هوس السمنة: مرض نفسي جسدي ينتشر بين النساء خليل فاضل

هوس السمنة: مرض نفسي جسدي ينتشر بين النساء

مع نهاية السبعينيات توالت التقارير العلمية التي تشير بوضوح إلى اضطراب نفسي من أهم خصائصه نوبات من الشره والالتهام كميات لا محدودة من الطعام دون ضابط أو رابط أو حتى ادني مقاومة داخلية من المصاب.

هذا الهوس ينتشر في الغرب أكثر منه في دول العالم الأخرى، بالتحديد في أمريكا وأوربا. وتبلغ نسبة الإصابة به بين مجموع السكان حوالي 1- 2 في المائة، والملاحظ أن اضطرابات تناول الطعام وعلى رأسها الأنوراكسيا (فقدان الشهية العصبي)، والبوليميا (الشره العصبي)، أصبحت أكثر شيوعا خلال العقدين الأخيرين من الزمان آي منذ أواخر السبعينيات وحتى الآن، والمثير للاهتمام أن نسب الإصابة في ازدياد دائم على الرغم من محاولات العلاج والبحث المستمرة من قبل المهتمين والقائمين على التشخيص والعلاج فما السبب يا ترى؟ وما أسرار ذلك المرض النفسي الجسدي الغريب والمحير؟.

من خلال الحالة الواقعية التالية لفتاة في جنوب لندن، وقد عاودت كاتب هذه السطور، من الممكن تعرف جميع العوامل المحيطة باضطراب الشهية العصبي، أو (البوليميا).

مهووسة بالسمنة

دخلت الفتاة ذات الاثنين والعشرين ربيعا متمهلة في غرفة الفحص الطبي النفسي في صحبة إحدى طالبات كلية الطب، كان واضحا أنها نحيفة للغاية، بدت متوترة بعض الشيء، جلست على كرسي الطبيب النفسي واضعة معطفها على الأرض وفوقه حقيبة يدها، ابتسمت في ارتباك وأشارت إلى طالبة الطب، فأومأ الدكتور علامه البدء، فقالت الطالبة بسرعة:

- أنها تعاني من حالة "بوليميا" "BULIMIA "

ضحك الطبيب وعبث بقلمه في ورقة بيضاء أمامه متسائلا:

- أنا لا أفضل التشخيص منذ أول لحظة، أخبريني أولا مم تشكو مريضتنا.؟!

مالت الطالبة بجسمها قليلا إلى الأمام، مؤكدة كلامها، ضاغطة على مخارج الحروف.

- نعم هكذا قالت "كاثي"، لقد قالت بالحرف الواحد، نعم قالت أنا أعاني من مرض الشره العصبي " البوليميا نرفوزا".

سأل الدكتور كاثي:

- وكيف عرفت أنك تعانين من هذا المرضى تحديدا؟!

ردت "كاثي" في اقتضاب: لقد شاهدت برنامجا تلفزيونيا يصف حالتي تماما، كما قرأت في إحدى المجلات النسائية وصفا يكاد يطابق ما أمر به، كما أنني منذ حوالي ثلاث سنوات تعبت جدا، وذهبت مع والدي إلى طبيب نفسي في مدينة مانشستر لكنني لم أرتح للعلاج، هذا بجانب انتقالي إلى لندن.

قال الطبيب وهو يسجل ما قالته المريضة: أرجو ان تنسي لدقائق كل هذا، وأن تخبريني بشكل مبسط عما تعانين منه!

ردت كاثي وهي تقضم أظفارها. وقد احمر وجهها قليلا:

- أنا مهووسة بالسمنة... أقصد مهووسة بالنحافة...

لا أعرف، لا أدري، كل همي هو الحفاظ على رشاقتي لكنني لا أتمكن من أن آكل بشكل منتظم، وفي المساء أتناول وجبة ضخمة بكل معنى الكلمة، تحوي كمية لا بأس بها من الآيس كريم والمياه الغازية، ثم أقم لأتقيأ لإحساسي الشديد بالذنب، لأني قد أكلت كثيرا.

هنا تدخلت طالبة الطب وسألتها:

- كيف تتقيئين؟!

قالت كاثي وهي تنظر إلى الأرض في خجل:

- أبدا.. أقئ نفسي بالضغط على بطني وأحيانا أضع إصبعي في حلقي..

عقب الطبيب:

- ولا تتمكنين من ضبط نفسك في حالة الشره المفاجئ فيمتلأ بطنك ثم تتقيئين؟

همهمت كاثي مؤكدة:

- نعم.. نعم..

قالت كاثي كذلك في معرض حديثها، إنها تعاني من حالات اكتئاب وتعكر في المزاج، وإنها غير مسترخية بشكل كامل، وغير راضية تماما عن وظيفتها كسكرتيرة في وزارة الخارجية.

تاريخ الحالة

طمأنها الطبيب، وصف لها عقارا مطمئنا له خاصية تثبيط الشهية للطعم قليلا، وطلب منها أن تحاول كتابة يومياتها وتاريخ حياتها السابق ما أمكنها ذلك، مركزة على أهم الأحداث الماضية وأيضا ما تشعر به الآن، على أن تحضر معها ما ستكتبه في الجلسة القادمة.

كتبت كاثي طويلا، قالت إنها الصغرى من ثلاثة أطفال ودائما كانت الطفلة المدللة، وتعتقد أنها مازالت كذلك حتى الآن. قالت إن طفولتها كانت شبه عادية، عدا التزمت الشديد الذي كان عليه والداها، والذي خلق جوا مشحونا متوترا في محيط الأسرة، مما أثر في علاقات أفراد الأسرة بعضهم البعض. قالت: لم يكن هناك أي سبب معقول لغضب والدي المفاجئ وأحيانا المستمر! الذي كانت نتيجته في معظم الأحيان جلدنا بحزامه، "إني أتذكر في أحد الأيام، كان يوم الأحد مساء، طلب أبي من أمي بعض البسكويت، واكتشف ان هناك قطعتين ناقصتين من علبة البسكويت الخاصة به. فجاء إلينا في الدور العلوي وسال عن الذي سرقهما، ولما أنكرنا كلنا كان يصر على ان أحدنا قد سرق البسكويت بالفعل، وكان يقرر السؤال كل عشر دقائق تقريبا لمدة ساعة كاملة يضربنا فيها، وفي كل مرة تزداد ضرباته قسوة، وبعد كل هذا اكتشف أنه هو الذي أكلهما، عندئذ أرسلنا إلى أسرتنا لكي ننام دون اعتذار منه"!!! مسحت عينها من دمعات فاضت بها مقلتاها، ثم استطردت: على الرغم من ان طفولتي كانت معبأة بمثل تلك الأحداث إلا أنني لم أطلب شيئا قط إلا ونلته، وكنا نأكل بما فيه الكفاية ونرتدي ملابس معقولة، وأحيانا نذهب في رحلات إلى خارج بريطانيا. لما وصلت في سن الحادية عشرة انفصل والداي، كان واضحا أنهما منذ البداية غير سعيدين معا، كنت أنا وأختي نصلي دائما تضرعا للرب ألا يتطلقا، هذا على الرغم من أننا كنا على ثقة في أعماقنا أن مثل هذا الطلاق، حتما سيحدث، ولما حدث أثر في حياتنا سلبيا، كما تعد الأمور على ما يرام.

أومأت في حزن شفيف ممتلئ بالمرارة، وبانت عليها في حلقها غصة آلمتها ووترتها إلى حد بعيد، استمرت في حديثها قائلة:

- بقينا مع أمي نرى أبانا كل أسبوع مرة، وكانت أمي تحاول البحث عن شبابها فيمن يستحسنها، أو يرغب فيها من الرجال. ولما كبر أخي قرر أبي الاستغناء عن لعب دوره، تاركا ذلك إلى أخي الأكبر الذي كان أكثر قسوة وعدم فهم من أبي، فمارس كل أنواع الضغوط غير المفهومة علينا وبشراسة. ومن ثم تفككت عرانا وانحلت روابطنا وتهنا، ولما بلغت سن الثالثة عشرة بدأت أخرج بكثافة مع أصحابي إلى كل مكان دون قيد. ولما بلغت الخامسة عشرة أحسست فعلا بالتعاسة، أدركت أنني أسير في الطريق الخطأ، وأن أهدافي في الحياة ليست واضحة، بمعنى أنني سرت على غير هدى، بعدئذ تزوج أبي من امرأة أخرى غير أمي، وأوضح لي أنه يرحب بي في أي وقت أقرر الإقامة معه، وكان هذا التوضيح في حد فاته مريحا لي جدا ومبعثا للإحساس بالأمان، وبدأت أمي تطردنا واحدا إثر الآخر من البيت، وفي سن السادسة عشرة تركت البيت تماما لأعيش بمفردي، البداية كانت صعبة لكنني نجحت في دراستي وحصلت على شهادتي بين سن السادسة عشر والثامنة عشر، عشت في أماكن مختلفة، بمفردي، ومع أبي ، ومع أمي، ومع أختي، وأحيانا مع أصدقاء، لكنني دائما كنت متوترة وغير سعيدة.

الإحساس بعدم الأمان

سأل الطبيب النفسي كاثي:

- أعتقد أنك تدركين الآن الأسباب التي أدت إلى مرضك ؟!

