مغارة بستونيا قدرة الخالق وروعة التكوين فوزية حسين

مغارة بستونيا قدرة الخالق وروعة التكوين

عندما يتأمل الإنسان آيات الخلق، يعجب في أحيان كثيرة لتناقض روعة الأرض مع تصرفات البشر فوقها. وهذه لمحة جمالية، علمية، لجزء من الأرض التي ترتكب فيها الآن أقبح مجازر عصرنا بأيدي غلاة الصرب المدججين بالسلاح ضد المسلمين العُزل في البوسنة.

في زيارة لي لدولة يوغسلافيا السابقة مررت بمناطق سياحية كثيرة معظمها تشدك بسحر طبيعتها التي تميزت بعدم تدخل يد الإنسان في تغييرها بل ظلت كما هي طبيعية وجميلة يُدهش ويفرح ويحس الإنسان فيها بالضعف والعجز أمام عطاء الكريم الأعظم خالق هذا الكون.

وتبعا لمسار الرحلة مررنا على منطقة تقع في الشمال الغربي من يوغسلافيا القديمة وهي تنضم تحت ولاية سلوفينيا وفيها يقع موضوع هذه المقالة. من أشهر المعالم الطبيعية في هذه المنطقة وجود مغارة - أو كهف - تسمى مغارة بستونيا تكونت بطرق طبيعية سنتحدث عنها لاحقا ويصل طول هذه المغارة إلى 20766 متر ويدخل السائح من مدخل المغارة التي تقع على ارتفاع 530 مترا فوق سطح البحر ويسير السائح لمدة ساعة ونصف الساعة ليشاهد فقط 5 كيلومترات من طول المغارة الكلى. في بداية المغارة يوجد قطار يتحرك داخلها لمسافة 140 مترا يمر خلال قناة وممرات بنيت بعد أن أزيلت بعض الهوابط والصواعد الصخرية منها حتى يسهل للسائح المرور والحركة في المغارة.

وقد وضع هذا القطار ليسهل ويسرع في نقل السائحين الذين يزدادون عاما بعد عام لمشاهدة هذه المغارة حيث يصل عدد السائحين إلى عشرة آلاف سائح يوميا خلال أشهر الصيف أي من مايو إلى سبتمبر، ويمثل 83% من تاريخ السائحين في العام الواحد.

تاريخ اكتشاف المغارة

حسب التقسيمات الجيولوجية لحجم المغارات نجد أن مغارة بستونيا تعتبر من المغارات الضخمة في العالم والمكتشفة حتى عام 1980 التي يصل عددها إلى 140 مغارة ويصل أطولها إلى 320 كم وهي مغارة Flint Mammoth في ولاية كنتاكي في الولايات المتحدة الأمريكية.

أمكن التعرف على مغارة بستونيا في بداية القرن الثالث عشر وأصبحت مركزا لجذب السائحين بعد أن اكتشف الكشافLuka CAC القاعات الكبيرة في المغارة بالإضافة إلى وجـود نهر يجري في المغارة نفسها ومنها بدأت كتابة الكتيبات السياحية التي تصف هذه المغارة وكان أولها عام 1821. وقد وجدت آثار في هذه المغارة تدل على أنها استعملت بواسطة الأحياء الحيوانية أو الإنسانية من أيام العصر الجليدي، أي قبل حوالي مليوني سنة. ومن دراسة الآثار الموجودة في هذه المغارة وبزيادة التعرف على ممراتها المتفرعة تبين أن هذه المغارة كانت تستعمل كمأوى لبعض الحيوانات مثل الدببة والأسود والضباع والذئاب والغزلان كما وجدت آثار لرسوم نقشت بيد الإنسان وأكثرها موجودة عند مدخل المغارة. كما وجدت أثار وكتابات بشرية يرجع تاريخها إلى أقدم من ستة قرون، وكلما اكتشفت ممرات أكثر لهذه المغارة تاريخيا اتضحت أهميتها حيث كانت من الأماكن المميزة على مر التاريخ.

بعد أن أصبحت المغارة مركزا يشـد السـائحين لها بدأت الإنارة باستعمال الشموع حتى عام 1830 حيث ثبتت فوانيس زيتية على جدران المغارة واستبدل بها في عام 1884 الإنارة الكهربائية.

وحتى نهاية القرن 19 أصبح طول المغارة المكتشفة حوالي 13 كم وكانت في ذلك الوقت من أكبر المغارات المكتشفة في أوربا.

