منمنمات تاريخية: المغول في الهند.. النصر أو الشهادة سـليمان مظهر

منمنمات تاريخية: المغول في الهند.. النصر أو الشهادة

هذه صفحة مطوية من صفحات التاريخ الإسلامي في الهند. فقد دخل في تفاصيل هذه المنمنمات التاريخية أحلام الفاتحين الأوائل وطموحات ملوك المغول وصراعات الأبناء والأحفاد الذي قاد في النهاية إلى ضياع إمبراطورية عظيمة عمرت وازدهرت على مدى قرون ثلاثة.

كان كل شيء يهتز تحت قدميه، ولم يعـد قادرا على الوقـوف بعد.. ولم يدر سر هذه الرعشة التي اكتنفتـه.. ولا سر تلك النكبة التي تحيط بـه من كل جانب. وكـانت كل خلجة في أعماقه تصرخ فيه: هل يمكن أن يحدث كـل ذلك حقـا؟! لماذا يضيع كل هذا الذي يبنيه؟ كيف يتحول كل شيء ليسير في غير الطريق الذي رسمه وحدده وبذل من أجل نجاحه كل دمه وأعصابه ونبض قلبه؟

وراح شريط طويل من الذكريات يمر بـرأسه كأنها حدثت كلها بالأمس. وتوالت الصور تستعرض كيف استطاع أن يسترد أرض آبائه وأجـداده في فرغانة بعـد معارك رهيبة داميـة، ثم كيف انطلق بقواته التي لا تتجاوز اثني عشر ألف جندي مسلم ليبدأ بهم وضع الأساس لإمبراطورية إسـلامية واسعـة في أرض الهند، بعد أن هزم جيش حاكـم سلطنة دلهي الذي كان يصل فى مائة ألف من الجنود وألـف من الفيلة، واستقر على حكم السلطنـة في عـاصمتها "أجرا". ومـرت برأس السلطان "ظاهر الدين بابر" صور عديدة للمؤامرات التي راحت تنتشر في كل مكـان ضده، يغـذيها الأمراء الهندوكيـون الذين تحالفوا لمناهضـة الحكم الإسلامي في الهند.. وكيف استطاع أن يضرب كل مؤامرة على حدة ويحطمها، حتى استقر له الحكم آخر الأمر، ليبدأ تدبير أمور الدولة الإسلامية الناشئة.

ومع ذلك.. فها هو الكرسي يهتز من تحته فجأة، وها هو يطل أمامـه ومن حوله ليشهد كل ذلك التجمع الجديد لأعدائه.. وها هو ينادي رجاله أن يستعدوا ويتـآزروا.. فإذا بهم يهزون أكتافهم وكأنهم لا يسمعون، بينما أطراف الدولة الناشئة تتساقط طرفا بعد الآخر في أيدي الأعداء.

إنها النكبة في الحقيقة..

ولكن.. كيف حـدثت.. وما هو السر وراء هذا الانهيار المفاجئ الذي راح يحيط به؟! وعاد يتأمل كل الأمـور حوله.. ويفتح عينيه أكثر على كل هؤلاء الذين كانوا يحيطون به والذين وضع بين أيديهم قيادة جيشه.

ما هذا الذي يحدث؟ وكيف أمكن أن يقع ذلك؟! إن الجميع مشغولون بالثروات والأمـوال والغنائم والأسلاب التي وقعت بين أيديهم من كنوز الهند.. وراحوا يغترفونها من قصور الأمراء التي استولوا عليها، ليغدقوا بها على النساء والسراري اللاتي عرفن كيف يغرقن الرجال في كؤوس الخمر، ليسلبهم أقصى قدر ممكن من الأموال والمجوهرات، وينزعن منهم الرغبة في القتال والقدرة على خوض الحرب، ويقتلن فيهم كل ما كان يملأ أعماقهم من الجرأة والإقدام والشجاعة، ويغرسن في الوقت نفسه حمى الخوف في النفوس من قتال الهندوس ومنازلتهم في ميدان المعركة. كل ذلك كان يحدث بينما أمراء الهندوس ورجـالهم يتجمعون ويستردون قواهم ويتقـدمـون فى العاصمة، بعد أن انتهزوا فرصة انشغال رجال السلطان عن الحرب بما وقعوا فيه واستمرأوا دعته ورفاهيته.

النصر أو الشهادة

كل ذلك فتح السلطان عليه عينيه فجأة.. فنهض من فوق أريكته وهو يرى الخطر الداهم حوله. وانطلق إلى المعسكـر في "سكـرى" ليطلق من هنـاك صرخة الحرب.. كان مشهد المعسكـر غريبا حقا.. الجنـود يستلقون في راحة ودعة.. والقادة يجلسـون حول دنان الخمر والنبيـذ وأمـامهم أدوات الشراب كلهـا من فضـة وذهب..

حاول السلطان أن يهدئ من نفسه ليسيطر عليها. وتوسط قادته بحث معهم أمر المعركة. ثم نهض وسطهم فجأة، وامتدت ذراعه تلقي بكل كؤوس الخمر وتريق الدنان أمامه.. ثم بدأ يتكلم في أناة:

"أيها الـرجـال.. احمدوا توابـا يحب التـوابين والمتطهـرين.. واشكـروا ديـانـا يهدي المذنبين والمستغفرين.. ان طبيعة الإنسان على مقتضى الفطرة تميل إلى لذات النفس البشرية. فهي ليست بمنجاة عن ارتكاب الآثام وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي إن ربي غفور رحيم. أيها الرجال ها هي التوبة عن الإثم والخمر قد آن أوانها في هذه الأوقات المباركـة التي نعد فيها للجهاد في سبيل الله.. وقد اجتمعتم يا جند الإسلام لصد غارات الكفار.. فلتكن توبة، وليكن جهادا في سبيل الله.. ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله. فاقتلعنا أسباب المعصية بقرع الأبواب للإنابة. وافتتحنا هذا الجهاد بالجهاد الأكبر وهو مجاهدة النفس ربنـا ظلمنـا أنفسنا، إني تبت إليك وإني من المسلمين. فأعلنا جميعا توبتنا عن الشراب وأمرنا بأدواته من كؤوس الفضة والذهب - زينة مجلس الضلالـة - لتلقى إلى الفقراء والمساكين والمعوزين صدقة. فنرجو الله أن يكون لنا من ثواب هذه الأعمال نصيب، وأن تكـون لنا فألا طيبا يتزايد بسعادة الفتح والنصر.. باسم الله.. وعلى بركة القرآن.

وأحس الـرجال بأنهم يتـوبون، وهم يشهـدون سلطانهم في ذلك المكان. ونهض الجميـع وقد اشتدت منهم الأعصاب، وقويت العزائم واتسعت العيون. وامتدت الأيدي كلها تقذف بالكؤوس وتلقي بدنان الخمر لتريقها على التراب.. وارتفع من بينهم صوت قوى يهتف: "لنقسم أيها السلطان بالله وكتـابه.. ألا نبرح مكاننا حتى ننتصر. أو نهلك جميعا".

وغلت الدماء ولعب الحماس بالنفوس.. وامتدت الأيدي كلها تبحث عن السلاح، وومضت سيوف فرسان الإسلام بلمعات أنوار الفتح والظفر.. وهي ترتفع لتخوض أضخم معركة جرت في تاريخ الهند.

وانتصر المسلمون....

وقامت الإمبراطورية الإسلامية للمغول في الهند عام 1504م.

خليط من الدماء

عاد بابر وهو على عرش الإمبراطورية بذاكرته إلى أيام كان لا يزال صغيرا بعد في الثانية عشرة من العمر. كان يدرك وقتها أن في عروقه مزيجا من دماء الأتراك ودماء المغـول، فأبوه "عمر شيخ ميرزا" حفيد تيمور لنك التركي، وأمه هي ابنة يونس خان مغولستان وحفيد ثاني أبناء جنكيز خان: وهو يذكر أن أباه عمر صاحب فرغانة - تلك الأرض الصغيرة عند نهر سيحرن - قد سقط فجأة من أعلى حصن له حيث كان يتفقد حمائم له هناك، تاركا ولده الصغير الذي خلفه على ملك فرغـانة نهبا لكل العداوات التي قامت بين الأب وأخوته.

ولعل الأقدار أسعفته بغرق كثير من دواب عمه صاحب سمرقند، بانهيار أحد الجسور التي كان يمر به جيشه في زحفه على أرض فرغانة، كما تفشى الوباء في خيوله، مما جعله يقنع بالهدنة مع ابن أخيه ويعود إلى دياره. ولعبت الأقدار أيضا دورها لأبعاد أكبر خطر كان يتهدده بموت عمه صاحب طشقند الذي كان طامعا هو الآخر في ملك الفتى الصغير. وفي أثر ذلك استطاع بابر، وقد اشتد به العمر قليلا، استرداد جانب كبير من أملاك أبيه الضائعة حول فرغانة. كـما ضم إليه بعد ذلك سمرقند حاضرة جده تيمور لنك. إلا أن الأيام لم تتح له الحفاظ على ملكـه حتى اضطـر للخـروج من أرضه للقضاء على ما أثاره أخوه ورجاله من الفتن بفرغانة، وتمهد الطريق لصاحب بخارى الذي انتهز الفرصة وزحف فى سمرقند فهزم حاميتهـا واستولى عليـهـا .