ردت في هدوء محسوب:

هل تقصد أن كل تلك الظروف الاجتماعية هي السبب؟!

- لا .. ليست وحدها، لأن طبيعة مرضك تستوجب وجود أسباب اجتماعية كالتي ذكريتها، وهي التي ولدت إحساسا عاما بعدم الأمان ظهرت صورته جلية في هوس السمنة أو النحافة ومحاولة إغراق أحاسيس الألم والحسرة بالطعام الذي ما يلبث ويقذف خارجا في غضب، طبعا هناك عوامل بيولوجية، بمعني استعدادك الجسماني، لأن كلا منا فيه نقطة ضعف ككعب أخيل تصيبها سهام الضغوط الحياتية المختلفة، فلماذا كاثي أصابتها "البوليميا" وفلان يصيبه ألم الظهر وآخر يعاني من القولان العصبي، وثالث من اضطراب القلب العصبي وهكذا.....، بمعني أن لكل منا عضوا ضعيفا يصطاده الاضطراب.

العامل الأخير في المسببات هو العامل النفسي البحت، الذي كان واضحا في حالتك وهو الإحساس بعدم الأمان، انخفاض الاعتبار الذاتي، اهتزاز صورة الإنسان لدى نفسه، عدم الثقة في قدراته وإمكاناته.

قرر الطبيب أن يضيف إلى علاجه الكيميائي علاجا آخر يعتمد على تعليم المريضة كيفية الاسترخاء بإغماض عينيها والتنفس في بطء وهدوء لمدة خمس عشرة دقيقة يوميا مع ترديد بعض الأفكار الإيجابية التي ترمم الأنا وتقوي الذات، وكانت كاثي مستجيبة وقادرة على تنفيذ التعليمات بدقة والاستفادة منها في حد بعيد.

تقدمت حالة كاثي جدا، وبدأت تتحكم تدريجيا في أكلها ومن ثم في حالة القيء التي كانت تصيبها، بدأ تعكر مزاجها يخف تدريجيا، وهنا سألت طالبة الطب الدكتور النفسي:

- إذا سئلنا في الامتحان ما "البوليميا نرفوزا" ماذا نقول تحديدا؟!

- إنها عدة أعراض تتميز بنوبات متكررة من الإفراط الزائد على الحد بمسألة التحكم في وزن الجسم، مما يؤدي بالمريضة في اللجوء إلى طرق تقلل من زيادة الوزن.

- لكن ما الفرق بين "البوليميا" و "الأنوراكسيا" أو " فقدان الشهية العصبي"؟

- الأنوراكسيا قريبة في أعراضها جدا من البوليميا لكنها تحدث في سن صغيرة نسبيا عن البوليميا، هذا بجانب أنها ليست فيها مسألة الشره الشديد في تناول الطعام.

سألت الطالبة في اهتمام مقرون بخوف غريب من المستقبل، وكأن شيئا ما توحد مع تاريخ كاثي المرضي:

- ترى هل يمكن أن يؤثر التقيؤ المستمر في حالة المريضة الصحية؟!

- نعم، بالطبع فهو يخلق اضطراباً في كيمياء الجسم، ويؤدي إلى مضاعفات جسدية مثل نوبات الصرع، والتشنجات، واضطرابات عضلة القلب، وضعف عضلات الجسم عامة.

عاودت الطالبة السؤال:

تُرى ما أهم عوامل التشخيص النهائي؟!

أولا: أن يكون الانشغال بمسألة تناول الطعام دائما ومستمرا، بجانب اشتهاء الطعام بشكل لا يقاوم مما يدافع بالمريضة إلى نوبان من الإفراط الشديد في تناول كميات كبيرة جدا من الطعام في فترة قصيرة نسبيا من الزمن.

ثانيا: تحاول المريضة مقاومة زيادة الوزن بإحداث التقيؤ لنفسها أو إساءة استخدام الملينات والمسهلات، أو الصيام عن الطعام بشكل غير منتظم، أو استخدام أدوية تغلق الشهية أو عقاقير تدر البول، والغريب أن مرضي السكر حينما يصابون بالبوليميا يهملون في تناول علاج الأنسولين!!

ثالثا: أن الأسباب المرضية النفسية تكاد تنحصر في خوف ورعب شديدين من السمنة، ووضع ووزن غير لائقين وغير طبيعيين كهدف تسعى المريضة للوصول إليه.

شكرت الطالبة الطبيب وانصرفت.

كانت الطالبة علي قدر من النحافة يدعوها لتتأمل سلوكها في تناول الطعام، لكن معرفتها العلمية قد تحميها من الوقوع في شرك تحول السلوك " العادي غير المرضي" إلى المرض.س

 

خليل فاضل

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات