واحة العربي

واحة العربي

أبو قردان

صديقنا الجميل الذي الذي يقود أوركسترا ضوء الغروب

تصورت ـ بناء على أفكار قروية ـ أن طائر أبو قردان هو هذا الأبيض الهادئ الطيب, والذي يرفع عينه ـ يرمق ـ الأشياء والعابرين دون أن يفرط في مراقبة دود الأرض, وهو المرسوم في الكتب المدرسية بصفته صديقاً للفلاح المصري لاشتراكه مع الهدهد وأبو فصادة في تنقية الأرض الزراعية من الديدان والحشرات, ولهذا, السبب أيضا صدر القانون المصري الذي يجرم صيد هذه الطيور, لكن هذه الأفكار القروية لم تلبث أن تطايرت وتشتتت بعد التجول ثلاثة أيام حول بحيرة قارون الشهيرة على أطراف محافظة الفيوم, إذ إن عدداً من الطيور الخائضة يشارك أبو قردان ـ القروي ـ في كثير من الصفات الظاهرة: طول العنق والساقين والجناحين, وتقتات بالأسماك والضفادع والحشرات, منها الأبيض الناصع ـ وهو المنتشر في الحقول ويواجه الفناء والاندثار بسبب استخدام المبيدات الزراعية, ثم الذي في بياضه ميل إلى الرمادي وله اسم شاعري هو (مالك الحزين), وقد عرفت أن منه أنواعاً سوداء, ربما هي تلك التي يطلق عليها غراب الليل, ثم البلشون الشهير في أشعار أهل النوبة, وعلميا فإن جميع هذه الطيور تخضع لفصيلة البلشون, كان واضحاً أن بعض أنواع الطيور المتعددة حول بحيرة قارون جاءت مهاجرة في بدايات المواسم, أو هربت من عمق وادي النيل خشية الفناء, وأن البحيرة تحميها وتصنع لها المأوى, وكان أبو قردان قد تألق في عيون المرافقين بعد اكتشافهم اهتمامي ـ المؤقت ـ به, فداهمتنا رغبة صبيانية في مشاكسته, كانت أضواء غروب الشمس المتسللة من سحب الخريف قد صنعت من أبوقردان ـ طويل الساقين والرقبة ـ تشكيلا موسيقياً يحول دون المعابثة, إنه المايسترو في أوج الاندماج, أو الفيلسوف المستغرق في التأمل, أسراب العصافير الطفولية المتشاكسة حطت حول جماعة أبو قردان في ضجيج مرح لتزيد اللوحة حيوية.

ومع أن الكتب تقول إن نوع الطائر أبيس الذي قدسه المصريون القدماء مختلف عن أبو قردان, فإن المراقب لصورتيهما لايستطيع الاطمئنان لذلك, فكلاهما يخضع للقب (أبو منجل) المنتشر في القرى, حتى لو كان أبومنجل أو ـ أبيس ـ يحمي الدولة من غزو الحيات المجنحة في العقائد المصرية المندثرة, إلا أن أبو قردان سيظل رمزاً للهدوء والسلام (أكثر من الحمامة التي تستخدم رمزا للسلام الآن), كما أنه ذكي, إذ نادراً ما نجح أحد في صيده, وعندما يطمئن إلى الفلاح المنهمك في ري زراعاته, فإن أبو قردان يقترب أكثر, وتظل البقع البيضاء التي يمثلها موزعة على المساحات الخضراء, مشهدا شديد الجاذبية, فإذا أحست بخطر ارتفعت في الهواء حتى لايتعرض لها شيء, وتظل تعلو حتى تكاد تختفي, يقود سربها المتداخل في تموجات: واحد فقط من أبو قردان, وهو الذي يأذن لها بأن تحط, وفي المساء ـ أي قبل أن يحل الظلام ـ تظل أسرابه تتماوج في الآفاق في استعراض ممتع, بعدها تتسلل إلى أعشاشها, والتي تنتشر ـ عادة ـ في أعالي أشجار الكافور, ولعل ذلك ما دفع أهل المدن إلى الغضب حينما صعب عليهم المرور حول حديقة حيوانات الجيزة ولاسيما في الصباح المبكر أو أوائل الليل, كانت إفرازات هذه الطيور الهاجعة فوق الأشجار المحيطة بالحديقة: تلوث ملابس الجماعات المتجهة لعملها أو عائدة منه, وقد قامت الإدارة بإزالة عدد من تلك الأشجار قبل أن تثور جماعة حماة البيئة, وكان ذلك يهدد جماعة أبو قردان على وجه التحديد, لاحظ أن سقوط هذه الإفرازات فوق ملابسنا نحن القرويين تعني أن نتوقع كساءً قريباً.

فأبو قردان ـ صديق الفلاح المصري ـ يعتبر رمزاً للتفاؤل في الصباح, ورماد ريشه يوضع في تميمة يحملها تحت الإبط من يكون مصاباً بالصرع أو بالهياج الذي يعرضه للخطر, وكانت عظام أبوقردان تسحق لتصبح بهاراً ـ أو ملحاً ـ يرش على مأكولات فاقدي التوازن ـ أي هؤلاء الذين يصعب عليهم الوقوف دون اهتزاز, ولعل لقبه هذا ـ أبوقردان ـ يرجع إلى اتزانه وعقلانيته التي تفوق ذكاء القرد (وللمثنى المبالغة الخاصة), كما أن الريشات الواقفات في ظهر بعض أنواعه, تستخدم في حشو القطن الخاص بالوسائد والمخدات, أملاً في وفاق العرسان, ونجاح جهودهما في الإنجاب.

وأبو قردان يخشى الرمال والضجيج والدخان والضباب, كما أنه يحاذر الروث وأكوام السباخ, ولايقترب من المياه ذات التيار في الترع والجداول, وهو ما يجعله مستكيناً ومستريحاً لمساحات الأرض المروية دون قلق, ليس هو فقط, بل كثيرون منا أيضا, إلا أنه يفوقنا في أمر بالغ الرقة والنعومة والحب, لن تراه أبدا متناحراً أو متشاجراً مع أي فرد آخر من جنسه, أو من أية أجناس أخرى, ثم يصل إلى روعته في الانتظار المبكر لطلوع الشمس, ثم التشكيل المنمق لأسرابه انتظارا لغروبها آخر النهار, حيث ـ بعد ذلك ـ يصعد في تشكيلات متعددة ليتماوج اقتراباً وبعداً في الآفاق المفتوحة.

 

محمد مستجاب