كيف تتكون الكهوف أو المغارات؟

العامل الأساسي لتكون المغارة هو وجود مياه الأمطار أو الأنهار ووجود صخور قابلة للذوبان في الماء الحمضي الناتج من تفاعله مع ثاني أكسيد الكربون. ومن أمثلة هذه الصخور الحجر الجيري أو الجبس أو الملح الصخري أي أن هناك ثلاثة عناصر تدخل في هذا التفاعل: غاز ثاني أكسيد الكربون، الماء، والحجر الجيري حيث يتم تفاعل المكونات الثلاثة الغازية والسائلة والصلبة. ويتم التفاعل على المراحل التالية:

1- خلال هطول الأمطار يذوب ثاني أكسيد الكربون الموجود في الغلاف الغازي مع الماء.

2 - يتحول ثاني أكسيد الكربون المذاب في الماء إلى حمض الكربونيك.

3 - يتحول حمض الكربونيك إلى أيوناته الموجبة والسالبة.

4 - يلتقي الحجر الجيري مع الماء ثم تتفاعل الأيونات الموجبة والسالبة.

وتكون خلاصة الخطوات السابقة هي تفاعلا ما بين كربونات الكالسيوم وثاني أكسيد الكربون والماء. ويزداد ذوبان ثاني أكسيد الكربون بزيادة درجات الحرارة خاصة ما بين 15 - 25 م. كما أن عامل وجود المواد العضوية متمثلة في النباتات والتربة يزيد من تركيز ثاني أكسيد الكربون الذائب في الماء.

ولتوضيح أهمية العامل الأخير أجريت دراسات وجدت أن تحول الكربون الموجود في التربة إلى ثاني أكسيد الكربون إلى فقدان 1% من وزن هذه الصخور لان كل ذرة كربون تذيب ذرة كربونات الكالسيوم لإنتاج ثاني أكسيد الكربون.

عملية إذابة كربونات الكالسيوم تترك فراغات تكبر مع الزمن مكونة المغارات. أما الأعمدة التي تتكون داخل المغارة فتتكون بطريقة عكسية فتترسب الصخور الجيرية داخل المغارة على شكل صواعد وهوابط وتترسب وتتبلور ذرات كربونات الكالسيوم على أربعة صور أساسية فهي إما أن تتبلور على شكل معدن الكالسيت أو الارجوانيت أو الفاتريت أو على شكل محلول جيلاتيني من كربونات الكالسيوم. وتختلف الصور السابقة من المعادن في التركيب البلوري فقط فكلها ذات تركيب كيميائي واحد إلا أنها يمكن أن تتحول بسرعة من معدن إلى آخر أكثر ثباتا، فأكثرها ثباتا هو الكالسيت يليه الارجوانيت.

أما الأشكال التي نشاهدها في المغارة فهي مختلفة فمنها ما يكون متعلقا من سقف المغارة ويسمى الهوابط أو الستلاجيتيت أو صاعدا من ارض المغارة ويسمى الصواعد أو الستلاجميت.

تتكون الهوابط عندما تنزل قطرات الماء من سقف المغارة مشبعة بكربونات الكالسيوم التي تترسب عند نزول قطرة الماء من السقف. وتستمر عمليات الترسيب من قطرات الماء حتى تنمو عل شكل أعمدة تتميز بأنها جوفاء من الداخل على شكل قناة داخلية. ويختلف شكل وحجم الهوابط باختلاف موقع وسير قطرات الماء المحملة بكربونات الكالسيوم ولهذا فأنها تخلق أشكالا مختلفة كان يتخيلها الناس منظرا مخيفا لداخل المغارة المظلمة في الأزمنة القديمة.

أما الصواعد فتتكون على أرض المغارة على شكل طبقة تعلوها طبقة أخرى تكونت بتساقط قطرات الماء المحملة بالأملاح الذائبة على أرض المغارة. ويختلف شكل الهوابط نتيجة عوامل كثيرة منها ارتفاع سقف المغارة بالنسبة لأرضيتها.

ويمكن أن تلتقي الصواعد والهوابط مكونة عمودا واحدا. ويختلف معدل تكون الصواعد والهوابط باختلاف الظروف فمن الممكن أن تتكون الهوابط بطول 10 سم خلال 100 سنة في مكان ما بينما يتكون هذا الطول خلال 20 سنة في مكان آخر وقد تبين باستعمال النظائر مثل الكربون واليورانيوم أن أقدم هذه الأعمدة يصل عمره إلى أكثر من خمسة وثلاثين ألف سنة وتقع مغارة بستونيا في جبال الالب الدينارية حيث تتميز المنطقة بوجود طبقات من الصخور الجيرية والرملية والرمال التي تأثرت بالحركات الأرضية مما أدى إلى تكون انثناءات وصدوع وتشققات ساعدت على تكوين المغارة. ويرجع تاريخ تكون الصخور الجيرية إلى العصر الايوسيني وتقدر الدراسات بداية تكون المغارة إلى ما قبل حوالي مليوني سنة أي من العصر الرباعي. وللمغارة عدة مداخل منها مدخل الزوار وهو المدخل الجاف أما المداخل الأخرى فتتميز بالرطوبة العالية.

