البعد الذهني للصراع العربي - الإسرائيلي حازم صاغية

البعد الذهني للصراع العربي - الإسرائيلي

مما لا شك فيه أن الصراع العربي - الإسرائيلي قد ترك انعكاساته على البنية العقلية العربية، ولم يتحرر من مفاعيلها إلا أفراد معدودون في الوطن للعربي. لقد فهم البعض الصهيونية بوعي كامل الخرافية، نواجهه بخليط من المكابرة والإصرار، بينما وصل البعض الآخر إلى قناعات موضوعية. ويتعرض كاتب هذا المقال للنمط الأول من أنماط التفكير العربي.

إذا جاز أن العدوانية والغطرسة الإسرائيليتين كان لهما دورهما في تشكيل هذا العقل، وفي وسمه بسمة السلبية الحادة، فهذا وحده لا يستنفد الموضوع. فلأسباب تاريخية وثقافية، ليست هذه العجالة مجالها، استقبل العرب هجمة الصهيونية على فلسطين، وما ترتب عليها من حروب، بوعي كامل الخرافية، وكان من أبرز علامات الخرافية الطريقة التي فهمنا بها الصهيونية نفسها. فالأخيرة ظلت، في الوعي السائد، مشروعا خرافيا نواجهه بخلط من المكابرة والإصرار على القتال كائنا ما كان الثمن. أما اليهود فظلوا مجرد "جبناء، سفلة، حقراء، وصيارفة وضعاء".

ولأن انتصارات إسرائيل كبرت وكبر، كذلك، استفزازها وغطرستها، فقد تحول العجز عن تفسير تاريخ الهزائم إلى مأزق نعيشه أفرادا وجماعات لحظة بلحظة، من دون أن نفعل شيئا يذكر لتلافيه ومداراته. هكذا ازدهرت الخرافة والميل التآمري كما عمت الرغبة في الاحتجاب عن العالم المعاصر الذي نجحت إسرائيل في أن تنتمي إليه. فحيث تكون إسرائيل لا نكون نحن: إذا قالت عن نفسها، ولو في معرض دعائي، إنها حديثة وبرلمانية، وإنها تسعى إلى المساواة بين الجنسين، رحنا نبحث عن عيوب هذه القيم، ونؤكد أنها لا تناسبنا.

فاستيلاء الصراع العربي - الإسرائيلي على عقولنا، حطم البنية الذهنية العربية تماما في ظل "طرائق" لتفكير هذه، جاعلا من الصعب جدا النظر إلى العالم المحيط بعين عصرية، أو تطوير علوم ومناهج وأدوات معرفية تواكب سير كوكبنا المعاصر. وأمام تحطم العقل على هذا النحو، لا يعود مهما إذا كسبنا هذه الجولة السياسية، أو العسكرية، أو تلك، وإذا خسرناها. فحتى لو تحقق لنا، بفعل مصادفة عابرة، أو سهو تاريخي ما، أن نحرز انتصارا من هذا الصنف، بدونا عاجزين بتاتا عن استثماره.

هذه الحاجة إلى طرد الهزيمة وأسبابها من دائرة التحليل، وكذلك طرد النصر وأسبابه، قادت، بدورها، إلى حاجة أبعد منها. فقد بتنا نتمنى طرد "العالم" الذي هو مسرح هزيمتنا وانتصارهم، ومن ثم طرد الأدوات والقنوات والدبلوماسية والعلوم الحربية الحديثة، مما تحقق بسببه انتصارهم علينا. واندفعنا، من ثم، إلى نقل الموضوع برمته إلى خانة الرغبوية القصوى، فلم يكتم عرب كثيرون ميلهم إلى عيش "انتصارهم" في الخيال الجامح، أو في الماضي المتخيل، أو حتى في القصص، أو "الصورة" (السينمائية أو التلفزيونية) التي أوكلت إليها مهمة تحديث الخرافات.

من هذا القبيل، مثلا، تم نفخ قصة رأفت الهجان، الرواية والمسلسل التلفزيوني اللذين حظيا بإقبال منقطع النظير في مصر وبلدان عربية كثيرة، ناهيك عن أعمال أخرى تندرج في هذا الحيز. لكن كان الأخطر من كل ما عداه أننا لم نضف "الصورة" إلى واقع ما، بما يغني الواقع ويسلينا، بل مضينا نهجر الواقع إلى صور متزايدة الهزال سكناها، واستقر بنا المطاف فيها.

