النظام العالمي الجديد; رؤيـة إسـلامية محمد عمارة
النظام العالمي الجديد; رؤيـة إسـلامية
إقامة العلاقات الدولية بين الأمم والشعوب والدول والحضارات على قاعدة المساواة في الكرامة، والعدالة في تبادل المنافع وفق الرؤية الإسلامية هو امتثال لحكم الله، فالتكريم الإلهي هو لبنى آدم وليس لشعب أو جنس حتى لأبناء دين معين. "ليست للإسلام وأمته وحضارته وعالمه مشكلة مع علاقات دولية عادلة ونظام عالمي رشيد..بل إن مشاركة المسلمين في إقامة هذه العلاقات الدولية العادلة والنظام العالمي الرشيد هو تكليف إلهي فرضه الله، سبحانه وتعالى، على المسلمين.. فالتعددية في الشرائع - ومن ثم في الحضارات-..وفي اللغات والألوان - أي القوميات والأجناس -.. وفي القبائل والأمم والشعوب..هذه التعددية - بالنص القرآني ..وفي التصور الإسلامي - سنة إلهية وقضاء تكويني لا تبديل له ولا تحويل... وإقامة العلاقات بين فرقاء هذه التعددية "بالمعروف"، ووفق (ما يتعارف عليه الناس)". والتعارف، علي "التفاعل في المعروف"، هو التكليف الإلهي بإقامة العلاقات مع الآخرين.. ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين* إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير . والتفاعل بين الحضارة الإسلامية وسائر الحضارات الإنسانية، البائدة منها والحية، الماضية منها والمعاصرة، تكليف إلهي أقامه المسلمون بانفتاحهم على مختلف الحضارات. فشريعة من قبلنا شريعة لنا، ما لم تكن هناك خصوصية لشريعتنا نسخت نظيرها في الشرائع الأخرى.. والسياسة الشرعية لا تقف عند البلاغ القرآني والبيان النبوي، وإنما يدخل فيها كل ما يحقق الصلاح وينفي الفساد، إذ هي - في - تعريف السلف: (الأعمال والتدابير التي يكون الناس معها أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد، وإن لم ينزل بها وحي أو ينطق بها رسول"..ذلك أن (الحكمة) هي - في التعريف النبوي -: "الإصابة في غير النبوة" ..أي الصواب الذي يدركه البشر بالعقل والوجدان والحواس والتجريب..والمسلمون مدعوون في طلب هذه الحكمة - الصواب - من أي مصدر، وأية أمة، وأية حضارة..وكما يقول الرسول، صله الله عليه وسلم: الكلمة الحكمة ضالة المؤمن أني وجدها فهو أحق الناس بها.. ومنذ فجر الإسلام ، وضع المسلمون هذا المنهاج في التفاعل الحضاري موضع التطبيق، فأخذوا من تجارب وقواعد وتراتيب الحضارات الأخرى "المشترك الإنساني" العام وأضافوه إلى "الخصوصيات الإسلامية" التي تميز بها منهاج الرسالة الإسلامية الخاتمة .. فاختاروا "التفاعل الحضاري"، من موقع "الراشد المستقل" رافضين "التبعية والتشبه والتقليد" وكذلك "العزلة والانغلاق"..صنعوا ذلك عندما أخذوا عن الرومان (تدوين الدواوين) ولم يأخذوا "القانون الروماني"، استغناء بالشريعة الإسلامية المتميزة. وعندما أخذوا عن الهند (الفلك والحساب) ولم يأخذوا فلسفة الهند، استغناء "بالتوحيد" فلسفة الإسلام. وعندما أخذوا من الإغريق "العلوم التجريبية"، ولم يأخذوا أساطيرهم الوثنية، المنافية للتوحيد الإسلامي.. بل وصنعت ذلك الحضارة الغربية، إبان نهضتها الحديثة، عندما أخذت عن الحضارة الإسلامية العلوم التجريبية والمنهج التجريبي، ولم تأخذ عنا التوحيد، ولا الوسطية، ولا القيم..وأحيت خصوصياتها الإغريقية والرومانية..فكان هذا الصنيع دليلا على أن التفاعل الصحي بين الحضارات، والعلاقات العادلة والحرة بين الأمم والدول، لا بد أن تتأسس على حرية اختيار- الأمم والحضارات لما يناسب هويتها. الحضارية المتميزة، فيدعم الاستقلال والتميز لهذه الهوية..