إلى أن نلتقي

إلى أن نلتقي

دون حساسية

منذ عدة شهور كتبت في هذه الزاوية مقالا ضاحكا حول الشقراوات وما يقال عنهن من نكات. ولم يعترض أحد. ربما لقلة عدد الشقراوات في عالمنا العربي. وقد شجعني هذا لكي أواصل المزاح مع فئة أخرى أكن لها الاحترام هي فئة المحامين. وقد قامت الدنيا ولم تقعد منذ ذلك الحين. ومازالت خطابات الاحتجاج الصاخب من السادة المحامين تتواصل على المجلة, وهي تشرح لنا البدهيات حول نبل مهنة المحامين ودفاعها عن الحق والعدل, وهي أمور نعرفها جيداً وإن كنا نشك في أن بعض المحامين يلتزمون بها وهؤلاء هم الفئة الذين دار حولهم مزاحنا..

والأمر يذكرني بما كان يحدث في الأفلام العربية قديما. فما إن يظهر على الشاشة طبيب منحرف حتى تهيج نقابة الأطباء, أو محام فاسد فتثور نقابة المحامين. بل بلغ الأمر أنه عندما صور شرطي مسكين وهو يتقاضى رشوة ضئيلة هاجت وزارة الداخلية وقررت وقف الفيلم.

ولا أدري من أين جاءت هذه الحساسية المفرطة. ربما لأننا أصبحنا نأخذ النكتة كدليل اتهام. وربما لأن بيوت الجميع من زجاج واهن. وأي هبة من الريح تصيبه بالشروخ. وأقول لأصدقائنا من المحامين لا داعي لتذكيرنا بالبدهيات. فنحن نمزح ولن نتوقف عن المزاح.

طالت هذه المقدمة قليلا ولم تترك لنا فرصة للمزاح مع أصدقائنا الاقتصاديين كما كنا ننوي. فكما يقال إن هناك صنفين منهم, هؤلاء الذين لا يعلمون. وهؤلاء الذين لا يعلمون أنهم لا يعلمون.

فقد أرهقونا طويلا في الآونة الأخيرة, ففي تلك العقود القصيرة التي عشناها غيروا رأيهم أكثر من مرة من النقيض إلى النقيض, من التخطيط الشامل إلى الاقتصاد الحر. ومن مزايا ملكية الدولة إلى حتمية تدخل الأفراد. ومن القطاع العام إلى القطاع الخاص. وفي كل مرة يسوقون عشرات الحجج أنهم على حق. وتقول إحدى النكات الشهيرة إن الرئيس كلينتون قال لابنته شيلسي (كم حاصل جمع اثنين زائد اثنين). وقالت شيلسي على الفور (أربعة) ويبدو أن هذه الإجابة لم تقنع كلينتون فاستدعى أحد علماء الرياضيات الذي أخرج ورقة وقلما وأخذ يحسب ويعيد الحساب لمدة ساعة ثم قال: (أربعة). واستدعى الرئيس أحد كبار الاقتصاديين وسأله فقال له بهدوء (كم تريد أن تكون النتيجة يا سيدي الرئيس?).

ويقال إن كل الدراسات الاقتصادية تؤكد دائما أن أفضل وقت لشراء أي شيء هو العام الماضي. والاقتصادي هو الخبير الذي يعرف غدا أن الأشياء التي تنبأ بها بالأمس لم تحدث اليوم. وإذا كذب الاقتصاديون من البداية إلى النهاية فربما توصلوا إلى نتيجة. وكل الرجال العمليين هم ضحايا لاقتصاديين ميتين. وإذا وضعت اثنين من الاقتصاديين في غرفة واحدة فسوف تحصل على رأيين. أما إذا كان أحدهما هو اللورد (كينز) الشهير فسوف تحصل على ثلاثة آراء. والاقتصادي هو الشخص الذي يرى شيئا يتم إنجازه على المستوى العملي ويتساءل إن كان يمكن إنجازه على المستوى النظري.

واسأل أي اقتصادي شيئا فسوف يجيبك بسؤال. وأختتم كلماتي بنكتة قديمة جاءت من آخر استعراض عسكري أقامه الاتحاد السوفييتي السابق عندما وقف جورباتشوف يستعرض مرور الدبابات ثم الصواريخ والطائرات ثم فوجئ بعشرة من الرجال يلبسون السواد ويسيرون خلف الاستعراض وهتف جورباتشوف في دهشة (من هؤلاء? .. هل هم جواسيس?) ولكن مندوب الكي بي جي همس له.. (إنهم اقتصاديون. تخيل لو أطلقناهم فوق أمريكا..).

وإلى أن نلتقي دون غضب.. ودون حساسية.

 

أنور الياسين