عقلنة اللا معقول: العروبة الصعبة والاستجابة السياسية
عقلنة اللا معقول: العروبة الصعبة والاستجابة السياسية
حديث الشهر هل أصبح الغائب، وغير الملاحظ في تفكير العرب السياسي، هو الوسطية وقبول الحوار وعدم احتكار الحقيقة، بعد أن أصبح التطرق إليها مثيرًا للظنون في الإدراك العربي العام؟ لولا معرفتي اليقينية بعشق الثقافة العربية للتضخيم والمبالغة لقلت إن مشروع الصديق والمفكر محمد جابر الأنصاري في كتبه الثلاثة التي صدرت في السنوات الأخيرة, هو مشروع فكري جديد كل الجدة في ثقافتنا العربية المعاصرة, هذه الكتب التي صدرت على التوالي عناوينها كالتالي: (تكوين العرب السياسي ومغزى الدولة القطرية) و(التأزم السياسي عند العرب وموقف الإسلام) والكتاب الأخير (العرب والسياسة أين الخلل?), المشروع البحثي هذا هو سلسلة متصلة الحلقات وجديد من حيث وضعه في سياق بحثي متكامل وشجاع أيضا, ولكن التفكير فيه من حيث المبدأ قد تناوله بعض المفكرين ولكن ليس بهذا الإسهاب والتفصيل, واستجابوا لتحديات فكرته بحثا عن مخرج فكري لما نعانيه كعرب من تخبط في الممارسات, وكانت الاستجابة جزئية بشذرات من الكتابات هنا أو هناك, ولكن الأنصاري تفرغ له كمشروع بحثي متكامل ولكنه يحتاج أيضا, كما قال المؤلف نفسه, إلى مساهمات عديدة ونقاش مستفيض لدعم أفكاره الرئيسية وتنقية بعضها أو نقدها. الأنصاري في كتابه الأخير, والذي أنا هنا بصدده, يقدم لنا ما حاول تقديمه كبار المفكرين في ثقافتنا أو ثقافات أخرى, وهو الرأي الأخير أو الخلاصة الشاملة لأزمة العرب السياسية, بعد تقديم تفاصيل تاريخية في كتابيه السابقين, إذ يقول (إن غاية ما أطمح إليه هو تعميق الاهتمام واستمرار النقاش حول هذه المسألة (الممارسة السياسية العربية) أملا في تضافر العقول العربية, والوعي العربي الإسلامي المتجدد لتحقيق الاختراق المعرفي والفكري المسدود لهذا الجدار الذي بقي شبه مسدود في أفق الثقافة السياسية العربية), الكاتب هنا يبحث عن الخاص في فهمنا وتحليلنا للممارسة السياسية العربية, فعلى الرغم من فيض البحوث العربية السياسية التي لم تقصر في دراسة قوانين السياسة وظواهرها ومؤسساتها, فإنها في غمرة تركيزها على (العام) تجاوزت (الخاص), هذا التجاوز على الخاص يسميه المؤلف البحث عن (الحقيقة الغائبة) في الفكر السياسي والاجتماعي العربي. الدافع للبحث عن الحقيقة الغائبة هو هذا التدني المشاهد في مستوى الأداء السياسي العربي بصرف النظر عن الأيديولوجية التي يرتقيها في طريقه إلى الغلبة والسلطة السياسية. هذا المستوى المتدني, الذي لا يفسره الجاهز والمتوافر من أدوات التحليل المستعارة من الغرب, يحتاج إلى أن نعمل فيه الفكر الحر, وان نستنبط أسبابه الحقيقية من خلال دراسة طبيعة مجتمعنا العربي, وصولا إلى أدوات تحليل ملائمة تفسر الواقع بطريقة منطقية وعقلانية, لأن (عدم القدرة على العمل السياسي بروح العطاء والأخذ بين الأطراف المختلفة في البلد الواحد, وبين العرب كدول, يمثل أخطر جوانب هذا القصور, ويفسر المجابهات الدموية في أكثر من بلد عربي.. حيث يندر أن تجد مشروعا سياسيا