وحرية الرفض لما يمسخ ويشوه هذه الخصوصيات.. وهذا هو "القانون" "المعيار" الذي نريده حاكما للعلاقات بين أمتنا وحضارتنا والأمم والحضارات الأخرى..وإذا كانت أمتنا تشكو من التخلف الحضاري، فإن طوق نجاتها من هذا التخلف هو "التجديد والإحياء الحضاري" ..وأعدى أعداء هذا "التجديد" هو "التقليد" فالتقليد للنماذج الحضارية الغربية والوافدة يعطل ملكة الإبداع والابتكار.. ولن تنهض الأمة إلا بالتجديد..ولن يكون هناك تجديد إلا إذا شعرت الأمة بالحاجة إليه، وبأنه ضروري..ولن يتأتى ذلك إلا إذا آمنت بأن لها في النهضة مشروعا متميزا عن المشاريع الأخرى للحضارات الأخرى..عند ذلك تدفعها الحاجة إلى التجديد والإحياء، وتنمو لديها ملكات الابتكار والإبداع، تلك التي تذبل وتموت في ظل (التشبه والمحاكاة والتقليد) للآخرين.. ولقد كانت اليقظة الإسلامية، الحديثة والمعاصرة، على وعي بهذه الحقيقة منذ بداياتها، فدعا أعلامها إلى التمييز، في التفاعل الحضاري، والعلاقات مع أمم الحضارات الأخرى، بين النافع والضار ..بين الملائم وغير الملائم ..بين المشترك الإنساني العام والخصوصيات الثقافية والعقدية والحضارية..بين العلم التجريبي ذي القوانين والحقائق العامة والمحايدة وبين الفلسفات والثقافات والعلوم الإنسانية والآداب والفنون التي موضوعها النفس الإنسانية المتميزة بتميز الحضارات، فقال جمال الدين الأفغاني: "إن أبا العلم وأمه هو: الدليل. والدليل ليس أرسطو بالذات ولاجاليليو بالذات..والحقيقة تلتمس حيث يوجد الدليل.. والتمدن الأوربي هو، في الحقيقة، تمدن للبلاد التي نشأ فيها على نظام الطبيعة وسير الاجتماع الإنساني.. والمسلمون الذين يقلدونه إنما يشوهون وجه الأمة، ويضيعون ثروتها، ويحطون من شأنها..إنهم المنافذ لجيوش الغزاة، يمهدون لهم السبيل، ويفتحون لهم الأبواب" ؟! والإمام حسن البنا هو القائل: "إن الإسلام لا يأبى أن نقتبس النافع وأن نأخذ الحكمة أنى وجدناها، ولكنه يأبى كل الإباء أن نتشبه في كل شيء بمن ليسوا من دين الله على شيء..إن الأمة إذا أسلمت في عبادتها، وقلدت غير المسلمين في بقية شؤونها، فهي أمة ناقصة الإسلام، تضاهي الذين قال الله تعالى فيهم: أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون البقرة 85...إننا نريد أن نفكر تفكيرا استقلاليا، يعتمد على أساس الإسلام الحنيف، لا على أساس الفكرة التقليدية التي جعلتنا نتقيد بنظريات الغرب واتجاهاته في كل شيء، نريد أن نتميز بمقوماتنا ومشخصات حياتنا كأمة عظيمة مجيدة، تجر وراءها أقدم وأفضل ما عرف التاريخ من دلائل ومظاهر الفخار والمجد ..". تلك هي صورة العلاقات الدولية العادلة التي نريد..أن يكون عالمنا "منتدى حضارات مستقلة"، تتفاعل فيما هو "مشترك إنساني عام"، وتتمايز فيما هو "خصوصيات حضارية"، وتتبادل المنافع وفق معايير عادلة، ليتحقق الأمن والتقدم والسلام للإنسانية، التي شملها الله، سبحانه وتعالى، بالتكريم، وحملها أمانة الاستخلاف في إقامة العمران. ونحن نؤمن بأننا المالكون للنبأ العظيم، والكتاب المبين، والوحي الوحيد الذي لم يصبه التحريف.. واثنا حملة الشريعة الإلهية الخاتمة والخالدة، المصححة لانحرافات وتحريفات الشرائع السابقة، والمصدقة بأنبياء ورسل كل الرسالات الإلهية، والمهيمنة على التراث الديني للإنسانية جمعاء.. وفى ذات الوقت نؤمن بمبدأ وقيمة حرية الاعتقاد..