وتمكن اليأس من الفتى عندما وقع من جـديد بين براثن الطامعين الذين أثاروا عليه أغلب جنده، وانفض عنه ذوو قرباه حيث أعرضوا عنـه. حين أستنجد بهم، واضطره الأمر بعد ذلك - وهو بعد في الثالثة والعشرين - أن يمضي مبتعدا عن بلاد ما وراء النهر كلها وما أصابه بها من متاعب وأهوال ومؤامرات، ليجد أمامه فرصة أخرى في أرض كـابل وغزنة البعيدة عن مواطن العراك ويسر اضطراب الأحوال بها بعد موت سلطانها لبابر أن يضع يده عليها دون إراقة دماء.

ويتواصل بابر مع ذكرياته حتى ولى وجهه صوب البنجاب والهنـدستان التي سار إليها أجـداده المسلمون من قبل والتي غدت مسرحا للاضطرابات والفرضى في ظل حكـومة ضعيفة. وأدرك أنها بثرواتها واتساع رقعتها هي أمله لتحقيق حلمه الكبير في إقامة دولة إسلامية كبيرة في أرض الهند.. وقد استطاع بالفعل على مدى السنين أن يحقق ذلك مع العديد من الحروب التي خاضها دفاعا عن الإسلام، نشرا لمبادئه ضد الهندوس الذين ناوأوه وهي حروب كان أبرزها وأخطرها معركة "خنوة" تلك المعركة الرهيبة التي تمكن من الانتصار فيها وتوالى بعدها زحفه بفضل مجاهدة النفس وكرامة القسم الطاهر الذي أرعد فى السماء وردده جيشه الإسلامي من خلفه.. (النصر أو الشهادة بحق القرآن).

بدع ضد الإسلام

إذا كانت ذاكرة بابر قد توقفت مع الماضي عند ذلك الحد حين تحقق النصر الكبير للمسلمين ورفع رايـة الإسلام وتمكين مبـادئه في أرض الوثنية الهندية وإقامة إمبراطورية إسلامية واسعة.. إلا أن ذاكرته لم تكن تستطيـع أن تخترق حجب الغيب وتستشرف آفـاق المستقبل.

فقد أجـرى حفيده السلطان "أكبر" من البدع ما أساء والإسلام والمسلمين، برغم أنه كان في السنوات الأولى من حكمه يعتبر أعظم سلاطين المغول المسلمين في الهند، وخاصة بما شيد من معالم أثرية رائعة تكاد تكـون أبـرز ألوان العمارة الإسلامية في شبـه الجزيـرة الهندية.

كان الطابع الرئيسي للإمبراطور أكبر في كل تصرفاته هو الدمج والمزج في كل شيء حتى في الدين. فقد أراد أن يمزج بين عقائد الهندوس وعقائد المسلم في الديانة التي ركبها تركيبـا من عناصر اختار بعضها من هذه الديانة وبعضها الآخر من تلك.. وأعلن أنها هي "الدين الإلهي".

وكانت الصورة أكثر وضوحا حتى أقام في جانب من جوانب قصره بناء خليطا بين المعبدالهندوسي والمسجد الإسلامي سماه "العبادة خانة". هذه "العبادة خانة" جعلها أكبر لعبادته الجديدة التي أعلنها متحررة من كل مراسم الإسلام ومقتبسة من الأديان جميعها. ولعله أراد بذلك خلق دين يجمع عليه شعبه المتعدد الأديان كما جمعهم حكمه وسلطانه. وفي هذا الدين أنكـر الوحـي والجن والملائكة والحشر والنشر وأنكر المعجزات وحرم ذبح البقر، وأمر بإيقاد النار في حـرمه الخاص عله طريقة المجوس، وأن تعظم الشمس عند طلوعها، كما أمر بـالسجود للشمس والنار في كل سنـة. يوم "النيروز".

لكن كيف حدث كل هذا التحول في ذهن السلطان المسلم؟

الباحثون يرون أن السلطان أكبر الذي ولد عن أب سني المذهب وأم شيعيـة وتـزوج بعـدد من أميرات الهندوس، وكان أعز أصدقائه الشيخ سليم الذي كلن يراه وليـا من أولياء الله.. هذا السلطان تفتحت عيناه على كثير من المسـائل الفلسفية والأسـرار الصوفيـة أول الأمر.. ثم اندفع من خلال نزعته فى مزج نفسه بالهند وشعـوبها من مسلمين وهندوس بحثـا عن وحـدة لا تنقسم ولا تتجزأ ففتح بلاطه لشيـوخ العقائد من برهمية وبوذية وجينية وفيشية وزرادشتية ونصرانيـة ويهودية، ليعرضوا عليـه إصرار عقـائدهم لعله يصل إلى حقيقة الفروق بين كل منها. وكـان كل من أصحاب هذه العقـائد يتبـارى في إظهار نواحي الخير والمبادئ الإنسانية في عقيدته ليستميل السلطان وهو في المجلس الخاص وذلك عندما لمسوا تسامحه الديني المطلق.

