قراءة نقدية .. في كتاب مجرى العيون إبراهيم صموئيل

قراءة نقدية .. في كتاب مجرى العيون

مجموعة قصصية لسعيد الكفراوي
تفصح هذه المجموعة القصصية عن ولع متبادل بين الكاتب وقريته، ففيما تمده بالإلهام عبر تشكيلات طبيعتها وبيوتها وناسها، يسعى ما وسعه للكشف عن أعماقها المخبوءة عبر مفردات العبارة واللغة واللقطة والذاكرة والحس المعافى، فيتحدان معا ويصيران جسداً واحداً

أن القرية بواقعها المادي وطيفها الخيالي ليست، لدى الكفرواي، محطة في جولة سائح يهوى الكتابة . ولاناس القرية كذلك، بعلاقاتهم اليومية ومعتقداتهم الغرائبية .. كائنات تعبر سريعا أمام العين لتنزلق في النسيان .. بل هي، وهم: المرتع الذي نمت منه الطفولة وأينع به الشباب وحملت الرجولة من نسيجه حيـة تعاود من خـلالها تجديد الحياة، وهذا ما نلمس تشكل ملامحه في مجموعته القصصية السابقة ستر العورة، 1989 " ثم اكتمال تلك الملامح ونضجها في مجموعته "مجرى العيون" مما يجعل من الدقة القول - كما جاء على غلاف المجموعة - "ان قرية سعيد الكفوارى التي تتجمع خيوط حياتها - وحتى خيوط المعرفة فيها - تبدو وكأنها قادمة من عصر سابق، أو كأنها "مثبتة" هناك في زمن قديم، أو كأنه يستحضرها من ذكريات طفل - صار كهلا يحب طفولته - وهي ذكريات عزيزة لا تزال، حية.

في معظم قصصه تؤثر سعيد الكفراوي رصد حياة قريته، علاقات التاس داخلها، والمناخات المادية والروحية المتغلغلة فيها عبر عيني طفل، وهو انما يفعل ذلك لسببين: لما تكتنف روح الطفولة من دهشة البرءاة وبكارتها ونصاعة الرؤية ونقائها من جهة، ولما يمكن الطفل الكاتب من اعادة بناء قريته - بيئة القصص - ورسم ناسها - أبطال قصصه - وفقا لمنظوره وحسه وموقفه من جهة أخرى. وبذلك يكون قد قام للقارئ قريته هو، وناسه الذين يعيشون داخله ... أي قدم فنا عبر إعادة صوغ الواقع لا تكرارة ونسخة.

يتبدى ما سبق قوله في قيام طفلين بلعبة "عريس وعروس"، في القصة الاولى، تجهز أخت العريس - الطفلة هي الأخرى - طقوس ومراسم العرس، الأمر الذي يفرح قلب أخيهـا فيمتلئ حيالها بحب استثنائي "أكثر من كل يوم"، وكذلك في قصة (العار) التي تلتقط حالة حب شفيف بين فتى وفتاة يافعين وما تئول إليه العلاقة بينهما في مجتمع القرية، وقصة "حلم يوسف، الطفل الذي لايكف عن الحلم بالطيران والتحليق وامتلاك فضاء القرية ومناداة أقرانه من "عيال الحارة: هيه.. هيه.. هيه" كي ينظروا إليه فتزداد متعته وتتأجج نشوته من الطيران.

وحتى في القصص التي نحلو - في ظاهرها فقط - من طفل أو فتى يافع، فإن الطفولة - بما هي دلالة استمرار الحياة - تكون حاضر بقوة بل وحاضنة أيضا لأحداث القصة وشخصياتها كما هو الحال في قصة "عزاء" التي تقوم بكاملها على مأساة فقدان الرجل العجوز لأي خلف من الأبناء يمكن أن يكون سنداً له في أيام حياته الأخيرة، إذ إنه كثيرا ما ردّ "أن يعيش حتى إذا ما وافته منيته حين يحين الأجل دفن بما يليق بشيخ وحيد" غير أن وحدته الموحشة تواجهه بشراسة، فيدرك في ذلك المفصل الحاد من حياتها "أن الزمن يتوقف، وريح غريبة تهب من مسقط النور" ص 49.

على غرار هذا الغياب الظاهر للطفولة والإنباء والحضور المضمر القوي في آن تدور قصة "الرحى" بين رجل عجوز شارف على الموت وزوجته التي ضاقت بحياتها وحياة زوجها الخاليتين من أي ولد أنيس يحمل عنهما عبء الشيخوخة، فتقول في نفسها: "ان الحياة صعبة، وأنها تود أن يذهبا معاً، وفي يوم واحد، ودفنة واحدة، لأنها تعبت، ولم تستطع. شيل الحمل وحدها، هي المقطوعة من شجرة، وهو من فاته زمانه، لا ابن ولا أخ "ص30. وتتفاعل كذلك وقائع قصة "الخوف القديم" في نفس الخانة "أم بلال، المرآة المقطوعة التي ودعت " بلال " كبدها، ووارته المقبرة القديمة " منذ السطر الأول، ليمد الابن الشاب - الغائب ظاهراً - ظلال حضوره حتى الكلمة الأخيرة في القصة.

إن العلاقة النصوصية بين الكاتب والطفل سبق لها - كما قلت - أن ظهرت في مجموعته السابقة "ستر العورة ": قصص "ابن اوى"، " جرس صغير من فضة"، و" الجمل يا عبدالمولى الجمل "على سبيل المثال... غير أن هذه العـلاقة ترسخت في "مجرى العيون" مما يسمح بالفول بأن تواري الكاتب داخل الطفل لتقديمه راوياً حيناً، أو قيامه بمحورة الأحداث حول وجوده حيناً اخر قد ساهما بفعالية عاليه في شحن القصص بطاقة تأثير قوية في القارئ من ناحية، وبقدرة على تقصى سرائر الشخصيات وبواطن الوقائع ودلالات اللحظات النفسية المأزومة من ناحية أخرى.

هذا الاستخدام الفني لمشاعر الطفل وصوته ورؤيته لم ينحصر في ذاته، بل قدم ملتحما مع وسطه الاجتماعي، متفاعلا مع بيئته، وبالمواجهة مع نقيضه الدلالي وهو ما سأتوقف عنده الآن.

في قصته "عريس وعروس" يصعد الكفراوي بهجة الطفلين باللعبة، ويوهجها إلى أن تصل حدود الخيال فتندغم بحكايات الجدة عن ملكة عروس، متوجة بحبات البرتقال الذهبية تطلق صوتها الشجي وسط بستان يفرح بعطر الطبيعة.. ثم - بغتة - يقطع لحظة التصعيد الطفلي البهي بواقعة جلفة نقيض فيقول: "يأتي متسللا كذئب البراري، دافعا من أمام وجهه الخشن وعينيه اللافحتين الفروع، آتيا ناحية دارنا الصغيرة، المخططة بالحجر، عمي حامد!.. أبو مديحة العروس! ص 10.

لحظة المواجهة هذه بين عالم الصغار وعالم الكبار ستتوالى - بأشكال ودلالات مختلفة - على مدار أحداث معظم القصص. وهي مواجهة يختارها الكاتب باستمرار، غير أنها ليست من اختراعه ليضفي على قصصه ملمحا دراميا، بقدر ما هى من سنن الحياة البشرية نفسها وقوانين الطبيعة ذاتها.

الطفولة، هنا، تقف على النقيض وفي المواجهة مع عالم الكبار ومفاهيمهم وقناعاتهم .. أولئك الذين فقدوا البراءة، واخشوشنت أرواحهم فلم يعودوا قادرين على فهم أو تصديق صرخة الطفل الذى راح يردد بحرقة ولوعة: "كنا بنلعب ياعمى. والله كنا بنلعب". انهم منغمسون في "اللعب"، ملوثون به. وما كنا لندوك ذلك، أو نتنبه إليه على الأصح، لولا متاخمة التلوث للطهارة، البياض للسواد.

ولكن ربيع الطفولة لا يسلب الكاتب قدرته على التغلغل في خريف الشيخوخة، بل هو يرى داخل كل عجوز شارف على الموت صبيا صغيراً يطل برأسه من كوة الشيخوخة نحو الحياة، فالرجل العجوز الذي بات مثل "صرة صغيرة من عظام" تضعه زوجته في "قفه" وتعلقها، راح يطل "على الدنيا، يرى أمامه الأشياء، وهي تنبض بدبة الحياة الأولى، فيما تشع عيناه بألق عيني صبي "ص 31، والمؤذن الكفيف الذي بلغ من العمر عتيا تعود إليه ذاكرته فور ملامسته ليدي الشاب برغم مرور السنوات الكثيرة. ولا ينقذ الزوجين - في قصة "في حضرة أهل الله" - من وهاد يأسهما الخانق الذي بلغاه جراء تعثر ولادة البهيمة الحامل، وخوفهما من أن "يموت الوليد ويتعفن في بطن أمه، وتفطس هي أيضا، ويضيع رأسمالك وانتظار الحول الطويل "إلا انزلاق العجل من رحم أمه وتحقق ولادته الفعلية.

ومن هنا كان حضور العجائز والمشرفين على الموت - في شخصيات القصص - ملازماً ومعادلاً لحضور الأطفال والمواليد، بل إن الحضورين قد تداخلا وتشابكا كما لو أن أحدهما وجه الأخر يستمد منه معنا ودلالته فيمثل النقيض له تارة واستمراره تارة أخرى.

وليس عبثا، في هذا السياق، أن نقع على الموت والحياة في قصة واحدة، العتمة والضوء، الماضي والمستقبل.. تلك الثنائيات التي شكلت منذ الأزل أقنوم الحياة، واتخذت لنفسها موقعا في المجموعة لتشكل معلما من معالمها.

ولكن السؤال المطروح: هل يكفي رصد الواقع المادي - وحده - للتعبير عن الحياة التي يعيشها أهل- مجرى العيون -؟ الكاتب، في قصصه، لا يرى ذلك، فيذهب نحو الخرافات والمعتقدات والأساطير البسيطة.

حدس القلوب

ما تخمنه القلوب وتحدس به الفطرة، يشاهده الواقع ويشهد له في قصص سعيد الكفراوي.

ففي قصة تحمل عنواناً دالاً في هذا السياق: "نظرة عين"، تتوقف الأم "رئيفة" عن كنس أرض الجرن، ترفع ظهرها وهي "تدفع عن أحساسها ذلك الخوف الغامض الذي يهب عليها من حيث لا تدرى " ثم تهمس: "ساعات كده الواحدة يبقى راكبها الهم، ومتعرفش ليه؟ لكل محصول أوان، ولكل موسم شمس تسويه، وقت للحصاد، وقت للخزين.

ووجدت نفسها تهتف: ووقت للفراق " ص 72، وفعلاً يموت زوجها بطلقة في بندقية ملثم..! كيف يحدث ذلك؟ ولماذا؟ لا ضرورة للبحث عن جواب. لأن الأسئلة في الحياة أكثر من الإجابات عنها حتماً. ولذا فهناك مجهول لابد من الإقرار بمجهوليته. نوع من الغموض لا يكشف تماماً ولا يخفى كليا. ولنا، في تجارب حياتنا، أمثلة عديدة مشابهة حيرتنا، نحن أصحابها، قبل غيرنا.

اتساقا مع ما سبق يمكننا الافتراض بأن الكاتب قد عمل على احاطة قصصه: حلم يوسف، الشرير والجبل، نظرة عين، الكفيف، شفق ورجل عجوز أيضا، وفي حضرة أهل الله، بكثافة من الضباب وبعض الغموض ليعادل بين اليقظة والحلم بل وليبذل الأدوار بينهما حتى ليبدو الحلم واقعاً والواقع حلما.

ان الغريب الذي يقرع الباب - في قصة "في حضرة أهل الله" - على القروي الهام بذبح بهيمته يأساً من اتمام ولادتها، يدخل الدار مثل نسمة ريح، وسط دهشة الزوجين وخوفهما (ودهشة القارئ أيضا)، ويشمر أكمامه، ويدير العجل في بطن أمه، ويجذبه من ظلمة الرحم الى نور الحياة.. ثم يخرج - كما دخل - مشفوعا بتساؤل صاحب البهيمة ونداءاته (وتساؤلاتنا أيضا) الى أن "يغوص في ظلمة ما قبل الفجر لا يرد النداء، ولا يلتفت، يختفي رويدا رويدا، عائدا من حيث جاء "وتنتهي القصة..

وبالطبع، فإن القاص لم يغرف نسيج قصصه من هيولي المبهم الغامض فقط، بل عمد فى توشية الأحداث بخيط رفيع من الواقع المادي، الأمر الذي يمكننا - لو أردنا - من تقصي ذلك الخيط وتحميله علة ما يجري: حلم يوسف، مثلا، ليس مجتثا عن حكايات أهل البلد التي تدور حول "الوز العراقي" وأثرها. كما أن طيور الوز ذاتها من لحم ودم، تتجمع فعلا في حوض "الغنايم" وثغري يوسف اغراء قويا بأن يزحف إليها عله يقبض على ساق الوزة الكبيرة كـي "تطير بي عند النجـوم، وأشاهد قبة الولي، والعيال على الشاطئ، وأسمع جرس المدرسة"... الخ ص 60.