فمنذ بداياتها مالت مشكلة الصراع العربي - الإسرائيلي، لا في تخييل الواقع فحسب، وهو الذي لا يعمل وفق مصلحتنا، بل أيضا في ملء الخيال بجرعات من التخلف الغريب عن القيم الكونية المتقدمة. وفي وقت يرقى في 14 ديسمبر 1934 كتب عادل أرسلان في مذكراته، تحت عنوان: "سفري من تريستا على الباخرة إيطاليا"، وكان متجها في يافا:

"ولفت نظري حلقات من الرجال اليهود تضرب على امرأة روسية الملامح، أو هي اوكرانية الرأس والعيون تجلس تتكلم وهي أمامها كالتلاميذ. ترفع صوتها كمن يلقي محاضرة، وتنظر تارة إلى يمينها، وطورا إلى الذين عن يسارها. هي لا تشبه اليهود ولكني لا أشك في يهوديتها. يحترمها ركاب الباخرة من قومها ويصغون إليها بإعجاب. تعرضت لي بسؤال في هذا المساء فجر ذلك في حديث طويل. هي فتاة على جانب عظيم من العلم والذكاء تحمل لقب دكتور في الفلسفة، ولا تكتم أحدا أنها من أركان الصهيونية ودعاتها. ظنت لأول وهلة أني غربي مهتم بالسياسة العربية فأرادت أن تعرف أفكاري فخاضت في حديث الوطن القومي من طريق الثقافة اليهودية، ولكنها انتهت إلى قولها إن فلسطين تعادل بلجيكا في مساحتها، وإن في بلجيكا تسعة ملايين من السكان، وإن اليهود في الدنيا ستة عشر مليونا ينبغي أن يكون لنصفهم على الأقل وطن يعرفون به..هذا يطابق ما قاله الزعيم الصهيوني في جنيف لأخي "شكيب أرسلان؟" ولإحسان بك "الجابري". بعد هذه المقدمة الطويلة لم أر بدا من مناقشتها وقد هممت بذلك، وإذا بها قد تركت السياسة قبل أن تسمع جوابي، وانتقلت في التغزل بشعري.. الأبيض، وبتحقيق هويتي...ودهشت عندما فهمت أني عربي لكنها ظلت تنظر في شعري ..وتقول إنه Interressant. هي من أركان الصهيونية ودعاتها ذاهبة إلى فلسطين لتدرس الفلسفة في الجامعة العربية في القدس... فأين كل هذا من التعلق بهذه الخيطان البيض؟".

وعادل أرسلان، صاحب هذه الرواية التي تستعصي على التصديق، ليس رجلا قليل التمثيلية في التاريخين السياسي والثقافي العرببين. فهو شاعر ولغوي وأمير من ارستقراطي لبنان. شقيقه شكيب، الشاعر والسياسي المعروف على نطاق العالم الإسلامي، وقريبه السياسي والوزير اللبناني الراحل، مجيد. وقد اختير عادل نائبا عن جبل لبنان في مجلس "المبعوثان" في عهد الحرب العالمية الأولى، واشترك بتأسيس الجمعيات العربية السرية في الآستانة، وكان سكرتير "الجمعية القحطانية". وهو، أيضا، أحد المقربين من الأمير فيصل في دمشق، ورئيس ديوان شقيقه الأمير عبدالله في الأردن طوال سنوات ثلاث. قاد إقليم البلان في الثورة السورية (1925)، ومثل سوريا في الأمم المتحدة، كما تولى وزارات الدفاع والخارجية والتربية فيها، فضلا عن تلقييه "أمير السيف والقلم"

لكن ما فعله أرسلان في 1934 ليس من قبيل "غلطة الشاطر"، وهي فادحة بالتعريف، إذ هو عاد ثانية، في 23 إبريل 1950، وكانت إسرائيل نشأت وبدأت تستقر، إلى تأويله "الأخلاقي" الساذج والمتخلف في آن، فعلق بالتالي على حفلة إسرائيلية في أنقرة: "علمت أنهم اختاروا أجمل اليهوديات وأحسنهن رقصا لجلب الأحباب وخلب الألباب، كما علمت أن النساء الموظفات في سفارة إسرائيل سيعدن من حيث أتين لأنهن لم يُثبتن البراعة المطلوبة في التجسس. وسيخلفهن يهوديات من ذوات الخبرة والتجربة كيهوديات أمريكا والمجر ورومانيا".

لقد كان أرسلان من مؤسسي "النهج" الذي ساد وتفاقم لاحقا في (فهم) إسرائيل والصهيونية، لكنه، على أية حال، لم يكن غير واحد بين كثيرين. فهزيمة 1948، بعد تقسيم 1947، وقعت وقعا مدويا على العرب الذين كانوا واثقين من انتصارهم "على تلك الحفنة من الجبناء". لهذا كان لا بد من تدخل الخرافة واللامعقول واللامقبول لتفسير ما حصل، فكتب نصوح بابيل، وهو صحافي سوري كبير كان نقيب صحافيي بلاده في الأربعينيات، عن اعتقال جمعية "صهيونية" من يهود مصر، حيث "اتضح أن لهذه الجمعية تشكيلات شبه عسكرية تشترك فيها بعض الفتيات اللواتي يقمن بحملة منظمة من الإغراء لنصب شراك لأكبر عدد من الشباب المصري، على أمل أن يبهره الجمال الصهيوني الحقير الرخيص".

سحرية النصوص

هكذا يبلغ الاعتداء على العقول والمعاني حدا هذيانيا كاملا، يستحيل معه أي تأسيس عقلاني على نطاق شعبي، فاليهود مثلا، عند الشيخ محمد الغزالي "يتوارثون تكذيب محمد ومخاصمة قومه، وقد جاءوا بعد أربعة عشر قرنا في فلسطين يبغون استعادة مجدهم القديم (...) وسمع أهل العصر صياحهم وهو يدخلون القدس هاتفين: يا لثارات خيبر محمد مات وترك بنات! ".

لكن المخيف أن صاحب هذا الكلام ليس مجرد شخص عادي. فهو مصدر فتاوى خطيرة بحق "المرتدين"، وهو لسنوات، صانع عقول وأذواق وآراء، من خلال الكتب التي يكتبها، والبرامج الإعلامية التي كانت معطاه له، فضلا عن الخطب والمواعظ. والغزالي، إلى ذلك كله، صديق بارز لحركة الأخوان المسلمين في مصر، أهم الحركات النضالية للإسلام السياسي، وله تأثير وأتباع كثيرون بين إسلامي الجزائر، حيث مارس التعليم لفترة من الزمن.

والسياسي ليس بحال من الأحوال متقدما على زميله الداعية في وعي هذه المسألة وتناولها. معروف الدواليبي، وهو رئيس حكومة سابق في سوريا، ومن المثقفين الإسلاميين البارزين؟ علق بالتالي على "وثيقة" قال إنه يمتلكها، منسوبة في الفاتيكان، تقرب للوقف اللاهوتي المسيحي من مثيله الإسلامي بقوله: "إن اليهود بوسائلهم الكثيرة قاموا بسحب هذه الوثيقة. وقد وضع الأمير جيه، رئيس المخابرات الإنجليزية الأميريكية كتابا فضح فيه ما صنع اليهود، فقاموا بخطفه وزوجته وأولاده .."

أما ما هي "الوثيقة" ومتى صدرت، وما عنوانها أو رقمها، ومن هو الأمير جيه، وهل هناك مخابرات "إنجليزية أمريكية"، وما هو الكتاب موضع الاستشهاد، فأمور لا موجب لطرحها أصلا.

على أية حال، فالعوارض التي شرعت تظهر وتتفاقم النصف الأول من هذا القرن، اكتسبت بهزيمة 1967 أبعادا نوعية أكبر. ذلك أن الأهداف التي طرحها الرئيس جمال عبدالناصر على نفسه، فضلا عما تعهدته القوى الراديكالية العربية الأخرى، كانت أكبر وأخطر من أن تحتمل "نكسة"، تنتهي معها تلك المزاعم والوعود والادعاءات في ساعات معدودة.

