جمال العربية

جمال العربية

سطور مضيئة من تراثنا العربي

شغل علماء العربية وأدباؤها من قديم ببيان مواصفات الإبداع الجميل، شعرا ونثرا. فعكفوا على استخلاص علاماته وأماراته، ووضع قواعده وأسسه، والنصح بما ينبغي للكاتب والأديب والشاعر أن يأخذوا به حتى يتحقق لكل منهم ما يصبو إليه من منزلة عالية ومكانة رفيعة في روعة التعبير والتصوير.

من بين هؤلاء أبواليسر إبراهيم بن محمدالمدبر صاحب الرسالة العذراء في موازين البلاغة وأدوات الكتابة، والتي يعرض فيها لكل ما ينبغي للكاتب من ثقافة ومعرفة، ومن أدوات وعدة، ومن خبرة وتمرس، ناصحا وموجها ومعلما، فيقول:

"ارتصد لكتابك فراغ قلبك، وساعة نشاطك، فتجد ما يمتنع عليك بالكد والتكلف، لأن سماحة النفس بمكنونها، وجود الأذهان بمخزونها، إنما هو مع الشهوة المفرطة في الشر، والمحبة الغالبة فيه، أو الغضب الباعث منه ذلك. وقيل لبعضهم: لم لا تقول الشعر؟ قال: كيف أقوله وأنا لا أغضب ولا أطرب!.

وهذا كله إن جريت من البلاغة على عرق، وظهرت منها على حظ. فأما إن كانت غير مناسبة لطبعك، ولا واقعة شهوتك عليها، فلا تنض مطيتك في التماسها، ولا تتعب بدنك في ابتغائها، واصرف عنانك عنها، ولا تطمع فيها باستعارتك ألفاظ الناس وكلامهم، فإن ذلك غير مثمر لك، ولا مُجد عليك. ومن كان مرجعه فيها إلى اغتصاب ألفاظ من تقدم، والاستضاءة بكوكب من سبقه، وسحب ذيل حُلة غيره، ولم يكن معه أداة تولد له من بنات قلبه، ونتائج ذهنه، الكلام الحر، والمعنى الجزل، فلم يكن من الصناعة في عير ولا نفير.

على أن كلام العظماء المطبوعين، ودرس رسائل المتقدمين، على كل حال، مما يفتق اللسان، ويوسع المنطق، ويشحذ الطبع، ويستثير كوامنه، إن كانت فيه سجية.

ويقول سهل بن وهب: الكتابة نفس واحدة تجزأت في أبدان مفترقة، ومن لم يعرف فضلها، وجهل أهلها، وتعدى بهم مرتبتهم التي وضعهم الله بها، فإنه ليس مع الإنسانية في شيء.

قال الشاعر:

وتنكر ود المرء في لحظ عينه

وتعرف عقل المرء حين تكاتبه

ويقول آخر:

وشعر الفتى يبدى غريزة طبعه

وبالكتب يبدو عقله وبلاغته

ويقول العتبي: عقول الناس مدونة في كتبهم

ويقول ابن المقفع: كلام الرجل وافد عقله

الشعر ديوان العرب:

يمتلئ تراثنا الشعري بالمواقف التي ارتفع فيها الإبداع الشعري إلى ذروة المواجهة مع تحديات المصير الإنساني، وروعة الصمود أمام البغي والظلم والطغيان، عندئذ لم يكن الإبداع الشعري مجرد كلام جميل، أو تعبير مجنح أو موسيقى مرفرفة، وإنما كان ـ في المقام الأول ـ شعر حياة، وشعر مواقف، وشعر مثلٍ عليا.

من بين هذه المواقف الشعرية الرائعة قصيدة قالها الشاعر والفارس سعد بن ناشب عندما هدم الحجاج ـ في ذروة جبروته وطغيانه ـ بيت الشاعر في البصرة وأحرقه. والقصيدة تمتلئ بالنفس الشعري الأصيل والتعبير المشرق المقتدر، فضلا عن مطابقة معانيها ودلالاتها الغنية لواقع الحال في أرضنا الفلسطينية المحتلة، وتصميم الصامدين على غسل العار والهوان.