فالإيمان الديني، في الرؤية الإسلامية، هو تصديق قلبي يبلغ مرتبة اليقين ..ومحال أن يكون هذا الإيمان ثمرة للإكراه والترهيب لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي.. البقرة 256 وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر.. الكهف 29 قل يا أيها الكافرون* لا أعبدما تعبدون، ولا أنتم عابدون ما أعبد* ولا أنا عابد ما عبدتم* ولا أنتم عابدون ما أعبد* لكم دينكم ولى دين الكافرون 1- 6 قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي واتاني رحمة من عنده فعميت عليكم أنلزمكموها وأنتم لها كارهون هود 28 ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين يونس 99. ولقد أنفق المسلمون الأوائل القرن الأول من عمر الإسلام في فتوحات أزالت سلطان البغي - البيزنطي - الذي استعمر الشرق وفتن أهله عن دينهم، حتى عندما كان دينهم هذا مذهبا مخالفا لمذهبه داخل النصرانية التي ينتسب إليها الجميع! فأنجز المسلمون ومعهم شعوب الشرق، وهي على دياناتها القديمة - "تحرير الأرض" و "تحرير الضمير والاعتقاد" ..وبنوا (الدولة)، وتركوا الناس أحرارا في اختيارا "الدين" الذي به يؤمنون..فكانت سابقة لا نظير لها في التاريخ!.. فعالمية الإسلام، التي لا تجعله دين العرب خاصة، ولا دين جنس من الأجناس دون سواه ..هذه العالمية تتوجه به إلى كل البشر؟ وتراهم بإزاء دعوته: إحدى أمتين: أ- أمة الاستجابة، التي اختارته اختيارا حرا فالتزمت بأمانة إقامته إلى يوم الدين.. ب - وأمة الدعوة، التي على المسلمين أن يعرضوا عليها الوجه الحق للإسلام، لعل الله أن يهديها إلى هذا الدين.. ذلك هو التقسيم الإسلامي للعالم، منذ أن ظهر الإسلام..فالناس، إزاءه: أمة دانت به وله..وأمة هي مدعوة - بالحكمة والموعظة الحسنة - لتدخل فيه .. أما ذلك التقسيم القديم، الذي تحدثت عنه مصادر الفقه الإسلامي، والذي قسم العالم إلى: "دار إسلام" وسلام و "دار كفر وحرب "..أو إلى "دار إسلام"، و" دار عهد"، و "دار حرب" ..فإن الذي اقتضاه وفرضه هم الذين أعلنوا الحرب المستمرة على الإسلام وأمته وداره منذ فجر ظهور الإسلام..وإلا، فبماذا كان مطلوبا من فقهائنا أن يسموا (ديار) الذين عاشوا يجيشون الجيوش ويشنون الغارات على ديار الإسلام؟!. لقد ظلت "القسطنطينية"، على امتداد تاريخها النصراني - منذ عهد هرقل (610 - 641 م)، وحتى الفتح الإسلامي لها (857 هـ 1453 م) في حرب دائمة ضد الدولة الإسلامية..والحملات الصليبية - التي قادتها البايوية الكاثوليكية..وقادها أمراء الإقطاع الأوربيون..ومولتها المدن التجارية الأوربية.. وشاركت فيها شعوب أوربا - هذه الحملات ظلت حربا قائمة ومستمرة على الإسلام وأمته وعالمه قرنين من الزمان (489 - 690 هـ - 1096 - 1291 م) ..وفي أثنائها أقامت الصليبية مع الوثنية التترية حلفا ضد دار الإسلام؟!..ولما افتتح المسلمون قاعدة تجييش الجيوش ضد عالمهم - القسطنطينية (857 ه 1453 م) - صعد الجناح الغربي للنصرانية الغربية الضغط على الإسلام، فاقتلعوه من الأندلس (897 ه 1492 م) وبدأوا حرب القرون الخمسة، تلك التي بدأت بالالتفاف حول العالم الإسلامي، ثم الغزوة الاستعمارية الحديثة لقلبه، قبل قرنين من الزمان..وهي الغزوة التي التهمت أقطار الإسلام، وأسقطت خلافته، ومازالت تمارس الهيمنة والاستغلال لكل عالم الإسلام.. فهو تاريخ من الحرب الدائمة القائمة والمعلنة على عالم الإسلام، ذلك الذي جعل فقهاءنا يقسمون العالم إلى "دار إسلام " و " دار حرب"..