شعاع من التاريخ

شعاع من التاريخ

مولد الزعيم .. والبدايات

كلمة إنصاف لابد منها يجب أن يقولها التاريخ في ذكرى مرور ثمانين عاما على مولد عبد الناصر في 15يناير 1918.

ولايستطيع منصف أن ينكر منجـزات عبدالناصر ومنزلته وتاريخه القومي كقائد عربي لعب أخطر الأدوار في تاريخ مصر والوطن العربي الحديث, وقد تكون هناك بعض السلبيات حدثت خلال فترة حكمه, إلا أنها لاتقاس بشيء مما تحقق من إيجابيات, والإنسان خطاء, وخير الخطائين التوابون.

وإذا كان عبد الناصر صعيديا من بني مر في أعماق الصعيد, وهي قرية متواضعة وسط أملاك أثرياء أسيوط الكبيرة, فقد كان انعكاس الفقر والبؤس الذي يعانيه أبناء القرية وسط كبارالملاك واضحا بعد ذلك بسنوات, عندما كان أول إصلاح قام به عبدالناصر هو قانون توزيع الأراضي الذي يجعل الحد الأقصي لملكية الأرض مائتي فدان, وكان من بين الإقطاعات الأولى التي وجب تقسيمها تلك الأملاك الكبيرة حول أسيوط وبني مر!

وقد بدأت أفكار عبدالناصر الثورية تتبلور وهو بعد تلميذ في الإسكندرية, بعد أن كان قد عانى ضروبا من المهانة هو وأهله في بني مر نفسها, وفي تلك الأيام, حين كان صغيرا بعد, لايكاد يفكر أيما تفكير سياسي, غرس في أعماقه الأساس العاطفي الانفعالي والدافع النفساني الهائل لأن يجعل نفسه وبني قومه فخورين بمصريتهم غير خجلين منها.

وكانت هذه هي الحقيقة, فعبدالناصر كان واحدا من أبناء شعب مصر المطحون, وكان عقله وضميره يعكسان صورة صادقة لحقيقة حياة هذا الشعب.

وكان جمال يعيش في أعماق الصورة نفسها, وكانت الصورة في الحقيقة رهيبة مخزية, فالشعب يجثم على أنفاسه أذناب الاستعمار بكامل سوءاتهم, والمجتمع عامر بالظلم الاجتماعي لايدع فرصة لمصري ليملأ رئتيه بالهواء النقي, الفساد والرشوة والنفاق هي العملة التي تتعامل بها كل الطبقات, والديمقراطية الزائفة هي التي يغطي بها الجميع دكتاتورية الاستعمار والسراي.

العصا الغليظة على الرأس

عاش عبدالناصر وفي أعماقه إحساس بكل الذي يعيش فيه هذا الشعـب, إحساس ربما لم يدر حقيقته تماما إلا بعد أول ضـربة نزلت على رأسه من عصا غليظة تفـجر لها الدم وهو في سنته الثالثة عشرة, وكانت الضـربة إصـابة واحدة من بين إصابات أخرى كثيـرة أصابت زملاءه الذين اشتركوا معه في مظـاهرة الإسكندرية التي خرجت تهتف بسقوط الاستـعمار وأذنابه بعد أن ألغى إسماعيل صدقي رئيـس الوزراء دستور الشعب, وأرسل زبانيته ليخنقوا صيحات الحرية في حلوق المصريين.

كانت المظاهرة تعبر ميدان المنشية, وكان جمال محمولا على أكتاف زملائه وهو يهتف بحياة مصر, عندما أقبل لوريان مملوآن برجال البوليس انهالوا على التلاميذ الصغار بهراواتهم الثقيلة.

وبدأ الطلبة يتفرقون, وفجأة, رفع أحد رجال البوليس هراوته لتنزل على رأس الصغير, ووقع على الأرض وهو يرفع يديه إلى رأسه في محاولة لحمايتها, وفي نفس اللحظة كان اثنان آخران من رجال البوليس يحيطان به ويرفعانه من على الأرض, بينما انهال عليه ثالثهم بالهراوة من جديد لينفجر الدم ساخنا من رأس جمال.

عندما عاد جمال إلى المدرسة كانت الضمادات فوق رأسه وشاح شرف له بين زملائه الذين وقفوا جميعا في حركة إضراب وتظاهر ليرغموا ناظر المدرسة على إلغاء قرار فصله, وكان الجرح خطوة في تربيته السياسية التي تلقاها وهو طفل صغير, ليشرع منذ ذلك اليوم في المشـاركة في الحركات السياسية, وليس له هدف إلا تحرير مصر من النفوذ الأجنبي ونفوذ الحكام من أذناب الأجنبي.

البحث عن المنقذ

الحقيقة, أن النفوذ المزدوج الذي كان يسيطر على أقدار مصر, كان أثقل وأبشع من احتمال وقدرة شعب مصر, ففي أحد الجانبين اعتقد حكام أنهم أصحاب كل شيء راحوا يرتكبون كل الموبقات في حق الشعب, وفي الجانب الآخر مستعمرون استطاعوا أن يستولوا على بعض النفوس العميلة, منحوا أصحابها المال والمنصب والسلطة والنفوذ, وبين هذا وذاك كان على الشعب أن يعيش ويتحمل ويصبر, في انتظار المنقذ الذي يعطي ولا يأخذ, الذي يعرف كيف يلغي المبدأ القديم الذي يقول (كل شيء ولو على حساب الآخرين) ويضع بدلا منه هدفا جديدا يقول (كل شيء للآخرين ولو على حسابي).

وكان هذا المنقذ هو عبد الناصر: وكانت ثورته هي المعجزة التي انتظرها الشعب, وكان عبدالناصر يقول لهذا الشعب: (سأعمل كما تعملون, وسأكد كما تكدون, وسأجاهد كما تجاهدون, في سبيل المصلحة العليا, لا في سبيل المصلحة الذاتية والأغراض الخاصة, سأعمل في سبيلكم ومن أجلكم ومن أجل وطنكم الكبير ومن أجل آمالكم الكبيرة, فلقد قامت الثورة وقمنا من أجل هذا كله لنعبر عن آمالكم أنتم, ولنسير بالوطن وحدة متماسكة متعاونة).كان الطريق الذي سار فيه عبدالناصر كله الجهد الشاق, وكان يسير فيه محتفظا بطبيعته الأصيلة, طبيعة الفدائي الذي يفتدي شعبه ووطنه ولايبحث عن جائزة للفداء.

ولم يكن محالا أن يحقق عبد الناصر أمله, فقد كان يؤمن بأن الله معه لايخيبه أبدا, وكان يقول: لم يحدث ولله الحمد أن خاب لي أمل من الآمال, فقد التزمت في حياتي ألا أطمع في المحال, وأن أسعى إلى هدفي في طريق مستقيم, ولهذا لم يخذلني الله أبدا.

 

سليمان مظهر

 
  




غلاف الكتاب