ويصل معدل هطول الأمطار في المغارة إلى 1600 لتر/ م2 يتخلل الشقـوق الصخرية محملا بثاني أكسيد الكربون الذي يذيب كربونات الكالسيوم المادة الصخرية.

وحسب الدراسات تبين أن كل لتر من هذه المياه يحوي تركيزا يتراوح ما بين 170 إلى 220 ملليجراما من ملح الكالسيت. ويتراوح معدل تكون الأعمدة ما بين 2 و. - 2 كجم/ السنة أي بزيادة في الطول بمعدل 0.55 مم/ السنة.

وعندما تم تحليل الهوابط كيميائيا تبين أن 99% من تركيزها من ملح الكالسيت المتبلور. وتختلف ألوان الأعمدة والهوابط والصواعد من اللون الأبيض إلى الأحمر والأسود ويرجع ذلك إلى تركيز المعادن الطينية أو أكاسيد الحديد فيها.

وتظهر الصواعد والهوابط فيها بأشكال مختلفة حتى قال عنها الرومانيون أنها مملكة لقصص الأطفال الخيالية لما لهذه الأعمدة من أشكال يخيل للناظر لها بأنها وحوش أو أناس أو حيوانات أو قلاع أو أزهار. وغير ذلك.

وبمقارنة درجات الحرارة داخل المغارة خلال فصل الشتاء وجد أنها دافئة كلما توغلنا إلى داخل المغارة متغيرة من صفر في الخارج إلى 6 - 8ْ م في الداخل مما يفسر أحد أسباب استخدامها كملجأ للحيوانات والإنسان في الأزمنة السابقة.

الكائنات الحية الموجودة في المغارة

توقع العلماء في البداية أن لا وجود للحياة في هذه المغـارة ولكن بعد الدراسات الكثيرة ولفترة طويلة تم اكتشاف 132 نوعا من فصائل الحيوانات. كان أول الكائنات المكتشفة في عام 1831 لنوع من الخنفساء Leptodirus Hochenwarti تتعايش في هذه الظروف وتبين لاحقا أنها توجد في معظم المغارات المتكونة في سلسلة جبال الالب في أوربا. ثم توالت الاكتشافات لمفصليات أخرى من العناكب والقشريات.

ولكن من أغرب الكائنات التي تعيش في هذه المغارة هو نوع من البرمائيات يسمى Proteus Anguius حيث توجد في البقع والبرك المائية داخل المغارة، وتبين الدراسات أن هذه الحيوانات لجأت إلى المغارة تحت سطح الأرض ومع مرور الزمن فقدت بصرها وذلك لوجـود بقع سوداء في جنين الحيوان تزول وتتغطى مع نموه بطبقة جلدية شفافة تجعلها تحس فقط بوجود الضوء. ويظهر ضوء جلد الحيوان كلون جلد الإنسان الذي لم يتعرض للشمس لفترة طويلة. والغريب في هذا الحيوان أنه يتكاثر بطريقتين إما عن طريق وضع البيض أو الولادة حسب الظروف المحيطة، ولم يتوصل العلماء حتى الآن إلى ماهية هذه الظروف التي تحتم نوع التكاثر وما زالت الاكتشافات كثيرة ليس فقط في هذه المغارة والله اعلم بعدد المغارات الأخرى وما هو تاريخها والكائنات التي تعيش فيها وكلما تعلم الإنسان اكتشف مقدار جهله وضعفه أمام قدرات الجليل الأعظم.

 

فوزية حسين

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




خريطة توضح حدود يوغسلافيا السابقة، موقع المغارة في الشمال الغربي





يختلف لون الصواعد والهوابط لاختلاف انواع الشوائب الداخلة فيها





القطار الناقل للسياح داخل المغارة لسرعة الحركة لاحظ اشكال الصواعد والهوابط فيها





البرمائيات التي تعيش في المغارة لاحظ اختفاء العيون فيها





احد الممرات المهيأة للسياح





رسم توضيحي لمغارة مع تكوين الصواعد والهوابط