عربيا في البلد الواحد, أو بين البلدان العربية, تمت إدارته عن طريق التقاسم المشترك والتشارك في صيغة مرنة تقوم على التبادل الذكي للمصالح, وأسلوب الحوار والتفاوض) هذا ما يؤرق مؤلفنا, وربما يؤرقنا جميعا. ويلاحظ المؤلف بعمق وروية أن (العمل السياسي العربي في معظمه لا يتلخص في الغالب إلا في (المعارك) و(المظاهرات) و(حركات الاحتجاج) السياسية الصاخبة, فهذه حالات استثنائية لا تحتاج إليها المجتمعات إلا في أوقات التأزم, أما محك العمل السياسي فيتمثل في الاقتدار على تسيير الادارة اليومية للحياة العامة من خدمات وتعليم وصحة, مما يعتبرها (المناضلون) عندنا أمورا صغيرة وتافهة). يلاحظ المؤلف أن التوفيقية وهي سمة القرن الواحد والعشرين تتطلب الركون إلى الحلول الوسطى, غير القطعية, بعيدا عن التكفير والتفسيق والتخوين, أي لعب اللعبة السياسية كما هي, وحيث إن (كل شيء مسيس في العالم العربي إلا السياسة) لذلك نراه يبحث بدأب عن أسباب قصورها, وأماكن ضعفها. البناء الاجتماعي يطالب المؤلف دارسي علم الاجتماع السياسي العربي والإسلامي بأن يستنبطوا لنا من البناء الاجتماعي الحاضر والقائم, ما استطاع أن يستنبطه قبلهم العلامة عبدالرحمن بن خلدون في القرن الرابع عشر الميلادي (الثامن الهجري) حين قرأ بفهم عميق تأثير البنى الاجتماعية السائدة والنسيج الاجتماعي في مسيرة السياسة فيما قبل عصره وفي عصره أيضا وتداخلاتها وتحولها من حال إلى آخر, حيث لاحظ العصبية في قيام وسقوط الدول, ويلوم المؤلف كتاب العربية المحدثين ودارسي الاجتماع والثقافة على انهم لم يحدقوا بعيون مفتوحة على مجتمعاتهم التي يعيشون فيها, لأنه ليس من المعقول مع تبدل الزمان والمكان واختلاف الفئات الحاكمة أن يقوم المجتمع بتكرار نفس الأخطاء من جديد, والعجز عن النهوض من الكبوة المستمرة والكمون الحضاري, وحتى تبرز هذه المقولة بوضوح يعرج إلى الحديث الطويل عن (القبلية السياسية) والتي يراها العمود الفقري الذي يتمحور حولها النشاط العربي السياسي, بشكل مباشر أو غير مباشر, ويسرد في هذا الأمر قصة, سأنقلها للقارئ كما رواها المؤلف, ثم أترك التعليق على مغزاها بعد ذلك. يقول إنه مع خلفيات الأزمة الصومالية منذ سنوات تركزت كتابات السياسي المصري الراحل محمد حسن الزيات الأخيرة على الصومال, بصفته أحد الدبلوماسيين الأوائل الذين رعوا استقلال الصومال وقيام دولته الموحدة, ويسجل الزيات الحادثة ضمن بدايات الأحزاب السياسية (الحديثة) في الصومال, فيقول: (عند حلول موعد الاستقلال, وأثناء نظري في الترتيبات اللازمة لهذه المناسبة التاريخية لاحظت أن بين الأحزاب السياسية في الصومال حزبا يحمل اسم (حزب دحلة ومرنيلة) ويعرف بالأحرف الثلاثة الأولى من اسمه, أي (ح.د.