يوسف كامل.. الفنان الذي أمتع أجيالا صبحي الشاروني

يوسف كامل.. الفنان الذي أمتع أجيالا

إنه واحد من الفنانين المصريين العشرة الأكثر مبيعا والأعلى ثمنا في سوق اقتناء الأعمال الفنية. وطوال مسيرته كان يتجه دوما إلى الأفضل والأرفع والأعمق فكرا والأجمل أداء بين مختلف المدارس والاتجاهات الفنية التي أنتجها أكثر من 650 فنانا هم مجموع الفنانين المنتجين في مصر طوال القرن العشرين.

ينتمي الفنان يوسف كامل (1891-1971) إلى جيل الرواد في حركة الفنون الجميلة المصرية، وهو الجيل الذي ولد أفراده قبل بداية القرن العشرين، معظم أفراد أسرته يعملون بالهندسة، وقد أصر على الالتحاق "بمدرسة الفنون الجميلة المصرية" عقب افتتاحها بحي درب الجماميز بالقاهرة عام 1908، رافضا الانخراط في المهنة التقليدية لرجال الأسرة، وفي هذه المدرسة كان زملاؤه هم: "محمود مختار" و" محمد حسن " و" راغب عياد " الذين يمثلون أنبغ الملتحقين بالمدرسة التي أنفق على تأسيسها " الأمير يوسف كمال"، وقد تخرج أفراد هذه المجموعة في احتفال ومعرض كبيرين عام 1911.

عقب تخرجه عمل "مدرسا للرسم " بالمدرسة "الإعدادية" ثم بالمدرسة " الإلهامية" أيضا، وظل مدرسا بالمدرستين حتى عام 1924. كان ليوسف كامل مرسم في "بيت الفنانين" بحي القلعة، يهرع إليه بعد اليوم الدراسي ليمارس مهنته الحقيقية وهي الرسم والتلوين، وكان يزوره في مرسمه زميله الفنان راغب عياد الذي عمل عقب تخرجه مدرسا للرسم بمدرسة "الأقباط الكبرى"..في إحدى هذه الزيارات تطرق الحديث إلى مستقبلهما الفني بعد أن شاعت أخبار نجاح وتفوق زميلهما محمود مختار الذي سافر إلى باريس مبعوثا لاستكمال دراسته على نفقة الأمير "يوسف كمال"..كانت الحرب الكبرى قد وضعت أوزارها وثورة 1919 قد تفجرت وليس أمامهما بصيص ضوء لاستكمال معارفهما الفنية إلا بجهودهما الخاصة، واتفقا على أن يقوم أحدهما بدور الأمير يوسف كمال والأخر بدور زميلهما محمود مختار فيبعث كل منهما الأخر لمدة عام دراسي إلى إيطاليا، ثم يتبادلان المواقع في العام الدراسي التالي. وعرضا مشروعهما على رؤسائهما في المدرستين ليتولى كل منهما عمل الأخر فترة غيابه، ويرسل إليه راتبه لينفق منه في غربته .. ولقي المشروع ترحيبا من ناظري المدرسيتين: " الإعدادية" "والأقباط الكبرى"، وأطلق على هذا التعاون اسم "البعثة التبادلية"، وسافر يوسف كامل عام 1922، ولحق به زميله في الإجازة الصيفية ليحل كل منهما مكان الآخر في العام الدراسي التالي. وترتب على الإعلام الواسع عن هذه "البعثة التبادلية " أن أعتمد البرلمان المصري - عند انعقاد لأول مرة عام 1924 - وأقر ميزانية للبعثات الفنية في إيطاليا وفرنسا تبلغ 12 ألف جنيه، فسافر يوسف كامل إلى روما في أول بعثات حكومية لدراسة الفن عام 1924 حيث حصل على دبلوم القسم العالي بأكاديمية الفنون الجميلة، ثم دبلوم التخصص في الرسم بالألوان (أي التصوير الزيتي) من القسم الجديد الذي أنشأه موسولينى - حاكم إيطاليا في ذلك الوقت - بالأكاديمية العريقة، وعاد فناننا إلى مصر عام 1929. خلال دراسته في روما عمل مع أستاذه "انطونيو كالكانيادور" في تنفيذ الرسوم الجدارية والتصميمات الديكورية (أي الزخرفية) الخاصة بمبنى وزارة الحربية الإيطالية عام 1928. بعد عودته من البعثة عمل بالتدريس في "مدرسة الفنون الجميلة العليا "، ثم تولى رئاسة قسم التصوير بها (أي الرسم بالألوان) عام 1937..ثم انتقل عام 1949 ليعمل مديراً" لمتحف الفن الحديث" بالقاهرة لمدة عام واحد عاد بعده ليتولى منصب"عميد المدرسة العليا للفنون الجميلة"، وتغير اسمها في عهده إلى "الكلية الملكية للفنون الجميلة" وفتحت أبوابها لقبول الطالبات لأول مرة في عهده، وكان وزير المعارف وقتها هو عميد الأدب العربي الدكتور "طه حسين باشا". وقد أحيل للتقاعد عام 1953 عن 62 عاما، فتفرغ تماما للرسم الملون بمرسمه بضاحية "المرج". وقد تولى يوسف كامل رئاسة لجنة " الفنون التشكيلية" بالمجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية، بعد وفاة الفنان "محمود سعيد" أول رئيس لهذه اللجنة، وانضم لعضوية المجلس الأعلى الذي كان يضم رؤساء اللجان. ومعروف أن الفنان يوسف كامل كان غزير الإنتاج وله أكثر من ألفي لوحة، شارك بنماذج منها في المعارض المحلية والخارجية، كما مثل مصر في عدة معارض دولية..وقد حصل على جائرة الدولة التقديرية في الفنون عام 1960 مع وسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى. وتوجد نماذج من لوحاته بالعديد من المتاحف المصرية، وفي متحف الفن الحديث في روما، وتنتشر بقية لوحاته في المجموعات الخاصة بمصر وخارجها. وتستعد وزارة الثقافة حاليا للاحتفال بمرور ربع قرن على رحيله عام 1996 بإطلاق اسمه كل قاعة جديدة للمعارض الفنية في مركز الجزيرة للفنون الذي كان يضم متحف "محمد محمود خليل وحرمه " للفن الأوربي الحديث. وعند دراسة لوحات هذا الفنان الرائد نلاحظ أنها تثير إعجابنا وقادرة على إمتاعنا حتى اليوم، وهي في نفس الوقت تذكرنا بالظروف القاسية التي نشأ فيها جيل الرواد، والطريق الصعب الذي قطعوه حتى حققوا أول اعتراف بمكانة الفن ودوره في المجتمع الحديث. قبل هذا الجيل لم نعرف من الرسامين غير "المستشرقين" ، بأساليبهم البسيطة ورؤيتهم لبلادنا "من الخارج" بنظرة "سياحية سطحية"، ويوسف كامل نفسه بدأ بدراسة الرسم على يدي أحد هؤلاء المستشرقين هو الفنان " باولو فورتشلا" ، الذي كان يجمع في رسمه بين أسلوبين، أحدهما أكاديمي يقدس قواعد " الكلاسيكية العائدة "، والثاني يتبع لمسات " الفن التأثري "، وهو المذهب الذي ثار على قواعد الكلاسيكية العائدة واستخدم ببراعة وذكاء المكتشفات العلمية في مجال تحليل الضوء عقب اختراع التصوير الضوئي..وبرغم التناقض المعروف بين الكلاسيكي والتأثري، فقد نجح باولو فورتشلا كمدرس للرسم في تحقيق الأساس الضروري اللازم لخبرة الفنان خلال ممارسة الأسلوب الكلاسيكي ثم التحرر من هذا الأسلوب في المذهب التأثري، لقد وضع تلاميذه على بداية الطريق لرسم ما يريدون بكفاءة تامة دون أن تنقصهم الخبرة أو المهارة أو المعرفة.