فالهزيمة التي أنزلها بنا طرف غير موجود وغير قائم (الكيان المزعوم ..إلخ)، هي في ضخامة الوعود التي كنا نمني النفس بها: "الوحدة، الاشتراكية، التحرير". وإذا كان هذان الاصطدامان بالواقع كفيلين بدفع صاحبهما إلى الجنون، فإن شيئا من ذاك الجنون وحده هو ما يمكن أن يفسر عبارة عبدالناصر الخرقاء في خطابه الشهير يوم 9 يونيو 1967: "انتظزناهم من الشرق فجاءونا من الغرب"

ومجددا كان لا بد، مع الزمن، من استدخال الجنون، وجعله جزءا ضمنيا من مكوناتنا الذهنية، مصحوبا بالاعتماد على ما توافر من قيم متخلفة ومعزولة يمكن الاعتداد بها. فمن قبيل طلب المواجهة، بمعناها الحرفي، أي وجها لوجه، شرح عبدالناصر ما حدث، من موقعه ك "زعيم الأمة العربية" : "واحنا في معركة حزيران الماضي لم تلاق قواتنا المسلحة القوات الإسرائيلية وجها لوجه كلها. جزء من قواتنا المسلحة واجه القوات الإسرائيلية، أما الجزء الأكبر فلم يواجه قوات إسرائيل، والجزء اللي واجه القوات الإسرائيلية حارب بشجاعة وبسالة وكيد العدو خسائر فادحة..محدش يقدر ينكر أن المعارك اللي احنا دخلناها وجها لوجه، استبسل الناس ربات ومات الناس "فيها" وكبدوا العدو خسائر كثيرة".

التضحية بالعلم والتاريخ

آل هذا الوعي الخرافي، في ما آل إليه، إلى التضحية بالعلم، وفي صدارته علم التاريخ. ولم يكن أبدا من غير المألوف أن يفسر كاتب عربي اختلافه في الرأي أو التأريخ مع كاتب آخر غربي، بيهودية هذا الأخير، الفعلية أو المزعومة. فقد رأى، مثلا، مصطفى خالدي وعمر فروخ، في كتاب لهما صدرت طبعته الأولى في 1953 وكان له تأثير واسع، أن السبب الأول بين أسباب الخلاف مع غوستاف فون غرونيباوم، حول التاريخ الإسلامي، أنه "يهودي". وعلى هذه اليهودية تترتب نظرة كاملة إلى العالم والكون والمعارف، يصير بموجبها صاحب الرأي المخالف لرأي غرونيباوم، وهو جورج سارطون "الكاثوليكي"، أعلم منه. فهذا الأخير (أدرى بحقيقة الصلات بين العالم الكاثوليكى والعالم الأرثوذكسي من غرونيباوم اليهودي".

أبعد من هذا، تصير اليهودية مدخلا إلى تخريب العلوم التاريخية وتعصيبها، بعد تديينها، إذ إن "الدكتور غرونيباوم قد سلك المسلك الذي أملاه عليه إيمانه وبيئته، وسأسلك أنا المسلك الذي يمليه علي إيماني وتمليه بيئتي".

في المقابل، وكما تتدخل الديانة اليهودية والأساطير والمؤامرات والجنس وغير ذلك في "تفسير" هزائمنا، يتدخل تاريخ عريض لا يملك لنفسه أية بداية تاريخية!. فقد اكتشفت الكاتبة اللبنانية الفلسطينية بيان نويهض الحوت، وهي كريمة عجاج نويهض أحد أبرز مترجمي "بروتوكولات حكماء صهيون" الخرافية إلى العربية، أن "إحدى الميزات التي تنفرد بها القضية الفلسطينية، هي كونها القضية المعاصرة التي يستحيل فهمها دون الانطلاق بشرحها لا من قبل عهد التوراة فحسب، بل حتى من عهد ما قبل التوراة".

في هذا الجموح "التأويلي" الذي لا يحده حد، يصير تطويع التاريخ حقلا مشاعا لجميع الراغبين فالضربة الإسرائيلية للمفاعل النووي العراقي في مطالع العقد الماضي، دفعت بغداد البعثية لأن تشيع (نظرية) تعاون اليهود (إسرائيل) مع الفرس (إيران الخمينية) ضد بابل (عراق صدام)، ثأرا من سبي نبوخذ نصر لليهود. وفي محاولته تفسير خوف إسرائيل المزعوم من العراق وعدائها له، لم يكتف معلق جريدة "الجمهورية" العراقية بالمواجهات العراقية - الصهيونية منذ الحرب العالمية الأولى وتصريح بلفور"، بل ركز على رعب رئيس الحكومة الإسرائيلية آنذاك، مناحم بيغن، من أن "تعود إلى الحياة روح نبوخذ نصر".