م) ودحلة ومرنيلة قبيلتان صوماليتان صغيرتان, والحزب يتكون من رجال ونساء هاتين القبيلتين, إذن هو حزب قبلي, ووجدت انه ليس من المناسب أن يوجد في بلد يستعد للاستقلال ودخول المجموعة الدولية, وفي عصرنا هذا, حزب قبلي, لذلك دعوت رؤساء هذا الحزب إلى اجتماع معي, وتحدثت معهم طويلا وصريحا بأنه من غير اللائق أن يوجد حزب قبلي في بلد يريد أن يدخل العالم الحديث مستقلا ذا سيادة, واستمع زعماء الحزب وطلبوا أن أمهلهم أسبوعين للتشاور.. عاد الزعماء وأعلنوا أنهم قرروا حل حزبهم بناء على رغبتي, وأنهم قرروا إنشاء حزب جديد لا يحمل أسماء القبيلة وأن الحزب الجديد يسمى (الحزب الديمقراطي المستقل) وأبديت لهم مزيد اغتباطي, وذكرت أن الديمقراطية والاستقلال هما من الأهداف التي يمكن أن يتبناهما الحزب الجديد, ثم سألتهم عن السبب في اختيار الاسم, وهل هناك حزب ديمقراطي آخر حتى يسموا حزبهم بالمستقل, فأرادوا أن يميزوا أنفسهم عنه, فكانت إجابتهم أن لا وجود لهذا الحزب, وأنهم قصدوا باختيار الاسم الجديد أن يبقى كما كان اختصاره في السابق حزب (دحلة ومرنيلة) أي يرمز اليه بـ (ح.د.م) دون تغيير). هذا المثال الصارخ الذي يستعين به المؤلف والذي وقع فعلا في إحدى الدول العربية, قد يجلب الانفراج لبعض الشفاه, ولكن واقعيته المريرة هي أن المؤلف يريد به القول, بأن البناء الاجتماعي القبلي, وهو إحدى السمات العامة والأساسية للمجتمعات العربية, هو القاعدة الرئيسية لمعظم البنيات السياسية العربية, فالكثير من الأحزاب العربية السياسية التي ظهرت إلى النور بعد الاستقلال, هي في الحقيقة أحزاب عشائرية وطائفية وقبلية أو إثنية في تكوينها وقياداتها, سواء كانت للبلد العربي الواحد أو تدعو إلى عمل سياسي عبر أكثر من بلد. غير أن هذا التأثير القبلي العشائري, لم يتم الاعتراف بخطورته أو وجوده بعد في الفكر العربي السياسي الحديث والمعاصر, ومن هنا تأتي دعوة المؤلف الحارة إلى الالتفات إلى هذا البناء الاجتماعي ودراسة تأثيره في العمل السياسي العربي, حيث إن القبيلة بمعناها الشامل والواسع عادت لتصبح مفاجئة للعروبة نفسها. السقطة القومية لا يخفي الكاتب في ثنايا كتبه الثلاثة أن الدافع البحثي له هو تراكم اللامعقول في حياة العرب السياسية, بعد أن ظللنا نبحث عن كبش فداء خارجي لهذه النكبات كالاستعمار والإمبريالية, أو للآخر بيننا كالإقطاع والطبقات الحاكمة, دون النظر بعمق إلى الداخل, إلى تكويننا الاجتماعي, وشجاعة مواجهة التحليل العلمي الصحيح له (منذ هزيمة يونيو (حزيران) إلى كارثة أغسطس (آب), وبذور الرهانات الكارثية على خوض أمهات المعارك تعود في التحليل النهائي إلى احتقانات داخلية, وطريق مسدود واجهته الأنظمة في الداخل, فأقدمت على تصديره إلى الخارج). هنا يشدنا الباحث المفكر إلى النتائج الكارثية لما حدث في أغسطس سنة 1990, والتي أعتقد أن الكاتب وغيره من الكتاب العرب الصادقين قد وضعوا ما حدث كخط فاصل بين تغييب كلامي وشعارات, وبين واقع عملي مرصع بالحقائق مر الكثيرون عليه دون اكتراث إلى أن يتم البدء أخيرا فقط في حساب الخسارة العظمى التي نتجت عن تلك الشعارات, بعد أن غيبت قيما أهمها حق المواطن في أن يعرف, فهو يقول: (الواقع أن كبرى الحقائق التي غابت عن وعي أغلب العرب أو غيبت لسبب أو لآخر هي أن السقطة القومية المتمثلة في أزمة الاحتلال العراقي للكويت كانت حلقة أخيرة في سلسلة طويلة من السقطات والتراجعات في المسيرة العربية, يساءل عنها