الديمغرافيا العربية وأزمة التطور

الديمغرافيا العربية وأزمة التطور

إن من أهم سمات المجتمعات السكانية العربية هو كونها مجتمعات شابة, يمثل فيها صغار السن الذين تقل أعمارهم عن 15 سنة ما يربو على الخمسة والأربعين في المائة من إجمالي السكان, كما أن من تقل أعمارهم عن 18 سنة قد يمثلون ما يقارب الخمسين في المائة.. ونظرا لتحسن الظروف الصحية وتطور الخدمات الطبية في معظم البلدان العربية, فإن نسبة لا بأس بها تتجاوز الستين من العمر, ولكنها خارج قوة العمل, وبذلك فإن من هم داخل قوة العمل قد لا يزيدون على خمسة وثلاثين في المائة من السكان في أغلب المجتمعات العربية.. هذه السمات العمرية قد تكون من الأمور المثيرة لاهتمام الباحثين في ميادين الاقتصاد, وكذلك اهتمام علماء الاجتماع الدارسين للظواهر التي تنتاب العديد من المجتمعات الحديثة. ومما يلاحظ من التركيبة العمرية المذكورة هو ارتفاع معدلات الإعالة حيث ـ كما أوضحت ـ إن هناك عددا كبيرا من صغار السن الذين إما أن يكونوا خارج قوة العمل بحكم سنهم, أو أنهم مازالوا في سلك التعليم العام أو التعليم الجامعي. كذلك هناك كبار السن الذين تزداد أعدادهم عاما بعد آخر نتيجة لتحسن عوامل العلاج والطبابة.. ومن الأمور المهمة التي تزيد من معدلات الإعالة وجود عدد كبير من النساء خارج قوة العمل نتيجة لمنظومة القيم, أو لظروف أسرية. وفي بعض البلدان العربية لاتزال المرأة مقيدة بقيم اجتماعية, تحرم عليها التوظف في العديد من الوظائف والمهن, بالرغم من ارتفاع معدلات تعليم الإناث في جميع البلدان العربية. من المؤكد أن العديد من المفاهيم قد تغير كثيرا في معظم الدول العربية فيما يتعلق بدور المرأة في النشاط الاقتصادي, إلا أن هذه القيم مازالت دون المستوى قياسا بالتحولات المهمة في المفاهيم الحضارية على المستوى العالمي.

إن التطور الديمغرافي في البلدان العربية, مثله مثل بقية دول العالم الثالث, يدفع باتجاهات سلبية تعوق عملية التنمية.. فإذا أخذنا الهجرة من الريف إلى الحضر في جميع الدول العربية, فإننا نجد المزيد من التهميش وتعطيل الدور التنموي للبشر. من الصحيح أن هذه الهجرات تمت تحت شعور بأن المدن ستوفر أعمالا أفضل, ومن ثم تحسين ظروف المعيشة والحصول على تعليم أفضل للأبناء. هكذا اعتقد الفلاحون وأبناء الريف الذين تركوا قراهم وانتقلوا إلى المدينة, لكن ما حدث هو أن هذه المدن, وهذه المناطق الحضرية, عجزت عن توفير الوظائف والأعمال الكافية للمهاجرين, ومن ثم دفعت العديد منهم لامتهان أعمال متواضعة وغير مفيدة, ودفعت جزءا من هذه الأعداد للجريمة أو للتأطر في منظمات العنف السياسي على كل تلويناتها.. أهم من ذلك أن هذه الهجرة كان يمكن ألا تحدث لو جرت عملية التنمية بشكل متوازن واهتمت الإدارات السياسية بتنمية الأرياف مثل ما اهتمت بتطوير المدن.. ومن النتائج السلبية للهجرة من الريف إلى المدن تدهور الاهتمام بالقطاع الزراعي وتراجع أدائه وانخفاض إنتاجه, مما دفع العديد من الدول العربية لاستيراد احتياجاته الغذائية من خارج الحدود.