وفي 1989، ومع استطالة الحرب العراقية - الإيرانية، بلغ العبث بقرون كاملة من التاريخ أوجه. فقد "نشرت دار المأمون شبه الرسمية دراسة مطولة لسعد البزاز، تحاول أن تبحث الإسهام الإسرائيلي في حرب الخليج".

وعلى نحو يذكر باستيلاء الخرافة الأيديولوجية على كبار رجالات النظامين الهتلري والستاليني، رأى وزير الخارجية طارق عزيز أن "العون الإسرائيلي للخميني". هو استمرار للدعم اليهودي للفرس خلال غزو بابل واحتلالها. بل يبدو أن صدام حسين نفسه لم يكن بعيدا عن "الاعتقاد بأن العراق ضحية لتحالف إيراني - يهودي دائم ووثيق"، وأن (نفوذ إسرائيل على إيران من الضخامة بحيث يمكن أن تدفعها، حينما تريد، لأن تبدأ حربا وأن توقفها".

لقد شكل الموضوع الفلسطيني - الإسرائيلي المصدر الأخصب والأهم للخرافة الأيديولوجية العربية في حقل التاريخ، لكن الدراسات الاجتماعية أيضا، لا تعود ممكنة عند اصطدامها بهذه المسألة من قريب أو بعيد، فعليا - كان الاصطدام أم وهميا.

في هذا السياق يروي الكاتب السوري اليساري، بوعلى ياسين، أنه رغب مرة في وضع دراسة عن المرأة السورية لمجلة نسائية يسارية في ألمانيا (الغربية بقصد الحصول على معلومات. وهناك أجرى الكاتب حوار مع المسئولة التي لم تحجم عن القول: " بالتأكيد عندنا (دراسات ومعلومات)، ولكننا لا نستطيع أن نعطي شيئا إذا لم نعرف المنظمة. من يعلم؟ ربما تجلس هناك نساء يهوديات!".

فإذا كانت عقيدة الصراع العربي - الإسرائيلي، هي المعادل العربي للستالينية السوفييتية، فإن "المؤامرة". الصهيونية، أو اليهودية، تغلب في الحالة العربية ما لعبته "المؤامرة الإمبريالية" في روسيا الستالينية، التي كان أبرياؤها كثيرين. فهي لا تكتفي بتبرير أشكال القمع الثقافي، فضلا عن الفيزيائي، كافة، بل تمضي إلى تشكيل عقلية عُظامية يتوزع الشعب كله في تلقي إصاباتها.

وهذه النضالية المطلقة التي تضحي بكل شيء في سبيل إدامة الخرافة، تطرح على العرب صعوبات تتعلق بأدوات العقل وتعابيره، من نوع بناء المؤسسات، والتوصل إلى تقسيم عمل حديث، وإلى تطوير جهود بحثية ذات تقليد منفصل عن المهام النضالية والتعبوية. لكن المؤرخ الفلسطيني الراحل عبدالوهاب الكيالي، مثلا لا حصرا، أهدى كتابه "تاريخ فلسطين الحديث"، الذي يفترض به أن يكون عملا أكاديميا (لاسيما أنه تصدى لموضوع نادرا ما تصدى له الفلسطينيون والعرب الآخرون، حتى ذلك الحين على الأقل)، "إلى ذكرى شهداء فلسطين الإبرار الذين خطوا بدمائهم الطاهرة أروع صفحات التضحية والبطولة دفاعا عن عروبة فلسطين، وإلى جيل الفداء العربي الصاعد".

غير أن مؤرخا لبنانيا، هو حسان علي حلاق، يصل في تغليبه عقيدة الصراع علي التأريخ، إلى التوليف بين أنواع لا حصر لها من المناهج المتباعدة، وبين قدر لا يستهان به من الحقائق ومن الأساطير على السواء. ففي أحد كتبه، يعتمد بين مصادره الأساسية مقالا ل (كاتب مجهول)، يكشف (دور الماسونية) والحركة الصهيونية في ثورة عام 1908 وحادثة خلع السلطان عام 1909 وارتباط ذلك بإنشاء "مملكة إسرائيل" في فلسطين".