الجميع من قادة وحركات قومية, ولا تنحصر في جزئية ذلك الحدث الذي استل من لوحة السقوط كلها كما هو شأن الوعي السياسي العربي تجاه كل حدث وأزمة, بما يرجح التفسير القائل بالنظرة الجزئية للعقل العربي والعقل السياسي بخاصة). يقول باحث ومفكر عربي آخر وهو منح الصلح في محاولة للبحث عن أسباب لهذه المظاهر المشكو منها عربيا: (يجب الاعتراف بأنه بعد أن أصبحت القضية الفلسطينية ملك مفاوضات مدريد (ثم أوسلو) ضعف عصب توحيد أساسي في الأمة العربية, وكذلك بعد أن رأت مصر بعد حرب أكتوبر الظافرة أن تبرم اتفاقية كامب ديفيد وتعيد إليها سيناء, ضعف أيضا عصب مصر التوحيدي في الأمة العربية) , ولعله لو أضاف القول إن احتلال العراق للكويت قد فت من عضد الجدار العربي وأطاح بالأمن القومي لما كان بعيدا عن الحقيقة. فدوافع بحث الأنصاري عن الأسباب الرئيسية في أسباب التخلف السياسي العربي, هي دوافع الكثير من المفكرين العرب, ولكن الأنصاري امتاز بأنه يعلق الجرس ويقول الأسباب الحقيقية التي يراها, وقد أسهب في الحديث عن البناء القبلي الذي يحوط العمل السياسي العربي بأشكال مختلفة, ولكنه لم يقف عندها فقط فهناك أسباب أخرى أيضاً. الظاهرة الصوتية في اندفاع الدكتور الأنصاري لسبر واستنباط أسباب التقاعس العربي السياسي وقصوره عن الفعل الحديث, يستعير قول مفكر عربي رحل عنا أخيرا هو الأستاذ عبدالله القصيمي, الذي قال (إن العربي ليرفض الصعود إلى الشمس, ممتلكاً لها, إذا كان ذلك بصمت) والمعنى ظاهر, لان الفقرة السابقة هي من كتاب أصبح عنوانه مشهورا للكثيرين, وإن كان يشكو من قلة القراءة الجادة المتفحصة وهو (العرب ظاهرة صوتية) ولا يفوت الأنصاري حتى في إبحاره الحماسي أن يشير إلى أن ذلك قول فيه من (الحدة والمبالغة) الكثير, إلا أنه أيضا يلاحظ أن العرب كانوا مستعدين ـ كما هو القول المأثور ـ أن يحاربوا مع عبدالناصر إلى آخر جندي مصري, والمفارقة واضحة وهي الفرق بين التأييد الكلامي والتأييد الفعلي, وهو قول طرقه باحث من قبل في كتاب صدر بالإنجليزية في أوائل عـقد السبعينـيات عنوانه بالعـربية (العـقل العربي)- أو ( الذهنية العربية ), وفيه قول مشابه (أن العرب يستعيضون عن الفعل بالكلام) لذلك يطالب المؤلف بمطلب بحثي في الأمر, حيث يقول إنه (سيكون من أكثر البحوث العربية السياسية دلالة لو تصدى باحث للمقارنة بين حجم التأييد الكلامي وحجم التأييد الفعلي) (في أي قضية عربية). الدولة القطرية يناقش المؤلف قضية من أخطر القضايا السياسية العربية وهي قضية الدولة الوطنية, ويرى أن هناك مستويين من الاستيعاب السياسي في هذا الأمر, وهما متناقضان, المستوى الأول أن الجميع يعيش في بلاد عربية مستقلة, أي دولة لها حدود وعلم, ونشيد وطني, يستمتع بحمايتها المواطن ويستظل في كنفها, ويعرفه العالم بها, وفي المستوى الثاني أن الجميع أيضا, يطمح أو يشارك في (القول) بوطن واحد, ولكن شكل وحدود هذا الوطن ضبابية غير واضحة, ويضع هذه الفكرة بوضوح تام فيقول: (منذ أن تأسست الدولة الوطنية الموسومة أيديولوجيا بالقطرية في الفكر الوحدوي, والمواطن العربي يشعر بالإثم القومي في انتمائه إلى موطنه الخاص به وكأنه في حالة تلبس تاريخي لا نهاية لها بين عدم الاعتراف بالشرعية للدولة الوطنية, وعدم القدرة في الوقت ذاته على تحقيق الانتماء إلى دولة قومية متحققة بأي شكل). يذهب المؤلف إلى القول إن أصل هذه المعضلة أنها أيديولوجية, اعتقد بعض المنظرين العرب في الزمن الحديث أن وجود دولة عربية واحدة موحدة هو السائد, وأن الدولة الوطنية مؤقتة, ولكنه يرى أن العرب (على مدى التاريخ الطويل وحتى وقت قريب لم يخبروا العيش في نطاق دولة منتظمة, ثابتة ودائمة وذلك بالمعنى التقليدي والكلاسيكي المتعارف عليه للدولة, فالدولة في تجربتهم التاريخية كانت عرضة للإجهاض والانقطاع المتتابع بين الدولة واللادولة على التوالي, وإذا كان العرب قد عاشوا في نطاق (مجتمع موحد) حضاريا وعقائديا وتشريعيا وثقافيا في إطار الحضارة العربية الإسلامية, أو (دار الإسلام) فانهم لم يخبروا هذا المجتمع الموحد في المجال السياسي), لان (التجزئة الصحراوية للجسم العربي الحضري, والتكوينات القبلية لم يتح لها الانسجام والتماسك). فالدولة الوطنية الحديثة لدى الأنصاري التي ظهر بعضها بعد الحرب العالمية الأولى وفيما بعدها, هي الدولة التي يبنى عليها في العلاقات الدولية, ومن بينها العلاقات العربية وهي في الواقع تدرجت منذ الحرب العالمية الأولى على الأقل وشبت عن الطوق, ولتشكل الدولة الوطنية العربية الحديثة, ودليله التاريخي على ذلك أن الهيمنة التركية على العرب لم تحقق الدولة بمعناها الحديث, ولو تم ذلك لما احتاج العرب إلى تجميع بعضهم فيما عرف بالدولة الوطنية, ويكفي أن نعرف أن مدينة كالنجف الأشرف بالعراق انقسمت إلى أربعة أحياء مستقلة ومنفصلة عن بعضها البعض الآخر بعد خروج الأتراك, وان أحد أحيائها أصدر دستورا خاصا به, إلى أن قامت المملكة العراقية في العشرينيات من هذا القرن. الدولة الوطنية اعترف بها حتى شخص مثل محمد عابد الجابري بعد أن أعاد النظر في مجمل مقولاته بعد سنة 1991, عندما أكد (أن الدولة القطرية العربية هي حقيقة دولية عربية اجتماعية واقتصادية ونفسية لا يمكن القفز عليها حتى في الحلم..) ويأتي هذا القول بعد أن وقف قائله سنة 1990 منبهرا ومنجذبا لجريمة الغزو العراقي للكويت. ولكن هذه الدولة بمعناها الحديث جديدة على العرب (فالعرب لم تتح لهم تاريخيا تجربة الدولة المؤسسية العضوية الثابتة, في كثير من عصور تاريخهم, وإذا علمنا أن الدولة مدرسة السياسة ولا سياسة منظمة خارج الدولة, تبين لنا مدى تواضع المحصلة التاريخية للعرب من هذه الوجهة ومدى الإجحاف التاريخي الذي لحق بتجربتهم في السياسة), وبالتالي فان التجارب السياسية التي نرى ونسمع صداها اليوم في الدولة الوطنية القطرية لاتزال في محطة التجربة والخطأ, والقبول والرفض والصراع الذي يصل إلى حد النحر في بعض الأوقات. إدارة الائتلاف والاختلاف يبحث المؤلف عن الآليات الناقصة في العمل السياسي العربي في الدولة الوطنية, أو بين الدول العربية, فيرى عدم قدرة جلية لدى العرب على إدارة الاختلاف السياسي, وكذلك عدم قدرة في إدارة الائتلاف السياسي, فالاختلاف يتحول إلى صراع. وعدم وجود مثل هذه الآليات السياسية التي تضبط إدارة الصراع, وعدم القدرة على استنباطها منذ وقت مبكر في التاريخ السياسي العربي (مثلت مقتلا خطيرا للحضارة العربية الإسلامية منذ عصورها المبكرة, فمن الحروب الأهلية في صدر الإسلام, حيث سل أول سيف في الإسلام على مسألة الخلافة, إلى الصراع الدموي بين الفرق الإسلامية الذي مازال يقسم المسلمين إلى اليوم) لم تتبلور آلية لتبادل السلطة سلميا كما تقول أدبيات العمل السياسي الحديث, فالقدرة على إدارة ائتلاف بين العرب مازالت من القدرات الغائبة في تعاملاتهم, سواء كانوا تقليديين أم تحديثيين, حتى إذا واجهتهم تحديات مصيرية, بل عندما تواجههم تحديات مصيرية يكشف الاختبار عن مدى قصورهم في إدارة الائتلاف فيما بينهم, إلا أن القدرة الأكثر ندرة وتغيبا في السلوك الجمعي العربي السياسي هي إدارة الاختلاف فيما بينهم, إذ سرعان ما يتحول إلى نزاع وشقاق, ويتوقف العمل لتبدأ المواجهة, ويصمت اللسان ليتحدث المدفع, لأن بأسهم بينهم شديد, ومن لا يستطع إدارة اختلافه لا يستطع بالتالي إدارة ائتلافه, لهذا نرى أن التطبيقات الديمقراطية أو المسماة كذلك في الدولة الوطنية العربية القائمة, ليست مشروعا جادا ومستساغا لدى الممارسين, ولقد انكب مؤلف عربي مهتم بالأمر هو غسان سلامة على دراسة هذا الموضوع فأصدر كتابا يوجز دراسته من عنوانه وهو (ديمقراطية من غير ديمقراطيين), فبعد أن يعدد المؤلف الشروط الدنيا للديمقراطية الحديثة يخلص إلى القول إن الديمقراطية ليست نصوصاً بل هي ثقافة. ومثله يتساءل الأنصاري بعد عرض واسع لمفهوم الديمقراطية وشروطها: (إذا كانت السلطة والقوى الشعبية ـ حتى لا نقول المعارضة ـ تنتمي في أصولها الاجتماعية إلى تكوينات وبنى عصبوية مما هو معلوم وسائد في النسيج المجتمعي العربي, ولم تتطور اجتماعيا وحضاريا بما يؤهلها لتمثل الديمقراطية واستيعابها فهل نتوقع منها أن تلتزم بتلك الشروط).? المجتمع المدني في الكثير من الإشارات يرجع الأنصاري إلى المقاربة بين الريف والمدينة, وبين البدو والحاضرة, أو ما نسميه اليوم المجتمع المدني والمجتمع غير المدني, ويلاحظ أن الإشكالية كانت مطروحة على المجتمع الإسلامي والعربي منذ زمن تاريخي بعيد, فقد غلب على السلطة الصراع غير المقنن والخالي من الآليات المتفق عليها, غلب هذا الصراع المعتصم الأخ الثالث للأمين والمأمون فجلب أخواله الأتراك الذين تصورهم مخرجاً لأزمة الخلافة, فأصبحوا كارثة لأبنائه وللدولة وللحضارة (كونهم قد جاءوا بعصبياتهم التي وصلت للتو من مراعي آسيا الوسطى, وكانوا غلاظا كالكائنات العجماء, كما وصفهم الطبري, أو بدو العجم كما اختصرهم الجاحظ) لقد أدى (الانقلاب العسكري الرعوي التركي في بغداد ـ في ذلك الوقت ـ إلى صدور البلاغ رقم واحد في طريق تعطيل التطور الحضري العربي الطبيعي, وكان ذلك قبل الانقلاب العربي الحديث بأكثر من ألف سنة, ومن يقارن الليبرالية الحضارية ـ إن صح التعبير ـ في عهد المأمون منشئ دار الحكمة, ومطلق الترجمة, والمترفق بأهل الذمة, بعصر المحافظة ـ إن جاز التعبير ـ في عصر المتوكل بعد عقدين من الزمان حيث تم النكوص عن كل الإنجازات الحضارية, يعرف على وجه اليقين ما تفعله السلطة الرعوية, وما تقترفه بعد ذلك يداها من انقلابات واغتيالات. ترييف المدينة وبدونتها هو الإشكالية المطروحة اليوم بعد أكثر من ألف سنة, على الفكر العربي السياسي, فقد جلبت التحولات الاجتماعية ما بعد عهود الاستقلال الأولى إلى الحواضر العربية إما أبناء الريف العربي أو أبناء البادية, وهؤلاء لم يقفزوا على السلطة بالطريقة التقليدية التي نوه عنها ابن خلدون بالعصبية القبلية, ولكنهم حازوها من خلال المؤسسات الحديثة المنظمة كالجيش والأحزاب الحديثة التي جمعتهم لأسباب اقتصادية أو أيديولوجية وعصبوية أيضاً, فأصـبـح العمـل السياسي العربي ـ إلا فيما ندر ـ في أيدي هذه الفئات بعد أن تخلصت تحت شعارات شتى من الأرومة المدنية العربية في الحاضرة, التي قادت العمل السياسي والصناعي والتجاري برهة من الزمن بعيد الاستقلال, والناظر اليوم إلى المدينة العربية, سوف يرى في الأغلب الأعم أن الغالبية من سكانها إما أبناء الريف والبادية أو أن أصولهم من هناك, حتى أن مـدناً كبيرة كالقاهرة أو بيروت لم تنج من هذه الظاهرة الديموغـرافية فأصـبحت قيم وممارسات العمل السياسي في المدينة العربية, هي قيما وممارسات ريفية, مما اصطلح على تسميته بترييف المدينة. الرسالة الأنصارية لعله من المبالغة القول إن الأنصاري في مشروعه البحثي هذا قد بلغ الكمال, أو أن هناك رسالة أنصارية في الأفق, فهو لم يدع هذا ولا يرغبه, ولكنه حاول جادا, وفتح آفاقا جديدة, ودرس الآلية الانقسامية في المجتمع العربي التي تبدأ سياسية ثم تنقلب إلى دينية, ثم يصبح الاحتكام إلى القوة ديدن المتنافسين السياسيين, يتخلله فصل طويل في كتاب السياسة العربية أطلق عليه فصل (النكاية), الملخص في القول (لا حباً في معاوية بل كرهاً في علي). ولم يكن قصدي في هذا العرض الموجز لما كتبه الأنصاري في هذه الثلاثية إلا بيان نظريته القائلة ان الغائب غير الملاحظ في تفكير العرب السياسي هو الوسطية وقبول الحوار وعدم احتكار الحقيقة, فالوسطية أو التسوية ـ وهي أداة أساسية في أي عمل سياسي ـ تثير على الفور في الإدراك العربي العام أو في الوعي الغامض مختلف أنواع الشكوك والظنون, وتحمل المعنى السلبي في التنازل المشبوه للآخر, ولو كان هذا الآخر موطنا أو قريبا, كما يرى المؤلف أن هناك عقبات كبيرة تقف أمام فهمنا لمجتمعاتنا, أولها المنهجية في الفهم, فلقد تبنينا منهجية غربية, وحاولنا تطويعها وملاءمتها للواقع الموضوعي العربي, وأخذنا مفاهيم الوحدة من تجارب إما ألمانية أو إيطالية قامت على القوة والجبر, وتجاوزنا مفاهيم الوحدة النابعة من أسفل والمقبولة شعبيا كالوحدة السويسرية مثلا, وتحدثنا عن المجتمع المدني ونحن لا نزال في مجتمع ريفي بدوي, قلنا بالصناعة وما بعد الصناعة ولم نصل حتى إلى مجتمع زراعي حديث. ما كتبه الأنصاري يقود إلى وعي جديد, وصيحة صادقة, تحتاج منا إلى أن نفهمها كما هي ونناقشها بتؤدة ونحتفي بها كأطروحات جديدة وشجاعة أيضا, كما أنها تستحق أن تقرأ وتناقش.
|