ولقد حصلت تفاعلات نتيجة لهذه الهجرات الريفية, حيث طغت قيم الريف على الحضر, وأصبح المهاجرون أكثر عدديا من سكان المدن الأصليين, ومن ثم تغلبت ثقافاتهم على ثقافة الحضر.. وقد انتشرت, من جراء ذلك, قيم الخرافة والنزعات المتزمتة, وقاد ذلك إلى تراجع التأثير الحضري في القيم المجتمعية السائدة, وازدياد الانغلاق الاثني والديني. كذلك دلت الأحداث السياسية التي مرت بها البلدان العربية على أن المنظمات السياسية الفاعلة تأثرت كثيرا بالثقافات الريفية, نتيجة لتزايد نفوذ المهاجرين من الريف ضمن صفوفها وفي قياداتها التنظيمية, واندفع بعض من هؤلاء للتحالف مع أبناء عمومتهم وأقاربهم من العسكريين في صفوف القوات المسلحة, في أكثر من بلد عربي, للانقلاب على الهياكل السياسية التقليدية, وإقامة أنظمة سياسية شمولية تبنت أفكارا طوباوية ومتعصبة وجاء حصادها السياسي والاقتصادي ليعزز التخلف ويعطل التطور الحضاري المتدرج, ودون ريب فإن تعطيل الثقافة الحضرية في العديد من الدول العربية دفع إلى تأخر في عملية التطور السياسي, وتراجع في الأداء الاقتصادي والتنموي.

سلبيات الهجرة

لم تقتصر الهجرة, خلال هذا القرن, على حدود الوطن الواحد, أي من الريف إلى المدن, بل إنها أيضا شملت الهجرة من بلد إلى آخر.. ونظرا لتردي الأحوال المعيشية في أكثر من بلد عربي, فقد انتقل الآلاف من المواطنين إلى بلدان أكثر حظا اقتصاديا.. ولقد دفعت الثروة النفطية التي حباها الله بعض الدول العربية إلى جذب الكثير من العرب وغيرهم إلى الهجرة إلى بعض هذه الدول النفطية, ولقد اتخذ الاستيطان في هذه الدول النفطية شكلين أحدهما التوطن وكسب جنسية البلد الجديد, والشكل الآخر الإقامة لفترة من الزمن, قد تطول أو تقصر, والعمل في الدول النفطية. ولاشك أن نسبة معقولة من مواطني دول الخليج هم من الذين هاجروا من بلدان عربية وغير عربية, انتقلوا إليها خلال فترات متفاوتة من هذا القرن بحثا عن الرزق والعمل.. كذلك لابد أن نذكر أن أعدادا كبيرة من البدو الرحل قد توطنوا في بلدان الخليج العربي قادمين من الجنوب والشمال. لقد انتهت البداوة الشكلية بعد عمران بلدان الجزيرة العربية والخليج, بعد اكتشاف الثروة النفطية, إلا أن هؤلاء البشر احتفظوا بقيم وتقاليد البداوة حتى يومنا هذا, وتوارثت الأجيال تلك القيم والتقاليد بالرغم من نهضة التعليم في هذه البلدان.

إن هذه التطورات الديمغرافية, سواء داخل البلد الواحد أو على مستوى الانتقال من بلد إلى آخر, قد عطلت الكثير من عمليات التطور الحضاري, وكرست قيم التخلف والتزمت في أكثر من بلد عربي, وقد فقدت النخب الحضرية في العديد من البلدان العربية قدرتها على تطوير الوقائع السياسية والاجتماعية والاقتصادية. ويمكن القول إن الدور التقليدي لبرجوازية المدن في الدول العربية, والذي كان ملحوظا في فترات الأربعينيات والخمسينيات من هذا القرن, قد اختفى بعد تعزز دور الدولة في الاقتصاد في الكثير من البلدان العربية إثر هيمنة الاقتصاد النفطي, وسيطرة العسكر على الحكم في بعض هذه البلدان.. وقد قلص دور البرجوازية بشكل كبير, بحيث فقدت الثروة عن طريق المصادرة أو التنازل عن حقوق الملكية أحيانا في بعض الدول الخليجية الغنية, وانتعش دور البيروقراطية التي تحكمت في كل مفاصل الاقتصاد والحياة السياسية.