لكنه، إلى مراجع أخرى تتفاوت بين الإسلامية والماركسية (مكسيم رودنسون، ابراهام ليون، اسحق دويتشر)، يبدي احتراما كبيرا لمرجع غير مجهول هذه المرة، هو "بروتوكولات حكماء صهيون" الذي يعود إليه بترجمتيه الأساسيتين معا: تلك التي وضعها عجاج نويهض والتي وضعها محمد خليفة التونسي، فضلا عن مراجع لا سامية عدة، غربية وعربية.

في مناخ كهذا، حتى المؤرخون المحترفون والأكاديميون يجدون أنفسهم أقل مناعة حيال الخرافات. أو أن ما هو خرافي في وعيهم الأهلي الموروث، كالاستعداد العنصري مثلا، يأنس في ذاته قدرة أكبر على مقاومة الأفكار التي تصدر عن التعليم والبحث الجامعي. ففي الثلاثينيات، توجه الطالب نقولا زيادة إلى لندن للدراسة، لكنه كتب في أواخر الثمانينيات مستعيدا بوعي المؤرخ المجرب، فلم يخامره الشك بأن المستر سولومون (الذي قدم إليه طلب الانتساب في الجامعة)، يهودي. ف "شعره الأسود وحاجباه السوداوان ووجهه المصفق وقسماته التي ينقصها شيء كثير من التناسق"، كلها تقطع بذلك.

نظرا لقوة الاستدخال وحجمه، لا يعود معروفا بالتمام أين يبدأ الزيف الواعي وأين يكون هذا الزيف "ضرورة موضوعية"، ضرورة يستلزمها انسجام هذه الذات الخرافية مع ذاتها وتماسكها فيها. أليست هذه هي مشكلة "الأيديولوجيا" في كل زمان ومكان؟

انتقـائية

لقد بدا مثل هذا الزيف مبررا، إن لم نقل أنه أضحى جزءا لا يتجزأ من آلية "الفكر" هذا. وليكن مثلنا ما نشرته "المصور" الأسبوعية الواسعة الانتشار (18 فبراير "شباط" 1983 م، بوصفه ترجمة أمينة للتقرير الذي أصدرته اللجنة الإسرائيلية عن مذبحة صبرا وشاتيلا (1982 م). يومها مهدت "المصور" بملاحظة تمهيدية تقول إنه بالنظر في إلى الأهمية القصوى للوثيقة، فإنها تقدمها كاملة لقرائها. لكنها في الواقع عرضتها لأكثر من عشرين عملية حذف صغيرة، أزيحت بنتيجتها كل إشارة إلى دور المقاتلين الكتائبيين اللبنانيين ممن ارتكبوا المذبحة، لتسليط الضوء كله على الإسرائيليين الذين مارسوا دور حماية المذبحة ورعايتها.

هذا الكذب يمكن أن يتخذ أحيانا أشكالا أكثر جلافة وبلها في آن. ففي مطالع 1994 م صدر في القاهرة عن "الهيئة المصرية العامة للكتاب"، كتاب بعنوان "التطرف والإرهاب - محنة العالم الإسلامي دينيا وسياسيا واجتماعيا"، لصاحبه أحمد شوقي الفنجري، الذي وجد من يسميه إسلاميا معتدلا ومعاديا للإرهاب. لكن الفنجري، بدل أن يعالج جذور الإرهاب في التكوينات المجتمعية القائمة، وبدل أن يحدد المسئوليات في الداخل، اعتبر أن هناك "دلائل قوية ووقائع لا يمكن إنكارها عن الدور الإسرائيلي في عمليات التطرف والإرهاب التي وقعت أخيراً في القاهرة".

وما عزز به الكاتب حجته أنه حين عمل طبيبا للاجئين الفلسطينيين في غزة عام 1956 م، حيث وقع أسيرا في أيدي الإسرائيليين، أدرك "مدى معرفة الإسرائيليين الدقيقة بأحوال مصر ومشاكلها، وكذلك بالدين الإسلامي".

