الزراعة البيئية مستقبلنا الأخضر سيف الدين الأتاسي

الزراعة البيئية مستقبلنا الأخضر

من منا لم يصب بالخيبة بسبب خضراوات أو ثمار فواكه جميلة الشكل ذات ألوان خلابة، لكنها لا تترك في الفم أي طعم؟ إنها النتيجة المباشرة للسياسة التي لا تحترم الطبيعة والتي اتبعناها خلال السنوات الثلاث الماضية في الميدان الزراعي، وما انفك حماة البيئة ينددون بها، فلقد اعتمدنا على الإفراط في استخدام الأسمدة الكيماوية ورش المبيدات الزراعية بطريقة عشوائية، بهدف زيادة الإنتاج على حساب. كذلك كان من نتائج هذه السياسة، اختفاء أنواع من المنتجات الزراعية التي تتطلب عناية خاصة في زراعتها ونقلها وحفظها

ولأن الأفكار البراقة لا تكفي وحدها للتقدم، وغالبا ما تبدو أنها أجساد لا أيدي لها، ولا أرجل، كسيحة عرجاء، فلقد توصلنا لنتيجة مفادها أن الثورة الخضراء التي أدخلت للعالم الناس أصنافا عالية الغلة من القمح والأرز والشعير أجبرت المزارعين على التخلي عن عدد واسع من الأصناف المحلية وقريباتها البرية. وتد أدى هذا التنميط الوراثي في مجال الزراعة في القضاء على قدرة المحاصيل التقليدية على التلاؤم مع بيئات طبيعية مختلفة وظروف نمو متباينة، فخسرت البشرية حوالي 75% من التنوع الوراثي للمحاصيل الزراعية منذ بداية القرن الحالي. مع أن العالم يحفل بأنواع نباتية هائلة لم تستغل بعد فهناك على الأقل أكثر من ثلاثمائة ألف نوع من الفواكه الاستوائية عالية القيمة الغذائية ومفضلة في بلدان أمريكا اللاتينية لكنها مجهولة تماما في أمريكا الشمالية، حيث تقتصر قائمة الفواكه فيها على الثمار الشائعة من حمضيات، وكروم، وتفاح وغيرها، فمثلا وفي بلد صغير مثل "بيرو" تقل مساحته عن ولاية ألاسكا الأمريكية توجد أنواع من النباتات تعادل سبعة أضعاف ما في الولايات المتحدة الأمريكية كلها، مشكلة مستودعا نباتيا هائلا ينتظر من يرعاه ويستثمره. هذا بعض مما تخبئه الطبيعة لنا من ثروات نباتية غير مكتشفة بعد، في حين لا تحتوي قائمة طعام البشرية إلى الآن إلا على عدد محدود فقط من الأنواع النباتية المعروفة حيث يشكل فقدان التنوع هذا أو ما يسمى باندثار الموارد الوراثية تهديدا عالميا يحدق بالزراعة، كان من نتائجه المباشرة العودة للاهتمام بحدائق النباتات البرية وطرق رعايتها ونقلها وحفظها، حيث تتركز معظم الأبحاث الجارية الآن في المعاهد والمختبرات على إنتاج أنواع جديدة من النباتات والبذور القادرة على مضاعفة الإنتاج والملائمة في نفس الوقت للظروف البيئية المحلية.

تحضير الكوبون

من المعروف في الحياة الأرضية لا يمكن أن تستمر دون تجديد الثروات النباتية والحراجية، ويأمل علماء البيئة من وراء هذه الثروة النباتية في إعادة التوازن إلى الطبيعة، وخاصة إلى نسبة الكربون الجو، الذي يتهم بأن كمياته الناتجة عن حرق وقود النفط تتراكم في شكل (دفيئة) تحيط بالأرض وترفع حرارتها مهددة الحياة عليها. لكن نتائج الأبحاث العلمية الحديثة الخاصة بالهندسة الوراثية للمحاصيل الزراعية تؤكد إمكان تحويل غاز ثاني أوكسيد الكربون الناجم عن احتراق النفط إلى كتلة حية خضراء، تعمر الصحارى والأراضي البور في ظل ظروف بيئية غنية بهذا الغاز، في حال استخدام أنواع نباتية أكثر تلاؤما مع الكربون وأكثر تحملا للجفاف، فالنباتات الناتجة سوف تستخدم الكميات المتزايدة من غاز الكربون في صنع كميات أكثر من السكريات التي تتغذي عليها وتزيد من نموها.

كذلك هناك أمل لتحويل غاز الكربون إلى سلعة ثمينة، إذا تمكنا من إعادة استخدامه مرة أخرى كوقود، فهناك تجارب لبناء محطات توليد الطاقة تستخدم غاز ثاني أوكسيد الكربون المتراكم في الجو وتخزينه في مزارع خاصة تقام لهذا الغرض، وتعتمد فكرة هذا الاكتشاف على إقامة مزارع لطحالب دقيقة تتغذى على الكربون قرب محطات توليد الطاقة التي تسحب الغاز المتصاعد عن الطحالب وتعيد استخدامه مرة أخرى في عملية نظيفة (مغلقة) لإنتاج الطاقة من جديد، ويقدر العلماء أن تجفيف الطحالب وإعادة استخدام قشها في محطات توليد الطاقة يمكن أن تمتص 10% من مجموع كميات غاز ثاني أوكسيد الكربون التي تطلقها جميع بلدان العالم عبر حرق وقود النفط والفحم، وهذا الأمر يدعم الموقف العربي ضد فرض ضريبة الكربون على النفط ويسهم في تغيير الصورة السيئة لغاز الكربون على أنه الملوث الأول للبيئة والمشارك الفعال في تدمير المناخ العالمي.

وبعد الضجة الكبيرة التي أحدثها علم هندسة المورثات يتوقع علماء الزراعة والبيئة أن تؤدى الاكتشافات النباتية الجديدة التي بدأت (بنباتات الأنابيب" إلى إثارة ضجة في المستوى نفسه، حيث يتركز العمل الآن كل استخلاص خلايا النباتات والأشجار وزرع كل خلية منها في أنبوب اختبار، ودلت نتائج التجارب الأولى على أن هذه النباتات الأنبوبية سوف تؤدى إلى تطورات زراعية تحدث لأول مرة في تاريخ الإنسانية. والمثير في هذا المجال أن أشجار الأنابيب الحل الأمثل لإعادة تشجير ملايين الهكتارات من الأراضي القاحلة والمجدبة، وتعتبر دول الخليج العربي الأكثر اهتماما بتطوير تلك الطريقة حيث تخصص نحو ستة مليارات دولار أمريكي لإعادة التشجير بواسطة نخيل الأنابيب، وقد أثبتت هذه الأشجار مقاومتها للأمراض إلى جانب سرعة نموها وغزارة إنتاجها.

والأهم من ذلك كله، أن الخلايا النباتية البيولوجية التي يجري تحضيرها في المختبرات من المتوقع أن تكون نواة الطب الحديث، لأنها سوف تسهم في تركيب العديد من العقاقير الطبية الجديدة، فالموضوع الذي يشغل مختبرات علماء البيولوجيا الآن يتمحور حول إمكان محاربة أمراض العصر بواسطة نباتات مختبرية تحمل مواصفات جديدة وتزيد المناعة البشرية. لقد استطاعت تلك الأشجار العملاقة التي يعود تاريخها إلى مئات السنين الاحتفاظ بالكثير من الأسرار التي شكلت لغزا على مر الزمن إلى أن جاءت الثورة التكنولوجية المعاصرة فحلت شفراتها الوراثية وأسرارها المعقدة، فانتقلت فكرة أشجار ونباتات الأنابيب من الحلم إلى الواقع، خصوصا بعدما ثبت أن هذه النباتات تنمو بسرعة، وتتكيف مع الجو والمناخ والحرارة التي تنمو فيها.

الحشرات تتحدى المبيدات

خلال المسيرة الحديثة للأبحاث في ميدان الزراعة تأكدت كفاءة حفنة من المبيدات لكن التطور في مقاومة مبيدات الحشرات وسط المحاصيل الزراعية قصة تكرر نفسها جيلا بعد جيل، فكلما ابتكر العلماء مبيدا حديثا طورت الأجيال اللاحقة للحشرات كفاءتها المناعية ومقاومتها لتلك المبيدات، لذلك اكتشف أن الاكتفاء برش السموم لا يحقق سوى وقاية مؤقتة للمحاصيل.

لكن الحلم المنتظر الذي تحقق بفضل علماء الوراثة، يتلخص في نقل مورثات السموم الطبيعية التي تنتجها كائنات مجهرية بكتيرية، وزرعها في شفرة المواصفات الوراثية للمحاصيل الزراعية وصولا إلى إنتاج النباتات المقاومة للحشرات ذاتيا، وبهذه الطريقة تتاح للمحاصيل المطورة إفراز سمومها البكتيرية الخاصة بها على الدوام، والهدف أن تتوافر للمزارع في القرن المقبل محاصيل ذاتية المقاومة.