ولقد توهم عدد من المفكرين العرب أن سيطرة الدولة على الاقتصاد, وبروز طبقات جديدة في مواقع البرجوازية سيكون له أثر تقدمي في الحياة السياسية والاجتماعية, ولذلك ناصر هؤلاء ما حدث في هذه البلدان, وشجعوا الانقلابات التي دفعت أبناء الريف للسيطرة على الحياة السياسية.. لكن ما حدث هو أن التطور التقدمي المنشود لم يتحقق, حيث إن النخبة السياسية الجديدة لم تكن مؤهلة لإنجازه, وبدلا من ذلك أقيمت أنظمة حكم شمولية وهياكل اقتصادية تولت عناصر هذه النخبة إدارتها دون أن يملكوا المؤهلات الفنية والعملية, وقد عوض هولاء الحرمان الذي عانوا منه في الماضي بنهم نحو السلطة والمال, ودون ريب أن المال العام تحمل تبعات هذه التغييرات السياسية كثيرا, وقد تم استخدام الأموال العامة دون رشاد, واستنفدت المؤسسة العسكرية الكثير من هذه الأموال دون جدوى أو مبررات موضوعية مقنعة.

إن من أهم القضايا التي تقلق البال مدى تأثر التطور السياسي, والتحول نحو الديمقراطية بالتركيبة الديمغرافية في البلاد العربية, وقد تستخدم هذه الحقائق الديمغرافية لتعطيل الديمقراطية واستحقاقاتها, فمثلا قد يطرح البعض أنه نتيجة للهجرة وزيادة نسبة المهاجرين من الريف والبادية وتهميش دور سكان المدن الأصليين, فربما ينتج عن المشاركة الديمقراطية انتخاب أعضاء في المجالس التشريعية لا يهدفون لتحقيق التقدم الاقتصادي, أو تطوير الواقع الاجتماعي, وقد يسعون لدفع هذه البلدان إلى مجاهل التخلف والرجعية. كما يشير أصحاب هذا الرأي إلى إنه من الممكن أن ينتج عن الانتخابات بروز العناصر المتزمتة دينيا, وهم ينشطون بين الفئات الأقل تعليما والأقل التصاقا بالحضارة الإنسانية, ومن ثم يقومون بتعطيل دور المرأة سياسيا واقتصاديا.

النمو والانحيازات العمرية

من جانب آخر, هناك من يزعم أن التركيبة الديمغرافية للكثير من المجتمعات العربية تميل لصالح الشباب, وربما يزيد عدد السكان الذين تقل أعمارهم عن 18 سنة عن الخمسين في المائة من إجمالي السكان, كما أن من تقل أعمارهم عن العشرين سنة ربما يزيدون عن الستين في المائة من السكان, ومن ثم مدى قدرة الناخبين الذين تزيد أعمارهم عن الواحد والعشرين على التعبير عن واقع الأمة, ولذلك فهم يضيفون أنه لو أتيحت الفرصة للشباب ممن تزيد أعمارهم على 18 سنة, فربما تأتي مجالس نيابية منتخبة لا تتمتع بالجدية والقدرة على تناول القضايا بمسئولية واقتدار, ولاشك أن هذه الملاحظات تعبر عن هواجس مقبولة, إلى حد ما, بيد أن مسألة التطور الديمقراطي يجب ألا تخضع لهذه الاعتبارات, ويجب أن يكون هناك اتفاق بين شرائح المجتمع, بأن الديمقراطية تتطلب وعيا بإيجابياتها وسلبياتها, خصوصا في مراحل التطبيق الأولى.. ولابد من عملية الممارسة لكي تكسب الشعوب خبرة وتجربة وتتعلم كيفية اختيار ممثليها, ومراقبة أدائهم. بطبيعة الحال فإن التجارب المحدودة للعمل الديمقراطي في البلاد العربية لا تشكل نماذج حقيقية للديمقراطية, حيث تقتصر هذه التجارب على عنصر تداول السلطة, حيث تتمخض هذه التجارب, أو معظمها على الأقل, عن فوز حزب السلطة, أو ممثلي السلطة, في كل الانتخابات وتوليهم للسلطة على أي حال.

إن مأزق الديمقراطية في الوطن العربي ليس ناتجا فقط من الأوضاع الديمغرافية ـ على أهميتها ـ ولكنه أيضا نتاج التطورات السياسية وتطور الأوضاع الاقتصادية, وهو أيضا مرتبط بالتركيبة الثقافية في المجتمعات العربية.. لكن الخصائص الديمغرافية ذات أهمية في تعميق أو تعطيل العملية الديمقراطية, فمثلا لابد أن يكون للمستويات التعليمية, والمهن أو الوظائف التي يشغلها عدد من السكان أهمية في السلوكيات السياسية.. ولا يمكن التعويل على تأصيل الديمقراطية عندما يكون الشعب جاهلاً, أو يفتقر لمستوى معيشة مناسب, حيث ستكون هناك أولويات أكثر أهمية من المشاركة السياسية, مثل توفير الغذاء والسكن والملبس.

من جانب آخر, هناك عنصر مهم في الوضع الديمغرافي في الوطن العربي, ألا وهو النمو السكاني السريع.. وتتفاوت معدلات النمو الطبيعية للسكان في الدول العربية بين 2 إلى 3.5 في المائة سنويا, وما من شك أن هذه المعدلات تعطل إمكانات تحسين مستوى المعيشة, إن لم تخفضها, ذلك أن معدلات النمو الاقتصادية لا تكاد توفي باحتياجات الأعداد المتزايدة للسكان في ظل معدلات النمو الطبيعية المشار إليها.. لهذا تتناقض عملية النمو السكاني مع تطوير الأوضاع الاقتصادية وتحسين نوعية الحياة في الدول العربية وقد نتج عن هذا النمو السريع للسكان أن أصبحت المدارس ومؤسسات التعليم والجامعات عاجزة عن استيعاب الأعداد المتزايدة من الطلبة, وإذا تم استيعابهم بأسلوب الحشو تردت مستويات التعليم ونوعيته. ونتائج هذا التعليم تنعكس سلبيا على سوق العمل, حيث تتدفق مخرجات التعليم غير المؤهلة لهذا السوق دون قدرة على مجاراة احتياجات المؤسسات العامة والخاصة.. وقد اتبعت الحكومات العربية سياسة التوظيف دون تحديد لأهمية الوظائف أو توصيفها, وغدت الحكومة جهازا لامتصاص الصدمة الناتجة من عدم توافر وظائف حقيقية تكفي لهذه الأعداد المتزايدة من مخرجات التعليم. وتؤكد هذه الحقائق أن هناك هدرا للإمكانات المالية ناتجا من سياسة التوظيف, وهدرا للإمكانات البشرية بسبب عدم توفير التعليم والتدريب المناسبين والمواكبين للاحتياجات الفعلية لسوق العمل.

وقد أصبح من الواضح أن التزايد السكاني وتخلف أنظمة التعليم وانتهاج الريعية في العمل الاقتصادي هي من الأمور التي تكرس بعضها البعض, وتعقد عمليات التطوير في جميع المجالات وقد يتطلب الأمر دفع الأمور إلى حالة من الأزمة من أجل لفت الانتباه إلى ما نحن مقبلون عليه من كارثة اقتصادية خلال السنوات القادمة. هل يتطلب الأمر انهيار الأوضاع المالية للدولة, أو ارتفاع معدلات البطالة السافرة, وتسيب أنظمة التعليم لكي نقوم بعلاجات جراحية لهذه الأوضاع الاجتماعية.

ودون ريب فإن مسألة النمو السكاني لا يمكن معالجتها, فقط, بالقرارات الإدارية أو السياسات الحكومية, بل إن الأمر يتطلب تطورات مجتمعية تعتمد على تغيرات في الهيكل الاقتصادي وتحسن في المستويات التعليمية والثقافية.. يضاف إلى ذلك, أنه يمكن القول إن تجارب الأمم الأخري أكدت أن التحولات الاقتصادية غيرت الكثير من الأشكال العائلية ومسائل الزواج والإنجاب في المجتمعات المعنية.. إن أية نظرة للواقع الأوروبي الراهن تؤكد الفروقات الحضارية التي نجمت عن التحول من مجتمع زراعي تهيمن عليه الملكية الإقطاعية إلى مجتمع صناعي يعتمد الملكية الفردية والتكوين الرأسمالي.. ولذلك فإن طبيعة العمل والعلاقة بوسائل الإنتاج تحدد حجم الأسرة, وعمر الزواج وغيرها من علاقات إنسانية.. وبالرغم من التحضر الذي حدث في المنطقة العربية خلال القرن العشرين, فإن هناك قيما قديمة مازالت قوية في أوساط هذه المجتمعات تحول دون القبول باستحقاقات الحياة العصرية.. ونظرا لهذه الحقائق فإن مسألة التحكم بالإنجاب, ومن ثم النمو السكاني سوف يتطلبان بعض الوقت قبل أن تصبح هذه المجتمعات قادرة على مواكبة الحضارة العصرية.

الاقتصاد والديمغرافيا

من جهة أخرى, تعاضدت الظروف الاقتصادية التي مرت على البلدان العربية خلال السنوات الخمسين الماضية, مع العوامل الديمغرافية لتحجم القدرات الإبداعية المحفزة للتطور والرقي.. فعلى سبيل التحديد, يمكن القول إن اقتصاديات النفط هيمنت على الاقتصاد العربي بأشمله, سواء في البلدان المنتجة والمصدرة للنفط أو تلك البلدان غير المنتجة, وعززت الاعتماد على الإنفاق العام والأنماط الاقتصادية الريعية وسلوكيات الاستهلاك السفيه.. وانعدمت حوافز تنويع القاعدة الاقتصادية ودعم القطاعات الأخرى, خصوصا المنتجة منها. وإذا دققنا في التركيبة الاقتصادية في أي من البلاد العربية فإننا نجدها محكومة بشكل أو بآخر للنفط وتبعاته.. وقد ولد هذا النمط الاقتصادي الريعي قيما اجتماعية كرست الاتكالية وعدم الاهتمام بالنتائج الاقتصادية الناجمة عن واقع الديمغرافيا. بل إن المجتمعات العربية في بعض البلدان العربية, وخصوصا البلدان الخليجية, اعتمدت على استيراد البشر للقيام بمختلف الأعمال, واكتفاء المواطنين بإدارة هذه العمالة والإشراف عليها, أو المتاجرة فيها من أجل الكسب السريع.. أما في المجتمعات العربية الأخرى في البلدان غير النفطية فإن الاعتماد على تحويلات الأبناء العاملين في الخارج أصبحت من سمات قطاعات مهمة في هذه المجتمعات مما أدى إلى إهمال العديد من الأنشطة الاقتصادية, مثل الزراعة والحرف وأحيانا الصناعات التحويلية.

من المظاهر المثيرة للانتباه في التطور الديمغرافي في البلاد العربية مظهر الهجرة الأجنبية, خصوصا في بلدان الخليج العربي, وقد قامت فئات من العمالة من بلدان آسيوية بالهجرة إلى دول الخليج من أجل العمل وكسب الرزق, لكن هذه الفئات أخذت أعدادها تتزايد خلال سنوات السبعينيات والثمانينيات من هذا القرن, لدرجة أنهم أصبحوا يشكلون الأغلبية السكانية في هذه البلدان, من بين الفئات الوافدة الأخرى.. وفي بعض مناطق الخليج أصبحت الجماعات الآسيوية ذات تأثير مالي ومهني وتتحكم في الكثير من الأعمال.. ولذلك تكاد تختفي مظاهر التقاليد العربية واللغة والثقافة في بعض الأقطار الخليجية.

ويواكب ظاهرة العمالة الآسيوية مظهر آخر لا يقل خطورة, وهو كون معظم الوافدين من الذكور بحيث افتقدت المجتمعات التوازن النوعي, خصوصا بين الوافدين عندما يمثل الذكور أكثر من سبعين في المائة من إجمالي الوافدين. ولاشك أن هذه الوضعية تمثل مخاطر اجتماعية جسيمة.. وهي أيضا تربك الحياة النفسية لمعظم الوافدين البعيدين عن أسرهم وأقاربهم, ويعيشون في مساكن للعزاب تكاد تشابه المعسكرات في بعض الأحيان.

إن معظم هولاء الوافدين هم من العمالة الهامشية التي تتكون من أفراد ليس لديهم تعليم يذكر وتنخفض مؤهلاتهم إلى درجة كبيرة, لذلك فهم يقبلون بأجور منخفضة جدا.. لذلك قلما ينفق هؤلاء على أكثر من احتياجاتهم المعيشية الأساسية مثل الطعام والملبس والسكن, وبعد ذلك يقومون بتحويل ما يتبقى لبلدانهم الأصلية.. وتدل هذه الحقيقة على أن جزءا كبيرا من الأموال المدفوعة كرواتب وأجور يتم تحويلها إلى الخارج مما يمثل تدني استخدام الدخول للاستهلاك ضمن الاقتصاديات الخليجية.

ولاشك أن الهجرة إلى هذه البلدان الخليجية ما هي إلا خيار اقتصادي قبلت به هذه المجتمعات على مدى السنوات العديدة الماضية من أجل تطوير هياكلها الاقتصادية, إلا أن المظاهر السلبية السابق ذكرها تؤكد أهمية مراجعة هذا الخيار وإمكان الاستمرار به. ولقد أضحى مواطنو دول الخليج في أوضاع تعليمية أفضل مما كانوا عليه في سنوات الخمسينيات والستينيات من هذا القرن, كما أنهم يتزايدون في التدفق إلى سوق العمل عاما بعد آخر, ولذلك أصبح من الضروري تبني سياسات إحلال واقعية تمكنهم من مباشرة الأعمال في القطاعين العام والخاص بكفاءة واقتدار. لكن هناك العديد من الأمور التي يجب حسمها قبل أن يصبح المواطنون في موقع يمكنهم من الحلول في مواقع العمالة الوافدة دون الإضرار بالنشاط الاقتصادي.. ومن أهم هذه الأمور مسألة التعليم وتكيفه ليتواءم مع احتياجات سوق العمل.

أهمية التفكير للمستقبل

ماذا سيحدث للأوضاع السكانية في الدول العربية, وللدول التي استقبلت العمالة الوافدة والمهاجرين على وجه الخصوص, خلال السنوات القادمة, بعد أن أصبحت هذه الدول مهتمة بزيادة فرص العمل أمام أبنائها? كما هو معلوم فإن عددا من المهاجرين إلى بعض الدول العربية, سواء كانوا عربا أو من جنسيات أخرى, أمضوا سنوات طوالا, أو عقودا طوالا, في هذه البلدان وأصبحت بالتالي أوطانا لهم ولأبنائهم الذين ولدوا فيها أو تربوا فيها, ولذلك فإن رحيلهم عنها سيمثل كارثة مادية ومعنوية للكثير منهم.. إن المجتمعات الإنسانية الجديدة أصبحت تقر حق المهاجرين بالمواطنة, وتقوم بعض الدول بتسهيل إجراءات الحصول على حقوق التجنس, كما هو جار في الولايات المتحدة وكندا واستراليا. ولاشك أن تلك المجتمعات ما هي إلا نتاج للهجرة البشرية من بلدان قديمة إلى بلدان جديدة. لكن هل يمكن لمجتمعات صغيرة الحجم السكاني, مثل المجتمعات في دول الخليج العربية, أن تتبنى سياسات سكانية متحررة تمكن العديد من العرب وغيرهم ممن هاجروا وعملوا في هذه البلدان لسنوات طويلة أن يصبحوا مواطنين? هناك تردد واضح لدى متخذي القرار, ولا يبدو أن هناك إمكانات لتغيير المواقف. هذه المجتمعات, وإن كان بعضها نتاج هجرات واستيطان خلال سنوات ما قبل النفط, تتخوف من تراجع نفوذ السكان الأصليين في حال تبني سياسات انفتاح وتجنيس.. هناك فئات عديدة تقاوم أي تعديلات.. ولابد أن نذكر أن الذين تمكنوا من الحصول على حق المواطنة في العديد من هذه المجتمعات لم يكونوا الأكثر تأهيلا بحيث تستفيد منهم بلدانهم الجديدة, وقد ولدت التكاليف الباهظة لاستيعابهم ردود فعل في أوساط العناصر التقليدية, وأثارت في أذهانهم تساؤلات حول الجدوى من التجنيس. ويقول هؤلاء إن المجتمعات الأخرى التي تنفتح على المهاجرين وتمنحهم حق المواطنة تشترط توافر قدر معقول من التعليم, وإمكانات مالية مناسبة, واحتمالا جيدا للاستفادة من الخبرة في أنشطة حيوية في البلاد.

إن التطورات الديمغرافية في البلدان العربية تتفاوت من بلد إلى آخر, هناك بلدان دفعت العديد من أبنائها للهجرة نتيجة للظروف الاقتصادية الصعبة, وهناك بلدان فتحـت أبوابها أمام الهجرة من البلدان العربية وغيرها من أجل الاستفادة منهم في بناء اقتصادياتها وتنمية الأعمال. لكن هناك تشابها كبيرا في السلوكيات الديمغرافية الأخرى مثل النمو السكاني ودور المرأة وغيره. كذلك هناك سمات مشتركة مثل نسـب صغار السن, والمستويات التعليمية ونسب الذكور إلى الإناث, ويتضح أن هذه الخصائص الديمغرافية تشكل تحديات مهمة أمام العرب في مسيرة التطور في جميع المجالات.

 

عامر ذياب التميمي