وإذا ما بلغنا مشارف النقد الأدبي والفني، وجدنا أن مسألة إسرائيل ومتفرعاتها (اليهود، اليهودية، الصهيونية..إلخ) لا تكف عن تشكيل الكابح الأقوى في وجه تطوير نظرة جمالية مستقلة، أو حس نقدي متماسك. فالأعمال النقدية العربية التي تطرقت إلى إسرائيل واليهود كانت دائما قليلة، بما ينم عن ضعف الفضول المعرفي أصلا. لكن في أحد هذه الكتب القليلة، وهو عن اليهودي في أدب إحسان عبدالقدوس، نقرأ التقديم التالي الذي وضعه المؤلف: "إن هذه الشخصية اليهودية، رغم هذه المتغيرات الخارجية والمتغيرات الذاتية، تظل منغلقة داخل جلدها اليهودي لا تستطيع له تبديلا ولا تقدر على الهروب منه، سواء لأسباب خارجية (خاصة بنظرة المجتمع الخارجي لليهودي)، أو لأسباب ذاتية (خاصة بقدرية الانتماء اليهودي) الذي لا تستطيع منه فكاكا".

والأدعى إلى الاستغراب أن هذه الخلاصة، وهي أقل حدة من خلاصات أخرى لأنها تأخذ "العامل الخارجي، في حسابها، تجافي الكثير مما كان قد سبق للكاتب نفسه أن ذكره في مقدمته إياها، وذلك قبل صفحة واحدة فقط. فمثلا، من فضائل عبدالقدوس، في رأيه أنه "لا يضع شخصياته (اليهودية) داخل واقع ثابت ومتعين ليصدر عليها الأحكام، بل يعالجها من خلال المتغيرات الاجتماعية والسياسية التي مرت بالمجتمع المصري على امتداد حوالي نصف قرن من الزمان (...) ومن خلال متغيرات عديدة مرت بها هذه الشخصية اليهودية بفعل هذه المتغيرات...".

وربما كانت الضجة العربية التي أثارها فيلم "لائحة شيندلر" غنية الدلالات في مجال انتفاء الحيز الفني والسينمائي كليا، لا سيما وقد ترافق الضجيج العالمي حوله مع المجزرة التي ارتكبها الإسرائيلي اليهودي المتعصب والمهووس باروخ غولدشتاين في جامع الخليل، مطلع 1994 م. فقد نقلت "وكالة الصحافة الفرنسية" من عمان أن وزير الإعلام الأردني جواد العناني، قرر حظر الفيلم الذي يتناول محرقة اليهود، بقوله: "أخذت قرارا بمنع عرض الفيلم قبل مجيئه إلى الأردن. هذا قرارى الخاص".

وفعلا لم يعرض الفيلم في معظم البلدان العربية لأسباب صاغها بعض المثقفين والنقاد المصريين على نحو لا صلة له بالسينما من قريب أو بعيد. فالمعارضون لعرضه بينهم اعتبروا "أن مجرد التحدث عن الفيلم إهانة للقضية الفلسطينية وأن عرضه سيؤدى إلى تعاطف الجمهور مع اليهود،. لكن الأسوأ أن الذين أيدوا عرضه، فعلوا ذلك "لكي يتم التعرف على فكر الآخرين، خصوصا أن منع عرضت الفيلم أمر غير مجد في ظل الأقمار الصناعية"، مؤكدين أن "الجمهور المصري لا ولن يتعاطف مع الصهيونية كما أكد التاريخ".

العقل..على مذبح القضية

ما سبق لا يعدو كونه عينات لا تغطي إلا القليل القليل من خريطة نرع العقل كما يرسمها الصراع العربي الإسرائيلي. وحين ننزع عقلنا لا نؤذي إلا أنفسنا، الشيء الذي يحتم الخروج من هذا الصراع صونا للعقل على الأقل.

لقد لمسنا كيف أن تعبيرا كنعت "صهيوني"، مثلا، خسر الكثير من معانيه ودلالاته. ولم يفاجئنا ما سمعناه، إبان حرب الخليج الأولى، حين راحت إيران الخمينية والعراق الصدامي يتبادلان هذه التهمة بإفراط وسيولة! وعندما تضيع معاني الكلمات على الشعوب، كما على نخبها، تصبح السياسة لزوم ما لا يلزم، ويصير كل تنازل مقبولا بالقياس إلى التنازل الأكبر عن .. العقل.

 

حازم صاغية

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات