الدكتور هاني الراهب وطالب الرفاعي

الدكتور هاني الراهب وطالب الرفاعي

  • الكتابة هي إعادة بناء الواقع وفق قيم الصدق والجمال والمتعة

الفن ليس مجرد استنساخ للواقع وكل فن يتضمن نوعا من التواطؤ مع القارئ

هاني الراهب واحد من مبدعي الفن الروائي العربي، ومنذ صدور روايته الأولى (المهزومون)- 1961 التي تلتها روايات: (شرخ في تاريخ طويل) و(ألف ليلة وليلتان) و(الوباء) و(بلد واحد هو العالم) و (التلال) و (خضراء كالمستنقعات) أصبحت هذه الأعمال علامة على تطور فن الرواية العربية. وإذا كانت الأصالة والابتكار هما ما يطبعان أعمال هاني الراهب فإن ذلك يخفي وراءه نفسا مرهفة وحساسة يضنيها افتقاد الطمأنينة ومحاولاته الأدبية لإعادة ترتيب الوقع وفق قيم الجمال والصدق. وهو يرى أنه برغم التناقض بين الصدق والفن إلا أن الروائي الناجح هو من يبدع لهما و طالب الرفاعي ن يتضمن نوعا من التواطؤ مع القارئ توليفة "هيجيلة" تدمج الضدين المتلائمين في بنية خلاقة. ولكن..وفي كثير من الأحيان حتى لو استطاع الكاتب إبداع تلك التوليفة فهل يستطيع أن يسمح لأبطاله بالتفكير بصوت مسموع ..لو فعل ذلك فلن يقبل الناشر بطباعة كتاب يتصدى بصدق وعمق للمحرمات الثلاثة "الدين، السياسة، الجنس"، لقد تسلطت الأنظمة واقتصاد السوق على الحرية..!.أجرى الحوار طالب الرفاعي وهو قصاص كويتي متميز، صدرت له مجموعتان قصصيتان الأولى هي (أبوحجاج طال عمرك) - 1992، والثانية هي (أغمض روحي عليك) - 1995، عن دار الآداب البيروتية ويعد الآن روايته الطويلة الأولى.

  • كيف تسلل إليك هاجس الكتابة، وكيف تمكن منك، ولم يزل؟.

- أظن أن هذا الهاجس برز في البداية كرغبة نرجسية في معرفة العالم. إنه نوع من المرايا تنصبها أمام الواقع، أمام طفل يبكي، أو امرأة تضطجع، أو أمام مظاهرة جماهيرية. وما تلبث أن تكتشف أن هذه المرايا أفخاخ، إنها تقدم لك وعيا مغايرا لما تقدمه العين المباشرة. وعندها تمتلك رغبة جديدة، هي أن تصرخ معلنا عن معرفتك، تصرخ لأن من الضروري بالنسبة لك، بالنسبة لسلام روحك، أن تتقاسم هذه الرؤية مع الآخرين..الكتابة صرخة. كنت طفلا يتيما على عتبات المراهقة، يتقاسم مسئوليته ثلاثة إخوة.

حاجته إلى الحب تدفعه إلى عشق كل فتاة حلوة يلتقيها. يستنسخ على دفتره ديوان المتنبي، لأنه لا يملك أن يشتريه. يعمل خياطا مع أخيه الخياط، وكواء مع أخيه الكواء. ملعبه السعيد ميناء اللاذقية وحاراتها وشوارعها..في وقت ما من النهار أو الليل يخطر له أن يسجل كل ذلك، أو بعضه، فيفتح دفترا سميك الغلاف، ويخط كلماته الأولى، في ذلك العمر الهلامي، الذي نسميه المراهقة.

مطلق الصدق

  • هل أثرت كتابة المذكرات في نضجك الأدبي، وهل توقفت من كتابتها؟.

- توقفت، نعم. وذلك بُعيد صدور (المهزومون). وربما كان هذا التوقف ثاني أعمق ألم في حياتي. فكتابة المذكرات، هي عيش في مطلق الصدق. إنما نحن نعيش الآن عصرا لا أحد يستطيع فيه أن يكون صادقا على نحو يرضي روحه. عالم حقائقه هي ما يعلنه التلفزيون والجريدة ومجهرات الصوت. فإذا شئت أن أكتب مذكرات الآن، مثلما كتبتها وأنا في الثالثة عشرة، فسيتعين على أن هذا الصدق بوجه ذلك الكذب، وأنفجر. أعتقد أنني عندها سأدان حتى من قبل أطفالي.