أما الإسلام فأنه يريد لهذا العالم أن يكون: "دار إسلام"، و "دار دعوة" الإسلام.. وفي ظل نظام دولي وعالمي عـادل، يصبح العالم بأسره في الرؤية الإسلامية، " دار عهد"، تحكم علاقات دوله وشعوبه وحضاراته "عهود ومواثيق" هذا النظام العالمي وآليات مؤسساته العالمية والدولية.. وتصبح الشعوب غير المسلمة "أهل عهد.. وأمة دعوة".. فيسقط تعبير "دار الحرب" ، من رؤية الفقه الإسلامي للعلاقات الدولية، إذا طوى الآخرون صفحة الحرب التي أعلنوها على الإسلام. تلك هي رؤيتنا للعالم المعاصر الذي نريده.. ولقد سبق للأمام البنا أن عبر عن هذه الرؤية عندما كتب يقول: "إن الأخوان المسلمين يرون الناس بالنسبة إليهم قسمين: قسم اعتقد ما اعتقدوه من دين الله وكتابه، وآمن ببعثة رسوله وما جاء به. وهؤلاء تربطنا بهم أقدس الروابط، رابطة العقيدة، وهي عندنا أقدس من رابطة الدم ورابطة الأرض، فهؤلاء هم قومنا الأقربون الذين نحن إليهم ونعمل في سبيلهم ونذود عن حماهم ونفتديهم بالنفس والمال، في أي أرض كانوا ومن أي سلالة انحدروا إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم الحجرات 10.. وقوم ليسوا كذلك، ولم نرتبط معهم بهذا الرباط، فهـؤلاء نسالمهم ما سالمونا، ونحب لهم الخير ما كفوا عدوانهم عنا، ونعتقد أن بيننا وبينهم رابطة الدعوة، علينا أن ندعوهم إلى ما نحن عليه لأنه خير الإنسانية كلها، وأن نسلك إلى نجاح هذه الدعوة ما حدد لها الدين نفسه من سبل ووسائل، فمن اعتدى علينا منهم رددنا عدوانه بأفضل ما يرد به عدوان المعتدينلا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من ديـاركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين* إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم...."الممتحنة 9،8. أما "النظام العالمي" المعاصر، كما تجسده موازين القرى في "المؤسسات الدولية "، و "الممارسات الواقعية"، فإنه في الحقيقة: "نظام غربي"، يمثل "الطور المعاصر" للنظام الاستعماري الغربي الحديث، ويمارس الهيمنة والاستغلال ضد أمم وحضارات الجنوب، وفي مقدمتها الأمة الإسلامية.. إن "عالمية أي "نظام" لا يمكن أن تتحقق إلا إذا راعت مواثيقه ومؤسساته الخصوصيات الحضارية والعقدية والثقافية للأمم والحضارات المتميزة في هذا العالم. و"المؤسسات الدولية" لا يمكن أن تكون (دولية) حقا إلا إذا راعت المصالح العادلة لمختلف الدول التي تتمتع بعضوية هذه المؤسسات.. تراعي ذلك في "التمثيل" بالمؤسسات - العامة والفرعية - .. وفي اتخاذ القرارات.. وفي حق الاعتراض على القرارات - "النقض .. الفيتو"-.. وفي معاير تطبيق " القرارات.. وفي توزيع العوائد المادية والثقافية والعلمية والفنية للمؤسسات والمنظمات الدولية المتخصصة.. وبذلك وحده يكتسب "النظام" صفة "العالمية" حقا.. وتكون - مؤسسات هذا النظام، بحق، مؤسسات دولية.. ونحن نريد لعالمنا نظاما عالميا عادلا، يسعى لتحقيق التوازن - أي العدل - بين شعوب العالم وأممه وحضاراته.. ونعلم أن ذلك لن يتحقق بمجرد التمني ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سواء يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا النساء 123. وإنما طريقنا إليه إقامة النظام العربي والنظام الإسلامي الذي يجعل من أمتنا وإمكاناتها كتلة ذات وزن في مكونات هذا النظام.
|
|