لقد بدأت معاهد التكنولوجيا العضوية برامج التسلح الوراثي بالسموم البكتيرية، لكن تلك البرامج ما زالت بحاجة إلى مزيد من الدراسة في إطار المكافحة للمقاومة المتوالدة ضد هذا المبيد أو ذاك على التوالي، لأن معظم ما يتوافر للعلماء الآن من معلومات مبني على حسابات نظرية أو موديلات كمبيوترية أو تجارب مختبرية محدودة، لا يمكن تعميمها في ميدان الواقع العملي، وفي ظل هذا الجو العلمي لا بد أن تتكاتف جهود الباحثين لتصميم برنامج عملي لمعالجة مشكلة المقاومة المحتملة لدى الآفات الزراعية الاقتصادية إزاء سموم البكتريا المزروعة وراثيا في النباتات.

من خلال هذه التجارب المتداخلة برز حل تقني مرحلي لمشكلة المقاومة لدى الحشرات فقد طرحت مجموعة من الباحثين فكرة تطوير نباتات تحمل جرعات من سموم البكتريا التي لا تميت الحشرات، بل تكتفي بوقف نموها. وهناك اتجاه الآن لدى خبراء الزراعة، يقضي بزرع النباتات العادية جنبا إلى جنب مع النباتات المطورة المزودة بالسموم البكتيرية، بغية التقليل من احتمالات نشوء المناعة لدى الحشرات، وفي الوقت نفسه ينفع هذا الأسلوب في الذود عن محاصيل النباتات إلى حد كبير.

كذلك ربما يكون الاكتشاف المذهل الذي قاد إليه العالم "آرثر نونومورا" بمنزلة فتح جديد للإنسانية جمعاء، يوازي كثيرا من الاكتشافات التي شكلت مفصلا في تاريخ البشرية، فلقد اكتشف هذا العالم وببساطة أثناء عمله في ولاية أريزونا الأمريكية الصحراوية، أنه تحت ظروف حرارة شديدة للغاية أمكن بواسطة رش محلول الميثانول المخفف على النباتات مضاعفة نموها في نفس الوقت الذي تأخذ فيه نصف كمية الماء اللازمة مقارنة بتلك النباتات التي لم ترش بمادة الميثانول. فلقد تمكنت تلك النباتات المعاملة من مضاعفة معدل نموها، أي أنها أينعت بوقت أبكر وقامت بإنتاج سكر أكثر، أن ما قام به العالم نونومورا يعد فتحا واكتشافا جديدا يمكن تسميتها (ثورة الميثانول الزراعية)، ويعد هذا الاكتشاف بمنزلة حقل فرح جديد للمزارعين الذين يقطنون في المناطق الشحيحة المياه التي يكثر فيها ضوء الشمس يساعد عل الحد من أزمة الغذاء التي تعصف بالعالم، والمتوقع زيادتها خلال السنوات القادمة.

إن الزراعة وتطوير أبحاثها مشكلة عالمية، تتجدد معطياتها كل لحظة من لحظات حياتنا، والتطور البشرى الهائل يزيدها حدة، وقد يبدو للبعض أنها مشكلة اقتصادية فقط، لكن بعد الدراسة نكتشف أنها مشكلة حيوية وبيئية واجتماعية في آن واحد.

لذا يجب أن ننظم العلاقة ما بين الأرض والإنسان، لأنها علاقة أساسية لاستمرار الحياة، ولكي نحقق هذا التوازن لا بد من أن يشترك الكل في هذا الجهد، لأننا نملك الكثير من المعطيات العلمية لتخزينها وتحليلها، ولكن ما ينقصنا هو التركيب، لذلك فدخولنا ميدان التجربة يتيح لنا أن نتخيل وأن نتقدم لمحاولة الإجابة عن الأسئلة في كل ما يتعلق بالإنسان والكون، والمصير.

 

سيف الدين الأتاسي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




نخيل الأنابيب.. حلم تحقق





الخلايا النباتية داخل أنابيب الاختبار لتجهيزها لتكون نباتات المستقبل





الأشجار العملاقة التي يعود تاريخها لآلاف السنين آن الأوان لكشف غموضها





التحضير داخل المختبرات لنباتات الأنابيب





التحضير داخل المختبرات لنباتات الأنابيب





التحضير داخل المختبرات لنباتات الأنابيب





التحضير داخل المختبرات لنباتات الأنابيب