عقيدة واحدة

وعندما اختلطت الأمور على السلطان وهو يحاول أن يبحث عن الحقيقة، أراد أن يستخلص كل ما أعجبه من كل عقيدة وهداه تفكـيره على هـذه الصورة فى أن يرى الديانات كلها وكـأنها رموز مختلفة تمثل الأسرار المحيطة بالعالم كله. وملأت رأسه فكـرة أن يذيب كل ذلك فى مذهب واحـد يقم على التوحيد، ولكنه في الوقت نفسه يجمع ما في العقائد من فضائل ويزيل ما بينها من فوارق ويدعم الأخوة الإنسانية. ورأى أن هنا المذهب الجديد يمكن أن يسهل له خلق تجانس تام في مجتمع بلاده التي تضم عشرات الديانات.

وقضت تعـاليم عقيـدة أكبر بأن يقـر المؤمن بها باستعدادهـ للتضحية بأملاكـه وشرفه وحياته وعقيدته في سبيل الأمام العادل.. وهو المهدي المنتظر الذي يراه المذهب الشيعي، وأن يمتنع عن تناول. اللحم في أيام محدودة، ولا يجالس الجزارين والصيـادين وغيرهم من قتلة الحيوان، ولا يحبس حيوانا أو طيرا عنده، ويتجنب أكل البصل والثـوم، ويبـذل الصـدقات للفقـراء والمعوزين.

وعندما أعلن أكبر تعاليم عقيدته كان من بينها منع عادة حرق المرأة مع جثمان زوجهـا، وإباحة الزواج للأرامل الهندوكيات وكن لا يتزوجن، وحض الناس على الاكتفاء بـزوجة واحدة والابتعـاد عن الزواج بالأقارب لما ينجم عن ذلك من ضعف النسل وفتور في الميل، ومنع زواج النساء المتقدمات فى السن بشبان يصغرونهن بكثير. وفرضت التعاليم عقوبات صارمة على مثيري الشغب والشجـار وعلى شـارب الخمر وبائعها ومشتريها وصانعها، ولم يسمح بها إلا للعلاج إذا كـان بترخيص من الطبيب بشرط أن يتـم ذلك في مكـان خـاص قرب القصر به سجل يثبـت به أسم المريض الذي يتعاطاها واسم جده وأبيه.

ولم يكتف أكبر في تعاليمه بذلك، بل أمر بجمع النسـاء اللاتي يشتغلن بـالبغاء ووضعهن في دار سماها (شيطانبور) أي "محلة الشيطان" وكـان يستدعي كل واحدة منهن يستوضحهـا عمن غواها ودفع بها فى طريق الشر والفساد لينتهي من ذلك إلى قتل كل من تثبت هذه التهمة عليه. ولم يكتف بذلك بل أنشأ دورا في مناطق كثير من البلاد تساق إليها كل زوجـة يثبت إدمانها على الخصام والشجار مع زوجها. ولعل كل ذلك كان بعـض ما أوحى به إليه الشيخ سليم بن بهاء الدين السيكروي. وكان السلطان يخلص الحب للشيخ وزاد اعتقاده فيه لما بشره بثلاثة بنين رزق بهم فعلا بعد أن كان محروما من الأبناء، وبلغ من تعلق السلطان بهذا الشيخ ان بعث بزوجته حين ظهـرت عليها بوادر الحمل فأقامت إلى جواره، حتى إذا وضعت حملها أطلق على المولود اسم الشيخ تبركا. وفي رحاب هذا الشيخ - الذي بنى له السلطان مدينة بالقرب من المكان الذي يقيم فيه تتوسطها مقبرة من الرخام تحيط بها ستائر موشاة بالمرمر- ولد أكثر أبناء السلطان.

هؤلاء الأبناء هم نفس الأبناء الذين أدت الصراعات والمؤامرات بينهم، والمذابح والخيانات بين أحفادهم ونسائهم، إلى انهيار وضياع إمبراطورية المغول الإسلامية في الهند، بعد أن عمرت حوالي ثلاثة قرون.

 

سـليمان مظهر

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




السلطان أكبر على مظهر الفيل خلال إحدى معاركه





الإمبراطور بابر يشرف على حدائقه