أن تعشق كتابة الصدق، لا يعني بالطبع أن تتمكن منها فخلجات النفس عصية الالتقاط، وآفات الحياة البشرية محمية حماية شديدة. من قبل السلطة الأخلاقية، بحيث يتعذر التطرق إليها. لكن أهم ما في الأمر نشوء تلك العادة في وجدانك. عادة إحالة عالم الواقع في عالم التعبير الأدبي. عادة البحث في اللغة عن معادل موضوعي لغوى للواقع. عادة أن تعيد ترتيب الواقع وهيكلته بحيث تحتفظ بالحقيقة، وتضيف إليها الجمال والمتعة اللذين تطلقهما المرايا. والكتابة هي إعادة بناء الواقع وفق قيم الصدق والجمال والمتعة. وهذا ما أشارت إليه لجنة الرواية في دار الآداب، التي منحت المهزومون) جائزتها.. إن الصدق والفن نقيضان، الروائي الناجح عموما، هو من يبدع لهما توليفة هيغلية تدمج الضدين المتلاغيين في بنية خلاقة، بحيث تنبثق الدلالة في الجمال، والجمال في الدلالة.

المهزومون والثقة بالنفس

  • عام 1961 م حازت (المهزومون) أولى رواياتك على أفضل تكريم أدبي عربي في حينه. فما تراها قدمت (المهزومون) لهاني الراهب، وماذا فرضت عليه؟.

- قدمت لي (المهزومون) الثقة والشهرة. قبلها كنت أحسب أنني ربما أتجاوز الأربعين دون أن أتمكن من إقناع جمهور القراء بأنني جدير باهتمامهم. ثم فجأة، هذا الدوي (المهزومون) استغرقت ثلاثين يوما متتاليا فقط. فجأة وإذا أنسي الحاج، مثلا، يقارنها بطه حسين وجان بول سارتر. وكان هذا مخيفا. وقد فرض على الخروج التام من العفوية إلى التدقيق والتمحيص القاتلين في الرواية الثانية. وهو داء لم أبرأ منه حتى الآن.

  • تقتحم (المهزومون) بقوة المحرمات الثلاثة: الجنس والدين والسياسة، وحولها يتحاور أبطال الرواية قبل 34 سنة. كيف ترى رقعة الحرية التي يتحرك عليها الكاتب الآن؟ وهل يجرؤ الروائي الراهب على أن يترك العنان لأبطاله كي يفكروا بصوت عال هذه الأيام؟.

- لن يحدث هذا بتاتا، على الأقل، لن يحدث قبل أن أطمئن في مستقبل أطفالي المعيشي والتعليمي. ولست أرى أن هناك ما يمنحني هذه الطمأنينة..أنا الآن مستريح في موقفي الجبان، الذي ناف عمره على عشر سنوات. ولكن صدقني أن الأمر لم يتوقف عند هذه المساومة المتخاذلة. لقد منعت آخر رواية لي (خضراء كالحقول) من قبل بعض الدول العربية، برغم أن ملامستها لمحرم الجنس تعتبر بسيطة جدا، بالمقارنة مع ما سميته "اقتحاما" (المهزومون) للمحرمات الثلاثة. قبل أربعين عاما كنا لا نزال ننعم بمساحة واسعة من الحرية، وهي مساحة اكتسحتها حركة النهضة العربية التي اندحرت الآن. لقد تسلطت الأنظمة واقتصاد السوق على الحرية. أعني أنه حتى لو سمحت لأبطالي بالتفكير بصوت مسموع، فلن يقبل الناشر بطباعة كتاب يحتمل أن تمنع الرقابات توزيعه. وبالطبع إذا غامر ناشر بطباعة كتاب يتصدى بصدق وعمق لهذه المحرمات الثلاثة، فإن العنف، بمختلف تجسداته، سيمارس ضدي وضده بلا تلكؤ.

  • تشتركون مع شيخ الرواية العربية نجيب محفوظ، وكذلك مع حنا مينه وآخرين، فيكون الحوار لديكم نوعا من العامية المفصحة. لماذا هذا الاختيار؟.

- سؤالك هذا يا أستاذ طالب بحر من المشاكل. أولا، عندما تكتب تكون مدعوا إلى تحديد قارئك: العرب كلهم أو لأبناء القطر الذي تنتمي إليه. وثانيا، يجب الاعتراف بوجود ثقافات محلية ضمن الإطار الشامل للثقافة العربية. وفي رأيي، هي أربع ثقافات محلية، على الأقل، وكلها قابل لأن يتطور ويكون شخصية متكاملة منقطعة الصلة بالثقافة الأم، فإذا اخترت أن تقدم الحوار باللهجة الخليجية مثلا، فكن واثقا في أن قراءك خارج منطقة الخليج سيحتاجون إلى ترجمة له لهجات حوارهم العربية الأخرى. خذ مثلا فؤاد التكرلي والطيب صالح، روائيان متميزان، لكن الحوار الذي قادماه في بعض مؤلفاتهما بالعامية الصرف قطع تواصلي بالكامل مع تلك المؤلفات.

  • الإشكالية المطروحة عليك إذن هي التواصل أم الواقعية؟.

- أنا مع التواصل. فهذه الواقعية، هي واقعية التطابق، وليس الإبداع والمعرفة. وأظن أن نجيب محفوظ، وجبرا إبراهيم جبرا وحنا مينه مع التواصل. وكثيرون غيرهم لا يقلون أهمية، مع التواصل. ولست أعتقد أن هؤلاء قد خسروا على صعيد الفن والجماليات لأنهم اختاروا العامية المفصحة. الفن ليس مجرد استنساخ للواقع. كل فن يتضمن نوعا من التواطؤ مع القارئ، وبموجب هذا التواطؤ يمنح القارئ مصداقية مسبقة للعمل الفني. وهو لن يهمه سواء قال البطل: " ما هذا؟" أم يتلبس حالته ويتفاعل مع أفكاره وتجربته. الفن إعادة صياغة للواقع، وليس نقلا حرفيا له.

  • للقارئ حضور في تجربتك الإبداعية، ألا يلجم هذا الحضور اندفاعة الإبداع؟.

- حضور القارئ في فعل الكتابة حضور حتمي. وحتى عندما رفضته البنيوية مثلا، أو الشكلانية والنقد الجديد، وحتى عندما رفضه شيخ المبدعين: جيمس جويس، ظل القارئ حاضرا، وبالذات عبر غيابه. لحسن الحظ، أخذت التيارات النقدية في العقدين الأخيرين تستعيد القارئ كعنصر تكويني في فعل الكتابة، وتخفف من تطرف البنيوية الرديء في هذا المضمار. إن هناك قيما فنية وجمالية توجد أو تختفي بوجود القارئ في وعي الروائي أو عدمه. عندما أوغل جيمس جويس في إسقاط القارئ إسقاطا تاما من وعيه الإبداعي، أنجز رواية (يقظة فينيغان)، التي، بعد ست وخمسين سنة من ظهورها، لا يزال عدد قرائها القادرين على أي حديث عنها لا يتجاوز أصابع اليدين. هذا الإسقاط رفع من شأن قيم فنية وجمالية معينة، على حساب قيم التواصل الإنساني واستمرار الثقافة في تطوير وإثراء الوعي. والفرضية الخاطئة هنا هي أن أخذ القارئ بالحسبان مضاد للإبداع وللقيم الجمالية. بينما هو يستولد إبداعا مختلفا، وقيما جمالية مغايرة، وليس أنه يقضي عليها في النص، القارئ جزء من إبداع الروائي.

  • هل تدعو إلى مساومة القارئ، أو مراضاته، مثلا، أو تملقه لتظفر بقبوله؟.

- هذا ما تجيبك عنه رواية (ألف ليلة وليلتان)، التي أحدثت يوم ظهرت، صدمة لعادات القراءة الدارجة. هناك فرق بين أن تسقط القارئ تماما من حسابك كروائي، وأن تستفزه وتقلقه، فتدفعه إلى التفاعل مع قيم فنية وجمالية غير التي ألفها واستساغها، وأن تتملقه وتلبى رغباته. هذه مواقف ثلاثة من القارئ، ولكل منها أثره الجوهري في بنية النص وجمالياته.

بنية الرواية

  • البنية الدائرية في رواية (ألف ليلة وليلتان) تتيح للقارئ إمكان البدء بالقراءة في أية صفحة، سواء كانت: 13 أم 170 أم 230 والانتهاء بالصفحة نفسها. وكذلك اختلاط الأزمنة أو ما سماه كمال أبوديب: الزمنين، التزامني والتوالدي. وغياب الحبكة غيابا غير مألوف، كما غياب الشخصية المركزية، عالم لم يسبق له مثيل في الرواية العربية. فكيف جاء هذا النسيج؟!.