يقول سعد بن ناشب ـ الذي عاش في عصر الدولة الأموية زمن ولاية الحجاج على العراق:

 

سأغسل عني العار بالسيف جالبا

على قضاء الله ما كان جالبا

وأذهل عن داري، وأجعل هدمها

لعرضي من باقي المذمة حاجبا

ويصغر في عيني تلادي اذا انثنت

يميني بإدراك الذي كنت طالبا

فإن تهدموا بالغدر داري، فإنها

تراث كريم لا يبالي العواقبا

أخي غمرات لا يريد ـ على الذي

يهم به من مفظع الأمر ـ صاحبا

إذا هم لم تُردع عزيمة همه

ولم يأت ما يأتي من أمر هائبا

فيا لرزام رشحوا بي مقدما

إلى الموت، خواضا إليه الكتائبا

إذا هم ألقى بين عينيه عزمه

ونكب عن ذكر العواقب جانبا

ولم يستشر في رأيه غير سيفه

ولم يرض إلا مقبض السيف صاحبا

بين الفصحى والعامية:

يطلق الناس كلمة "شيّال" على من يحمل الحقائب أو كل ما يراد حمله ـ نظير أجر ـ ويقولون بطّال في وصف الرجل السيىء الخلق أو المتعطل الذي لا عمل له.

وأدباؤنا حين يريدون التعبير عن الشيّال يقولون: الحمّال، وحين يعبرون عن "البطّال" يقولون: متعطل أو سيىء السلوك، في حين أن كلمة شيّال كلمة فصيحة صحيحة، فهي مأخوذة من شال الشيء أي رفعه وشال الطائر بذنبه أي رفعه إلى أعلى.

أما كلمة "بطّال" فهي من البطالة أي اللهو والعبث.

وهذه كلمة للفيلسوف ابن رشد يسجل فيها استعمال كلمة بطّال. يقول في كتاب الخطابة: فإن كان إنساناً بطّالا أو عاطلا أشار بتنحيته عن البلد.

فليس هناك إذن ما يحول بين كتابنا وأدبائنا واستعمال كلمتي: شيّال وبطّال.

كما تمتلئ العاميات واللهجات العربية بكلمات وتراكيب أصلها فصيح، ولكن الاستعمال العامي أحدث فيها بعض التغيير بالحذف أو الإضافة أو التحول إلى صيغة أخرى مقاربة.

من بين هذه التراكيب:

إيش بدك، وأصلها: أي شيء بودك

عَمْلوّل وأصلها: العام الأول

أيوه وأصلها: أي والله

منين وأصلها: من أين

ما بديش وأصلها: ما بودي شيء

بلاش وأصلها: بلا شيء

منو وأصلها: من هو؟

جابه وأصلها: جاء به

عقبالكم وأصلها: العقبى لكم

هلق وأصلها: هذا الوقت

ولاك "في مجال التهديد" وأصلها: ويل لك

شلونك وأصلها: أي شيء لونك؟

كيفك وأصلها: كيف أنت؟

إزيّك وأصلها: كيف حال زيك؟

والتعابير الثلاثة الأخيرة بمعنى واحد هو كيف حالك؟.

العربية ـ لغة عصرية

جمال العربية وبلاغتها وفصاحتها، وروعة تأثيرها في العقل والوجدان، ليست أمورا مقصورة على الماضي، نتأملها عندما نطالع صفحات تراثنا العربي.

لكنه جمال حي متجدد، يأخذ في كل عصر وزمان صورة جديدة، وتكتسي ملامحه قسمة جديدة، ويصبح للبلاغة العصرية من فعل الجمال وتأثيره في النفس، أضعاف ما كان للأئمة القدماء في نماذجهم العالية وإبداعهم المتألق: شعرا ونثراً.

هذا الجمال العصري، نطالع إحدى صوره في سطور للعالم الأديب الدكتور أحمد زكي ـ أول رئيس تحرير لمجلة العربي ـ نذكره كلما ذكرنا الأسس التي قامت عليها هذه المجلة، والقيم التي تبنتها، والأهداف التي ارتبطت بها، وتطورت معها، عبر عمرها المديد.

ولغة الدكتور أحمد زكي ـ في هذا الدعاء العصري ـ لغة عذبة صافية، كأنها أقباس من الشعر المنثور، عامرة بفكر العالم، وروحانية المؤمن، جامعة بين خبرة المفكر المتأمل وفطرة الأديب المرهف.

يقول الدكتور أحمد زكي:

أي ربي

أين أنت، وكيف تكون؟

خلقتنا وتواريت عنا، اختفيت عن أبصار لنا وعن أسماع، وقلت انظروني بالبصيرة إن عز البصر، وانظروني بالفكر عن طريق العقل، ولكنك أعطيتنا عقلا يتلاشى كلما تعمق فيما ينظر فيه، كالشمس تلقي أشعتها في البحر، فلا تنير منه إلا ظهرا، وتبقى على ظلماتها البطون.

فما ضر لو أن العقل كان أطول، ولو أنه كان أنفذ وأبصر.

وننظر إلى ما خلقت، فنحس حركة وراء ثوب الطبيعة، هذه التي خلقت، والحركة إن دلت فهي تدل على موجود، ولكن ماكنهه؟! ما هويته؟!.

