءتنا هذه احتوت على فصل أخير إضافي حاول المؤلف الرد فيه على أهم الانتقادات التي وجهت له عقب صدور الكتاب. وأهم ما نلاحظه في هذا الرد أن الكاتب لم يتراجع عن أي من اعتقاداته ـ بل صرح أنه ازداد قناعة بطروحاته ـ وأنه يدحض معظم الانتقادات جملة وتفصيلا. ويندهش المرء للجرأة التي تتسم بها كتابات المؤلف, خاصة في مثل هذه الحال, إذ نجده يعلن: (إنني منذ صدور الكتاب ازددت قناعة بأنني على صواب وكل الآخرين تقريبا على خطأ..).

ويجد هورغن في قصة (الحياة على المريخ) التي ظهرت في الفترة ما بين صدور الكتاب وكتابته رده في هذه الطبعة الثانية, مادة للاستدلال على صحة رأيه بأن العلم والمجتمع صارا يعانيان من أزمة وتوتر ويأس إزاء اختفاء الاكتشافات الكبرى, مما يجعل الجميع يكبر ويهلل لبوادر اكتشاف يرجح أنه لن يثبت عند الفحص والتدقيق.

ثم نجد المؤلف يستنفر بشدة وغضب إزاء النقاد الذين اتهموه بالعمل (ضد العلم), أو على الأقل تقديم السلاح والعتاد لجمهور الرافضين للعلم والناقمين عليه, فيقرر إعادة التصريح الذي كان قد كتبه في المقدمة: (أنا كاتب صحفي, اخترت التخصص في المجال العلمي لأني اعتبر العلم, خاصة العلم الأساسي, أكبر معجزات الجنس البشري والنظريات العنصرية للذكاء, أعتقد أن العلم عموما قد أعلى من قيمة حياتنا بشكل منقطع النظير, سواء من الناحية المادية أو الناحية المعنوية).

وكذلك يرفض هورغن فكرة أحد النقاد أن مثل هذا الكتاب سيؤدي إلى مزيد من التقليص في ميزانيات البحث العلمي, ويستدل في ذلك بالملاحظة أن طروحاته لم تحظ بالقبول والتأييد لدى أعضاء الحكومة ونواب الكونجرس (أهل الحل والعقد), ويضيف أنه لا ينادي بأي تقليص لميزانيات العلم, خاصة أن ميزانيات العسكر لاتزال ضخمة بشكل فاحش.

أما النقد الوحيد الذي يوليه كاتبنا اهتماما ويأخذه مأخذ الجد إلى حد ما, فهو السؤال الذي وجهه له أحدهم: ماذا تقول لأبنائك إذا ما استنصحوك حول التوجه إلى ميدان العلم والاحتراف فيه باقي حياتهم? هنا يتزعزع يقين هورغن شيئا ما ويقرر أنه لا تزال في العلوم مواضيع كثيرة تستحق البحث, ونتوقع أن نتوصل إلى حلها قريبا (مثل علاج الإيدز والملاريا واختراع مصادر طاقوية قليلة التلوث وغير ذلك), ولكنه سيقول لأبنائه إن حظوظهم في الوصول إلى اكتشافات تضاهي أو تفوق النسبية العامة أو الانفجار العظيم أو الانتقاء الطبيعي ضئيلة جدا في نظره, ولكن ذلك يجب ألا أن يمنعهم من السعي.

مجرد قلق

خلاصة القول أن أفكار هورغن لا تجد تأييدا لا في ميدان الأبحاث والاكتشافات المتواصلة ولا عند العلماء. أقصى ما يمكن أن نتفق حوله مع المؤلف أن العلم والعلماء يمرون بفترة قلق: فالعلم ـ رغم كل النتائج العظيمة التي أفرزها خلال نصف القرن الأخير ـ لم ينتج نظرية جوهرية تماثل النسبية أو الكوانتية أو التطور منذ سبعين عاما على الأقل. وربما كانت هذه الملاحظة هي أساس أطروحة هورغن. والعلماء من جهتهم يعيشون قلقا سببه تقلص اهتمام المجتمعات بالعلوم, ويتجلى ذلك في ضعف الرواتب التي يتقاضاها صناع العلم, وميزانيات البحث التي ما فتئت تتضاءل عاما بعد عام, واختفاء الإجلال والتقدير الذي كانوا يحظون به لدى العامة, وأخيرا الهجومات المتتالية التي ظهرت في العقود الأخيرة من طرف فئات وتيارات عدة.

كما نتفق عموما ـ لكن بشيء من التحفظ والحذر ـ مع هورغن في قوله إن تصورنا الحالي عن الكون, المبني على الانفجار العظيم والنسبية والكوانتية والتطور, صحيح إلى حد أنه سيظل قائما آلاف السنين بعد الآن.. رغم أنه إذا سئل (لماذا?) نجده لا يقدم حجة دامغة تفرض رأيه هذا, سوى الإجابة بـ (لأن ذلك هو الحقيقة).

ما نختلف فيه مع هورغن اختلافا جذريا هو أطروحته القائلة ببساطة أن المواضيع الكبرى التي كانت مطروحة أمام العلم قد حلت, وأن ما لم يحل بعد لن يحل أبدا.

وعندما يعلن المؤلف أن كل ما تبقى أمام العلماء هو بعض الجزيئات والتفاصيل, نذكره بقصة ماكس بلانك عندما دخل الجامعة في أواخر القرن الماضي, وقال لمرشده إنه يتردد بين التخصص في الفيزياء والتوجه إلى الموسيقى, فنصحه المرشد بالتوجه إلى الموسيقى لأن (الفيزياء على وشك الانتهاء ولم يبق فيها إلا بعض التفاصيل..) ونعلم كلنا أن بلانك أطلق النظرية الكوانتية وتبعه آينشتاين بالنسبية.

وربما تتكرر القصة مع نهاية هذا القرن ومطلع القرن المقبل.

 

نضال قسوم

 
  




غلاف الكتاب