من أقطاب حركة التنوير

بعد تخرجه من " مدرسة الفنون الجميلة المصرية" عمل مدرسا "بالمدرسة الإعدادية" الثانوية، وكان يعمل بهذه المدرسة مجموعة من الأدباء والمفكرين، جمعتهم وظائف التدريس بها في مطلع حياتهم، كان من بينهم "العقاد" و "المازني" و "وفريد أبو حديد" و " أحمد حسن الزيات" و "محمد صادق عنبر" و " عبدالوهاب خلاف"..في مبنى هذه المدرسة تأسست" لجنة التأليف والترجمة والنشر"، بروادها الذين حملوا رسالة المعرفة ، كما تكونت بها عدة تجمعات أسهمت في الحركة الوطنية وفي الحياة الثقافية، وقد كانت المدرسة نفسها نتاج الوعي القومي بضرورة. إقامة معاهد العلم بعيدا عن إشراف المحتلين وتوجيهات المستعمرين، فقد دعا الشيخ عبدالعزيز جاويش في إنشائها من حصيلة التبرع بجلود الأضحيات.

هذه الصحبة من المفكرين والأدباء، وهذا التوجه الوطني الثوري كان له أثره في فن يوسف كامل، وهو يتمثل في الصدق والإخلاص لإبداعه الذي انصرف له كل الوقت حتى كان التدريس هو مهنته الثانية بعد الرسم وليس العكس. وكانت رعاية الفن تتحقق من خلال الأثرياء للمثقفين وليس من خلال رعاية الدولة، كما حدث في النصف الثاني من القرن العشرين، وكان أكبر المشجعين للفنانين الشباب هو المهندس "الفريد فيس" المقاول البلجيكي الذي أقام بالقاهرة ليمد خطوط الترام بين أحيائها، والسيدة الجليلة هدى هانم شعراوي، حرم "على شعراوي باشا" أحد رفاق سعد زغلول في الوفد الثلاثي الذي قدم مطالب " الأمة " إلى المعتمد البريطاني، وبعدها تفجرت ثورة 1919. وإذا لاحظنا أن مصر لم تعرف من الفنون غير جانبها التطبيقي النفعي الذي ساده النقش والرقش والزخرف الهندسي لعدة قرون، فلم يكن اشتياق هذا الشعب - كالاوربين - إلى أشكال من الرسم المجرد بعد أن سئم تمجيد الجسم الإنساني والاتجاه إلى مطابقة الواقع، وهو ما حدث في أوربا منذ مطلع القرن العشرين، ولكن على العكس كان الاشتياق في عالمنا العربي إلي الأشكال الإنسانية والرسوم المطابقة للواقع والموضوعات التي تتجاوب مع اهتمامات الناس وطموحهم إلى النهضة والتحرر والاستقلال..أن مرحلة ثورة 1919 في مصر تشبه من بعض الوجوه المرحلة المصاحبة للثورة الفرنسية قبل بداية القرن التاسع عشر. لهذا كان الاحتياج "الشكلي" في كلتا الثورتين متقاربا في حد ما..هذا بالرغم من الفارق الزمني الذي يبلغ قرنا وربع القرن، وبرغم الفارق في الظروف والملابسات التي أدت إلى كل من الثورتين وصاحبت مسرتهما. وبرغم أن الفنان كان يعلن "ولدت بنزعة تأثرية .. وسأظل كذلك.." إلا أن الناقد ومؤرخ الفنون السوري" عفيف بهنسي "يرفض تصنيف الفنان لنفسه ويطرح السؤال.."هل كان يوسف كامل فعلا فنانا تأثريا؟ الحق أن هذا الاتجاه الذي عرفناه جيدا عند "مونيه" وأصدقائه في مواضيعهم الطبيعية أو عند "رينوار" في مواضيعه الشخصية، لا نراه واضحا عند يوسف كامل، وأنها نحن نرى أسلوبا واقعيا متينا، يخضع لجميع القواعد الأكاديمية، ولكن لا بأس من القول، أن ألوان يوسف كامل تبهرنا بنورها الشديد الذي يعتمد أحيانا على الألوان القزحية السبعة وعلاقتها ببعضها.

لقد اهتم يوسف كامل بتصوير القرية والحارات والبيئة المصرية، ولكنه بقي ضمن إطار التصوير الرصين المتعقل. (عفيف بهنسي، الفن الحديث في البلاد العربية، صفحة 50).