- أعتقد أنه جاء من تتبع هدف بسيط وصعب في آن واحد: هو أن تجسد بنية الرواية بنية المجتمع الذي ترصده. المجتمع العربي مجتمع دائري، يعيد إنتاج علاقاته ننمطية لا تصدق. وهو مجتمع مفكك، مترامي الأطراف، يتكلم لغة الحاضر، ويعيش عقل الماضي. لا يزال حيث تركته شهرذاد في (ألف ليلة وليلة)، بل ولعله على أسوأ. هل يخطر لك أن (ألف ليلة وليلة) قد أنشئت في عصر الغزوات الصليبية والمغولية والتترية لوطننا، وأنها بالتالي مستمرة في حرب 1967 التي انهزمنا فيها أمام إسرائيل. أما العملية الفنية نفسها، فلقد جاءت في لحظة انقلات أو انبلاج، في تركيز عقلاني شديد غير واع بذاته ولا بالموضوع الذي يستكشفه، مثل جنين يتكون ولكن بحسب ناموس فني معين وخفي بلا من ناموس الطبيعة. المكونات تنفلت في مكان غامض، وتخترق فضاء الوعي كالنيازك، فألتقطها قبل أن تخمد.

  • في الرواية علاقتان لامرأتين متزجتين، أعطيتا تفسيرا يكاد يكون تبريرا الحب تدينه السلطة الأخلاقية التقليدية. فما موقفكم من مؤسسة الأسرة، خصوصا أن عائلة أم خلف نموذج إيجابي لهذه المؤسسة؟.

- لا تزال مؤسسة الأسرة صامدة يوجه عواصف العصر الحديث. وفي وطننا، الأسرة هي بالدرجة الأولى النوة الاقتصادية الأهم في حياة تفتقر إلى الضمانات الأساسية، في البني المؤسسات السليمة في السياسة والاقتصاد والاجتماع والتربية كالعلم والثقافة، بالتالي نحن نفتقر إلى الأمن بالمعنى الوجودي الأعمق للكلمة. وحده نظام الأسرة، يمنح حسا حقيقيا بالأمن - لا الدولة ولا أرباب العمل، ولا مؤسسات المجتمع. هذه كلها مؤسسات استلابية - ولأجل حيازة هذا الحس بالأمن تقدم أفدح التضحيات، وخاصة من قبل المرأة. فالمرأة يمكن أن تلغى تماما وتستباح، لأجل هذا (الأمن) فإن عائلة أم خلف نموذج للعلاقات الأسرية الصحية، للديمقراطية في مؤسسة الأسرة، ونموذج أيضا لنضج الوعي والحرية الفرديين. ولا تنس أن شخصية الأب غائبة عنها.

  • في (المهزومون) و(شرخ) و(ألف ليلة وليلتان) و(بلد واحد هو العالم) و(الخضرائين) هناك غياب مثير لشخصية الأب. وفي (الوباء) و(التلال) هناك حضور لها لا يقل إثارة. من المؤكد أن تفسير ذلك يتجاوز كونك يتيم الأب منذ العاشرة من عمرك!.

- بل بمعنى ما، منذ الولادة، فأبي كان أخرس. عموما، أنا واحد من المحظوظين الذين نجوا من التسلط البطركي أثناء نشأتهم الأولى. ونحن كما تعلم مجتمع بطركي، وليس عبثا تسمية الأب "رب" الأسرة. فهو "رب، بمعنى الكلمة. شاء، أم أبى، هو مسئول عن جميع التشوهات في شخصيات أولاده، عن الانسدادات العاطفية فيهم، عن قبولهم بالاستلاب وعبودية العقل، في (الوباء) لطمة واحدة من يد "الشيخ عبدالجود" لوجه ابنته " خولة"، جعلتها عاجزة عن الحب ومرعوبة منه طوال حياتها. ولطمة مماثلة من يد ابنها "عبسي" لوجه ابنته "أميمة أرسلتها في دوامة من الضياع والتشتت والعنف والسفاهة. ستقول لي هناك استثناءات، بلا شك، لكن ما يهمنا هو النمط، الظاهرة. من هذه الناحية نحن مجتمع بطركي مريع، ودافعو ضريبته هم البنات بالدرجة الأولى، ثم البنون الذين يعيدون إنتاجه عندما يصيرون آباء. نحن نرث الاستعباد ونورثه، عبر النموذج البطركي للعائلة. ولكن يجب بالطبع أن نقر بفضل الآباء المستنيرين، الذين يصادقون أبناءهم بلا تسلط. إنما هؤلاء قلة.