ما بدؤه؟! ما انتهاؤه؟! لسنا ندري ولا هو يريد أننا ندري.. وما كان أيسر عليه لو أنه أراد.

وجعلت الجنة لمن يراك على قصر بصر وقصر وبصيرة، وجعلت النار. وقلت ـ تعاليت ـ إن الله غفار وهو يغفر الذنوب جميعا.

ثم يقول الدكتور أحمد زكي:

أي ربي..

خلقت النار وخلقت النور

وخلقت النور باردا وخلقت النار حارة.. والأصل فيها واحد.

ومن النور والنار خلقت الكهرباء، ومن الكهرباء خلقت نارا، وخلقت نورا، أصول في الكون اختلفت مظاهرها، واختلفت مخابرها، والأصل واحد. وهو أصل من أصولك الأولى يارب الأرض والسماء.

أي ربي

إن القوة لك، والنصر منك والهدى. فاهدنا يارب من لدنك رشدا.

جديد أقرته المجامع:

من أطرف المناقشات التي دارت بين أعضاء مجمع اللغة العربية في القاهرة، ما يتصل بصحة كلمة "كفء" في تعبير من يقول: فلان كفؤٌ لكذا. وكان الرأي السائد بينهم طيلة سنوات. أن الكلمة لا تستعمل في لغتنا العربية بهذا المعنى أي معنى الكفاية حتى عرض عليهم الشاعر الراحل علي الجارم نصا من القرن الخامس الهجري يدل على أن هذه الكلمة تستعمل صحيحة في معنى الكفاية.

وهذا هو النص:

قال ابن الحريري ـ صاحب المقامات ـ حينما ولي ظهر الدين محمد بن الحسن الوزارة للمقتدي مهنئا:

هنيئا لك الفخر، فافخر هنيا

كما قد رزقت مكانا عليا

وبت كآبائك الأكرمين

لدست الوزارة كفؤا رضيا

تحملت أعباءها يافعاً

كما أوتي الحكم يحيى صبيا

وقد ورد هذا النص في كتاب الفخري في الآداب السلطانية، والمقتدى ـ الذي كان المهنأ بهذه الأبيات وزيرا له بويع بالخلافة سنة أربعمائة وسبع من الهجرة.

وقد رأى المجمع أن كلمة كفء صحيحة فصيحة، يقال فلان كفؤ لعمله أي عظيم فيه.

كما ناقش المجمع قول الكتاب: جاء فورا، ودفع الثمن فورا، وجاء فور الحين وفور الساعة. ولاحظ أن التعبير المألوف في العربية هو: جاء من فوره، بمعنى جاء مباشرة أو جاء من ساعته وجاء على الفور: أي لا على التراخي.

وكان رأي المجمع "أنه يصح أن يقال: جاء فورا ودفع الثمن فورا، بنصب كلمة "فورا" على الحالية، والفور: حق السرعة وعدم التراخي.

ونظر المجمع في تعبير "وبالتالي" في مثل قولهم: "فعل كذا وبالتالي يستحق كذا ورأى أنه تعبير دخيل على العربية، وإن لم يكن خاطئا، واختار المجتمع أن يهجر هذا الأسلوب ويستعمل مكانه: فعل كذا ومن ثم أو من ثمة يستحق كذا، أو يستغنى عنه بالفاء فيقال: فعل كذا فهو يستحق كذا..

وهي أمثلة تبين جهود مجامعنا اللغوية في متابعة الأساليب والتعابير الشائعة الآن على الألسنة والأقلام، وبيان مدى صحتها وفصاحتها.

قل.. ولا تقل

من الأخطاء الشائعة على ألسنة الناس وأقلامهم قولهم:

هذا أمر مصان، والصواب: هذا أمر مصون.

ويقولون: فرس مُقاد، والصواب: فرس مقود.

ويقولون: ذهب مصاغ، والصواب: ذهب مصوغ.

ويقولون: أموال مجباة، والصواب: أموال مجبية، ومجبوة.

ويقولون: أمر مهول، والصواب: أمر هائل.

ويقولون: حديث مستفاض، والصواب: حديث مستفيض.

ويقولون: هب أنك فعلت، والصواب: هبك فعلت.

ويقولون: تفرقت الآراء، والصواب افترقت الآراء.

ويقولون: قدسية القضاء، والصواب: قداسة القضاء.

يقولون: هذا الشيء مُباع ومُقال ومُصاغ، والصواب: مبيع ومقول ومصوغ.

يقولون: المعافاة من الرسوم، والصواب: الإعفاء من الرسوم.

يقولون: قرأت الدعوتين ـ مثنى دعوى، والصواب: قرأت الدعويين.

وهي نماذج من أخطاء كثيرة شائعة.

 

فاروق شوشة