وكذا الحال، حين يدخل الغريب الدار لانقاذ البهيمة، فيرتفع للحظة، صوت الزوج صاحب الدار: " مين؟ عم "محمد فرج " جساس البهايم؟ يا ألف مرحب" ص 89 أو حين يقول الأب عرضا - في قصة نظرة عين - مستاء من ولده: "على كل حال عكاز وانكسر. ولد قليل الأصل "ص 74.

غير أن تلك الخيوط، على وجودها الفعلي، تظل واهية ورفيعة، ويظل الواقع أكثر تعقيدا وغرائبية.. تظل بعض الوقائع، والجوانب، والزوايا - في الحياة كما في القصص - معتمة وخافية عنا وعن أسبابنا التي نركن إليها..

عبق المكان

دراسة المجموعة اقتضت تشريحها وتفكيك أحداثها وشخصياتها.. أما حال الشخصيات ومجرى الأحداث، في النصوص القصصية، فإنها منغمسة في بيئتها، مندمغة مع أماكنها، وعابقة برائحة الأرض.

ولقد شكلت البيئة الطبيعية - القرية هنا - رحما دافئا، فيه نمت الشخصيات وتغـذت، وفي اطاره ولدت الأحداث وتشابكت، ولذا فقد كان من المشروع أن يولي اهتماما عن رسم شخصياته وبناء أحداثه.

وفي أي مطالعة للمجموعة سيشعر القارئ بذلك الحشد لأشجار الصفصاف والتوت والبرتقال والليمون، وأنواع سيجد نفسه داخل الدور الطينية والدروب الترابية وعلى الترع وأمام السواقى وخلف الطاحون، وأمام تنتشر حوله الماعز والأبقار والكلاب والدجاج والبقر والوز والبط ... وغيرها من مكونات القرية الطبيعية أو الحيوانية أو المعمارية.

هذا الحشد لم يكن بعدسة سائح - كما سبق القول - أي ليس مجانياً أو تركيبيا غايته تزيين المشهد.. بل جاء في القلب من مجرى الحدث وفي الصميم من بناء الشخصية.

لنلاحظ الملثمين - في قصة "العار" - كيف يحملون هاماتهم ويخوضون بركائبهم المطهمة بالسروج القطيفة المشغولة بدلايات النحاس، والملونة بألوان سرادقات المآتم، متجهين نحو الفتى اليافع الذي ارتكب العيب ليقتضوا منه... ثم لنقارن ذلك مع الدار المسورة بالحجر ونباح الكـلاب حولهم وطين الأرض تحت أقدامهم وأشجار الصفصاف اللائذة بالماء.

ولنعاود النظر في جسد المرأة الشابة الذي قد من مرمر وهو يتدلى من سقف القاعـة بعد أن ربطت من ضفيرتيها.. ثم لنعاين المكان: " عتمة إلا من بصيص ينفلت من الكوة في جدار الطين.

زكائب وأجولة، ونورج قديم كالح، وسلاح محراث أعشى العـين، وفئران تنفلت من الشقوق إلى الجنبات تسمع مروقها ولا تراها" ص 20.

إذا ما وضعنا الصورة السابقة فى جانب صورة أخرى من قصة "عريس وعروس" ظهرت لنا المفارقة على الفور، لا مفارقة الحدث فحسب، بل مفارقة الطبيعة (البيئة) أيضا.يقول الكاتب على لسان الصبي (العريس) في القصة: " نمنا على الأرض، تسترنا الفروع الخضراء، وتوجهت هي ناحية الحديقة، وتكورت ثم نفذت من سور الليمون. كنت أعرف أن الحديقة منورة بالثمر الأصفر كمصابيح الفرح، يتخللها هواء طري، وتكتسي أرضها بالعشب وبالظل المنقوش ببقع شمس الضحى" ص 9.

إن البيئة، عند الكفراوي، ليست مكاناً محايدا يجتمع على سطحـه النـاس وتنـزلق على قشرتـه الأحـداث.. بل هي كائن حين يتفاعل، يفعل وينفعل، مثلها في ذلك مثل الأحياء البشرية والكائنات الحيوانية.. ولذا تراها، في القصص، عابقة على الدوام برائحة الناس، عرق جهدهم ورقرقة ضحكاتهم، همومهم، وأحلامهـم، مشاكلهم، أفراحهم، وانكساراتهم، عابقة بالحياة الجارية في رحمها والنسيج من بنيتها وتكوينها.