أنماط الكتابة

  • ذكرت أثناء حديثنا أن الرواية ليست رصدا كميا للواقع. وإنما رصد إرشادي دلالي، وكلما اقترب من الأسطورة اقترب من الواقع. وقد برزت على الساحة الروائية العربية أشكال كتابية كثيرة، منها التسجيلية والتاريخية، والتراثية. فكيف ينظر هاني الراهب لتلك الأعمال مقرونة بكتابها؟.

- سؤال محرج. ولكن ليساعدني الله على قول ما أراه حقيقة. هناك ثلاثة أنماط في الكتابة الروائية العربية الراهنة. أولها ما يمكن تعميمه باسم نجيب محفوظ. وفضيلة هذا النمط هو أنه أسس الرواية العربية. وهذا إنجاز كبير، برغم أنه لم يتجاوز القيم الجمالية والفنية للرواية العادية في القرن التاسع عشر. ويندرج في هذا الإطار: حنا مينه، ومبارك ربيع، وعبدالرحمن منيف، من باب المثال لا الحصر. وفي تقديري إن أرقى ما توصل إليه هذا النمط موجود بقوة عند أستاذنا جبرا إبراهيم جبرا، وإلى حد كبير عند فؤاد التكرلي، والطيب صالح، وتوفيق يوسف عواد، وعند إسماعيل فهد إسماعيل (مع أنه يتماس مع الحداثة بقوة) وعبدالرحمن الربيعي، ونبيل سليمان...وأسوأ حالاته هي الرصد الكمي للواقع، بمعنى التناول المنهك المضجر الفظيع للتفاصيل والجزئيات والحوار المستفيض، على طريقة القرن التاسع عشر التقليدية. كل عشر صفحات منها يمكن اختصارها بصفحة. وهي غالبا ما تستمد قيمتها من موضوعها وليس من فنيتها.

النمط الثاني: هو ما أسميه الرواية التكنولوجية. وهي مزيج من مدرستين أراها خائبتين ومضادتين للإبداع: هما البنيوية والتسجيلية - وأقصد في المجال الروائي. وتمثل (لعبة النسيان) للأديب الكبير محمد برادة قمة هذا التقدد والفذلكة. لقد أحلت جسد التجربة الإنسانية إلى مومياء. وصارت الشخصيات كراكوزات وعيواظات تحركها أنامل ذكية وماهرة، ولكن باردة ومعدنية وآلية. وكانت قد صدرت من قبل (الزيني بركات) للروائي جمال الغيطاني، فبهرت متتبعي الموضة بوثائقيتها وتكنولوجيتها وحرفنتها، وغطى هذا البهر على إملاقها الفني والجمالي. إن لعبة الإسقاط التاريخي تظل لعبة. قد تكون مسلية، وربما تضمنت بعض المتعة الفكرية، لكن المادة الإنسانية فيها ظلت مقددة، والمادة الفنية ظلت مجرد تكنولوجيا تسجيلية. قارنها بتسجيليات وليم فوكنر عن منطقة مماثلة في "تاريخيتها" وستعرف الفرق. (بيروت.. بيروت) و(ذات) هما أيضا من هذا النمط. وطبعا قد يمكن تحويل هذه الحرفنة إلى فن مشرق، كما فعل الروائي مؤنس الرزاز..نسيت عنوان روايته! قاتل الله الشيخوخة. أما النمط الثالث فهر النمط المبدع، ببساطة. (رامة والتنين) لأدوار الخراط رواية عظيمة، ولو أن فيها ما يكفي من الحدث لكانت رواية كاملة. (البحث عن وليد مسعود) لجبرا، (اللاز) للطاهر وطار، (نجمة أغسطس) و(تلك الرائحة) مثلا، حيث استطاع صنع الله إبراهيم تحويل الكم إلى نوع وإلى إبداع. وكذلك (رحلة غاندي الصغير) لإلياس خوري برغم تسطحها العام وثرثريتها، هي أيضا رواية مبدعة. وكذلك قصته (الجبل الصغير) وقصة حيدر حيدر (الوعول) والكثير من (وليمة لأعشاب البحر) وشرائح عديدة من غادة السمان و(سمك الغزال) لحنان الشيخ و(وسمية) لليلى العثمان.. وهناك أسماء شابة، وخاصة في مصر، بدأت تزيح هذا الركام وتبدع رواية متكاملة وما علينا سوى الانتظار قليلا. لكن الخوف على الفن الروائي يكمن في تلاميح انهيار لغوي بحجة الواقعية، وخاصة في مصر. وأفضل ما وصلت إليه هذه الأسماء - بحسب ما قرأت - هو رواية (فسحة مستهدفة بين النعاس والنوم) لرشيد الضعيف. إنها رواية جميلة، وتبشر بانطلاقة الرواية العربية نحو الفانتازيا، الأخيولة، ذات الإمكانات الهائلة في التعبير الروائي، التي ستطيح أخيرا بأغلال المذهب الواقعي.

العجز عن الحب

  • "الحب وهم نصدقه حينا ثم نفيق منه، "الحب طعم الحياة الأبقى" يكاد لا يخلو عمل لكم من قصة حب جارفة، فكيف ينظر الراهب للحب، وكيف يعيشه؟.

- هل يمكن أن نؤجل الجواب إلى حين صدور رواية (أيام الوشم والمطر)؟.

  • لماذا التأجيل، وبوسعك الجواب الآن؟.

- قد يخرج مزيد من الدبابير. عموما، نحن أمة لا تعرف الحب - الحب بين الرجل والمرأة تحديدا - واقعيا الرجال عاجزون عن الحب، لأنهم ورثوا منذ قرون نفسية جماعية تنظر في المرأة باعتبارها شكلا وحسب، جسدا شهيا، وليس كائنا له شخصية ورؤية وموقف، ومشاركة.. إلخ. المرأة في نظر الرجل العربي ملكية، وشهوة، وضرورة معيشية. أما المرأة فقد بلغ الاستلاب بها حدا أقعدها عن معرفة الحب. وإذا عرفت أي رجل يمكن لها أن تحبه، فلن تعثر عليه إلا بمعجزة. هذه ناحية. الناحية الأخرى، هي هذا التراث الهائل من الهذر المثالي، والتصورات الحالمة، والمعاني المجردة، التي تعشش في وعينا عن الحب، التفاهم، والانسجام، والتضحية، والوفاء، والإخلاص، والأبدية، وكل هذا الكلام الأجوف عن الحب، الذي يصير عبئا ثقيلا على الوجدان عندما تنهار العلاقة وينهار الحب. الحقيقة الناصعة، العميقة، عن الحب هي أنه حالة مستمرة من الصراع، وليس من التفاهم والانسجام، إنه حالة مستمرة من محاولة السيطرة، والتملك بسبب خضوع كل شيء في حياتنا لحس الملكية الفردية. والحب لا ينمو إلا عبر هذا الصراع، ولا يتجوهر إلا عبره. إنه حالة من التشكك المتجدد، والارتباط المتجدد، الذي، إذا نجح، كشف عن مقدار النبالة والإنسانية اللتين تمكنان صاحبهما من تشييد علاقة تكافؤ مع الأخر، علاقة أساسها حرية الاختيار وليس قسرية الالتزام. وإذا فشل فهو تعبير عن البؤس الذي يضعنا فيه حس التملك.

اغتيال الطمأنينة

  • "الأحلام سماد الواقع" هكذا تحدث أحد أبطال هاني الراهب متفائلا، ولكن من يعايش الراهب الإنسان، يجد نفسا معذبة، يظللها التشاؤم والخوف من الغد، فما قولكم في ذلك؟.

- لا أدري ماذا أقول لك. في حياتي أحداث اغتالت اطمئناني للحياة. كما أنني ليست لدي أي ضمانة أقدمها لمستقبل أطفالي. وكذلك فأنا لا أستطيع أن أكتب ما أريد كتابته، ثم هذه الظلامية المتفشية في العقل العربي. وضياع العمر سعيا وراء العيش. ألا ترى أننا عدنا في حيث بدأنا: المذكرات؟ إلى الصدق الذي يستحيل الجهر به. خلنا نقل الآن: أدرك شهرزاد الصباح.

 



أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




الدكتور هاني الراهب





طالب الرفاعي





من مؤلفات هاني الراهب





من مؤلفات هاني الراهب