هذه رؤية ناقد عربي يطل على إبداع الفنانين العرب بنظرة شاملة، ويدعم هذا الرأي عدم مطابقة إبداع يوسف كامل لمواصفات الفن التأثري في جانبين من أهم الجوانب التي قامت عليها الحركة التأثرية في فرنسا، وهما: استخدام يوسف كامل للون الأسود في لوحاته وهو اللون الذي استبعده التأثريون من المجموعة اللونية تماما، ثم الإضاءة الذاتية للعناصر المرسومة عند يوسف كامل، بينما التأثريون يلتزمون بالمصدر الضوئي الخارجي الواحد الذي تسقط أشعته على العناصر التي يرسمونها في لوحاتهم فيضيء، أحد جوانبها.

لم يهتم يوسف كامل بتحليل الضوء إلى ألوانه القزحية، ولا الشكل الناجم عن تأثير أشعة الشمس في الحقول والأحياء الشعبية. إنما أولى اهتمامه للتعبير الإنساني عن الروح المحلية والمميزات الجمالية المصرية. ويتميز أسلوب الفنان بصفات إبداعية غير مسبوقة، فهي نسيج متفرد، تنبع مفرداته من تربة بلاده، ولوحاته تعكس الإحساس بالألفة والاطمئنان الذي تشيعه بيننا الطبيعة الريفية، عند سماعنا الأغاني الشعبية كل الآلات الموسيقية البسيطة كالأرغول والربابة، فهي تترك في نفوسنا مزيجا من الإحساس بالرضا والأسى والاطمئنان..وهذا الطابع الذي تتخذه رسوم وألوان الفنان الرائد لا نجد مثيله بين فنون من سبقوه، فمذاق لوحاته يرجع إلى طبيعة البيئة الريفية والشعبية حيث أشعة الشمس قوية ساطعة معظم شهور السنة، وهي تمحو الكثير من التفاصيل وتؤكد التباين بين الظل والنور..هذه تؤكد الشكل العام وتقلل من وضوح التفاصيل، وتفرض على الفنان نظر شاملة للمناظر والموضوعات، وكان يوسف كامل يسجل هذا الطابع المصري الخاص بلمسات تبعده عن المفاهيم والقواعد الثابتة للمذهب التأثري وتدخله في نطاق "التعبيرية" وهي نقيض التأثرية باعتبار أن التأثرية تسجل على اللوحة ما يراه الفنان خارجه بينما التعبيرية تسجل على اللوحة مشاعر الفنان تجاه ما يراه. بقيت ملاحظة مهمة حول "الخصوبة" في الاتجاهات الفنية، فابتداع الجديد في الفنون الجميلة لا يمثل نقطة تحول أو منعطفا يستحق الالتفات إليه إلا إذا كان له عشاق ومريدين وأتباع.. فلذا اقتصر الابتداع على صاحب البدعة ولم يستمر تأثيرها إلا لمرحلة قصيرة تنتهي بانتهاء وزوال تأثير المبتدع، يصبح هذا التجديد لا قيمة له.. ولكن عندما تتبنى أجيال متتالية اتجاهه الفني، عندئذ يستحق عن جدارة لقب "الرائد".. وأسلوب الفنان يوسف كامل الذي يمجد الطبيعة الريفية ويسجل ملامحها ويبهج المشاهدين بالبراعة والرقة والشاعرية وحبكة التكوين، هو أسلوب خصب.. وأن تأثرية يوسف كامل، الذي ينتمي إلى الجيل الأول من الفنانين، قد سار على دربها "حسني اللبناني" و"كامل مصطفى" و "صبري راغب" من الجيل الثالث ثم " شعبان مشعل" و "حسنى عبدالفتاح " وآخرون من الجيل الخامس "وإبراهيم الدسوقي " من جيل الشباب...ومن ينجب لا يموت.

 

صبحي الشاروني

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




جمع البلح بالمرح





حمل البرسيم





الولد الجالس





أطفال القرية





الديك والدجاج





بيت لبيب أفندي بدرب اللبانة بالقلعة