المعمارية

اتخذت القصة في المجموعة بؤرة مركزية لها لترتكز عليها وتتحرك في مدارها، منها تنطلق وإليها تعود.غير أن المدار - بطبيعته - ليس خلاء، بل هو ممتليء بالذاكـرة، بالطفولة، بالماضي، وبالحلم أيضا مما يحفز ذلك كله لتأكيد حضوره المرة بعد المرة كلما شعت البؤرة المركزية وتلالات: (الرحى، النسيان، حلم يوسف، الكفيف..).

وبهدف تحقيق الاقتصاد الكثيف - أسّ فن القصة القصيرة - غيبت أحداث ووقائع عارضة، وأزيلت شخوص هامشية، وألغيت استطرادات ثرثارة، مما أبقى على اللب وأغشيته المحيطة اللازمة، فصينت القصص- بذلك - من أمراض الشطط وإصابات الترهل التي كثيرا ما ظهرت أعراضها في مجموعات قصصية صادرة.

ان اعتماد اشارات دالة، وتعبيرات ثرية، ولقطات موحية، مع انتقاء المفردات وتشذيبها.. ساهم في انجـاز قسط وافـر من المعادلـة الصعبة لهذا الجنس الأدبي. فالكاتب يكتفي - مثلا - في سورة غضب الملتحين الذين امتشقوا حقدهم على الفتى العاشق أن يجعل أحدهم يلمح خطفا "كلبا يهارش كلبة" فيما تكون وجهة الملثم ذاك الاقتصاص من الفتى بسبب "مهارشته" للفتاة..!

انضمت، الى ماسبق، لغة الفن السابع (السينما) لتحتل حيزا لها في انشاء النص، فقدمت مشاهد بصرية ولوحات مرئية من شأنها الإحاطة بالموقف أو الحال - مع تكثيفه - والتعبير عنه وإمتاع القـارئ في آن .. وإذا ما أضفنا الى ذلك عمليات التقطيع التي جرت على سرد الحاضر لصالح العودة بالـذاكرة الى الماضي بلقطات قصيرة وامضة، والتعبير عن المعني بلغة المشهد: "امتد ظل السور بعد أن رمته الشمس على الشـارع فقفلته" - وكذا استخدام صيغ الأفعال المضارعة. . تبين لنا شغف الكاتب بلغة السينما شغفا جعله - أحيانا - يهمل القص لصالح رسم المشهد، كما تبدى على الخصوص في المطلع الطويل لقصة "شفق ورجل عجوز أيضا". اجراء الحوار بالعامية المصرية بين شخصيات القصص كلها كان سائدا دون استثناء.

وعلة ذلك (علاوة على ظني بأن لدى الكاتب ميلا قويا للعامية دل عليه استخدامه العديـد من مفرداتها وتعابيرها في السرد أيضا!) بيئة القصص وأمكنها (القرية) والشريحة الاجتماعية للشخصيات (من الفلاحين والقرويين)، الأمر الذي يناقض - فنا وواقعا - استخدام الفصحى حوارا.. اضافة الى كون العامية - هنا - تسهم في اكساب الشخصية لحما ودما وحرارة فتقربها من القارئ أكثر، وتسبغ عليها، في حد ذاتها، انسجاما أكبر.

إذا كان الكاتب قد أقل من اهتمامه في افتتاحيات بعض القصص عن بعضها الأخر.. فانه قد أولى عنايته المشددة لخواتيمها جميعا. بل يمكن للقارئ، أن يلاحظ، بيسر، كيف أن خاتمة القصة (أو قفلتها) هي مصدر لمعان الفكرة وقدرتها على اثارة الدهشة، علاوة على إكتنازها بالدلالة. ولا ضرورة لإيراد الأمثلة كون القصص كلها مصوغة على الشاكلة ذاتها، ولعل القارئ يلمس ذلك ننفسه فتتمكن النصوص من ادهاشه - وامتاعه أيضا - قصة بعد قصة حتى نهاية هذه المجموعة المتميز بحق.

 

إبراهيم صموئيل

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




غلاف المجموعة القصصية مجرى العيون





غلاف المجموعة القصصية ستر العورة





سعيد الكفراوي