ظاهرة العنف الجزائري.. محاولة للفهم

ظاهرة العنف الجزائري.. محاولة للفهم

عندما يقوم تنظيم مسلح بالانقضاض على نظام حكم ويستطيع أن يهدمه يقوض معه في الواقع ثلاثة بنى: النظام الذي قوضه, ويقوض ثانياً نفسه باغتيال دماغه المفكر في جناحه المدني, وثالثاً يقوض كامل الحياة المدنية, و(يعسكر) المجتمع لتعيش حالة (طوارئ), ويستبدل وضعاً (لا شرعياً) بوضع (لاشرعي) جديد, ويقضي عليه بنفس الطريقة التي قفز بها إلى كرسي السلطة على يد قوة جديدة, تطيح به بنفس آلية السيف, فتستخدم نفس طريقته التي وصل بها إلى سدة الحكم بـ (القوة العارية) علي حد تعبير الفيلسوف البريطاني (برتراند راسل) في كتابه "القوة ـ السلطان THE POWER" .

هذا هو الذي جعل الرسول صلى الله عليه وسلم أن يرفض (الملك) عندما عرضته عليه قريش, لأنه كان يريد أن يبني مجتمعاً بطريقة شرعية, وهو الذي جعل المسيح عليه السلام يوجه تلاميذه عندما بدأ اليهود يطاردونه ويطلبون رأسه سورة غافر آية 5 وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوهفنصح (بطرس) عندما استل السيف "اغمد سيفك لأنه مكتوب أن من أخذ السيف بالسيف يهلك".

يقول القانون الاجتماعي إن طول عمر الباطل لايحوله إلى حق.

هذه الفكرة لم تستوعبها معظم الحركات السياسية المعاصرة بما فيها الإسلامية ومنها فكرة الديمقراطية, فهي ترى ـ تحت هذه الآلية ـ أن لا مانع من التعددية والانتخابات حتى تصل إلى الحكم, ولكن ليس بعد ذلك, فإذا وضعت يدها على مقاليد السلطة تغيرت اللعبة جذرياً, فهي (دولة مقدسة) فيجب أن تبقى كما هي, ولا يمكن لأي قوة أخرى أن تنزلها من سدة الحكم, ونسيت أن لعبة الديمقراطية أوصلتها ويمكن أن تزيلها مرة أخرى, الديمقراطية بمعنى الشورى وحكم الأغلبية, وهي بهذا التصور وقعت في مغالطة مرتين:

فهم الديمقراطية كـ (تكتيك) للوصول إلى السلطة, وليس (استراتيجية) ذات خطوط حمراء تحترم ويحافظ عليها من قبل الجميع, وثانيا اختلاط (المقدس) بالبشري, فهم كبشر يخلطون بين ذواتهم كبشر يخطئون ويصيبون, وبين المبدأ الأزلي الذي يصمد مع الزمن, والفرق بين المبدأ والشخص هائل, فهو فرق بين المؤقت والدائم, بين النسبي والمطلق, الكمال والنقص, السداد واحتمال الخطأ.

جدلية الآخر "إيجاد الملغي أم إلغاء الموجود؟"

وهذا الخلط عند هذه النقطة بالذات هي مقتل الحركات السياسية, ومنها حركات الإسلام السياسي المعاصرة, عندما تتصور نفسها أنها أصبحت معادلة للمبدأ المطلق, فتشعر بأنها تمتلك الحقيقة النهائية المطلقة, تعلن الوصاية عليها واحتكارها, وهو ما سيطر على الخوارج قديما عندما كفروا غيرهم, وهذا الذي بدأت تفوح رائحته مع اقتراب فوز الاتجاه الإسلامي في الجزائر في الانتخابات, عندما ظهرت إعلانات وشعارات تقول بفكرة (الديمقراطية كتكتيك), مما أدخل الرعب في مفاصل الاتجاهات الأخرى, أن تقع تحت ديكتاتورية جديدة بعباءة إسلامية. وهذا الشعور يجب ألا نستهين به, بل نقوم بتحليله من أجل بناء مجتمع عربي معاصر, يقوم على التعددية واحترام الرأي الآخر, في جدلية الآخر, بأن نوجد الملغي لا أن نلغي الموجود.

وفي التحليل الأولي لانفجار العنف في الجزائر وامتداده وشراسته تطالعنا أربعة أسئلة: من يمارس العنف؟ لماذا يمارس العنف? ما علاقة العنف بنظام الفكر السائد? ولماذا امتاز الجزائر بإجرام من حجم خاص, تجاوز كل الصور الممكنة, ولم تحترم أي خطوط تقليدية, فتم اختراق التابو والمحرم والمقدس?

ويمتاز العنف في الجزائر بثلاث سمات تطبع شكله: عدد الضحايا, طريقة القتل, ووقت القتل! فخلال أسبوعين تمت التضحية بألف قربان إنساني, وكانت طريقة القتل مروعة لم ينج منها الأطفال والقطط, وكان وقت القتل شهر رمضان فقفزت جرعة الدم بمؤشر مضاد, ومخطط معكوس, للمخاض الروحي في شهر الصوم, حيث يمارس ضبط النفس سورة البقرة آية 21 لعلكم تتقون ورسمت معالم ليلة القدر باللون الأحمر, فكانت دماء هي حتى مطلع الفجر, مما يحرض أهل العلم والفكر أن يتناولوا هذه الظاهرة المرعبة بالتحليل.ولعلي أستطيع أن أتقدم بوصفة متواضعة قدمناها في يومها إلى الشباب الجزائري قبل الدخول في مسلسل العنف المجنون, وهي وصفة يمكن تكرارها كجرعة ترياق مضاد لسموم العنف, وحقنة (لقاح) ضد أوبئة العنف, كما يحدث في اجتياح أمراض بيولوجية مجتمعات بعينها, سواء في الجزائر أو أماكن أخرى, فالمنطقة العربية مرشحة للانفجارات في أكثر من مكان, والوباء الاجتماعي عندما ينتشر لا يفرق, فالكوليرا عندما تجتاح منطقة لا تسأل عن جنسية المصاب وهويته العقائدية, ولعلي لست مبالغاً إذا قلت إن العالم العربي في كل مكان مهيأ لانفجارات مروعة, على صورة أمراض عنف, إذا لم نسرع باللقاحات, كما نفعل نحن الأطباء بإعطاء لقاحات الكزاز والشـلل للوقاية من التشنجات والهزات الاجتماعية المدمرة, فهذا الفكر الذي أطرحه يمثل نوعية لا يخسر منه أحد ويربح الجميع.

التهاب السحايا والتهاب المجتمع

الفرق بين الأوبئة العضوية والاجتماعية أن (شلل الأطفال) و(التهاب السحايا) نتأهب فيها لتحضير اللقاحات, وشن حملة دعاية, والبدء بإعطاء الحقن والجرعات لذلك, أما في انتشار أوبئة العنف من حجم أفظع بما لا يقارن من انتشار أي مرض بيولوجي معد, فلا نستشعر نفس رهبة الخطر, مع أن ضحايا العنف تفوق كل الأمراض المعدية مجتمعة, فعندما يصل الرقم إلى (210000) مائة وعشرين ألف ضحية في الجزائر, قريب من نصف مذابح البوسنة والهرسك, لا أظن أن هناك مرضا بيولوجيا أحدث من التدمير في المجتمع الجزائري, ما أحدث مرض العنف, ولا تقف المشكلة عند موت من مات بل آثار الصدمة السيكولوجية.

الوحدة الإمراضية (UNIT) في المرض العضوي هي الفيروس أو الجرثوم, وهي في المرض الاجتماعي (الفكرة) فهناك من الأفكار (القاتلة) ما هي أشد تدميرا من فيروس الإيدز, والطاعون, واعتبر فكرة العنف هي فيروسا خطيرا من الطبقة الرابعة حسب تقسيمات المعهد البيولوجي في تصنيف خطورة الوحدات العضوية.

قبل الدخول في تفاصيل المرض علينا أن نضع أيدينا على بعض الجذور المهمة لمرض العنف في الثقافة, فنقرر ثلاثة أمور على غاية من الأهمية:

أولا: العنف شجرة خبيثة جذورها الكراهية وثمرتها الخوف, بمعنى أن مرض العنف ثقافي بالدرجة الأولى وأحد تجلياته سياسي. الكراهية ارتداد على الذات ونفي للآخر, تصب بشكل تلقائي على استبعاد وتهميش وحذف الآخر, التي تنعكس على الطرفين في لعبة التهميش والاستبعاد, الذي يقود بشكل آلي إلى الخوف من ردة فعل الطرف المقابل من الكراهية نبت العنف واستولد الخوف كحفيد من سلالة خبيثة ملعونة.

ثانيا: هذا المرض قديم فليس ابن اليوم, وبهذا يؤكد مرة أخرى على انغراسه بعمق في جينات الثقافة العربية الإسلامية.

ثالثاً: هذا التحول في الحياة العقلية ضرب بعطنه في عمق الثقافة العربية الإسلامية في وقت محدد, وارتهن الواقع في قبضة مجموعة من الأمراض الخطيرة, لعل أهمها تأليه القوة وتهميش الفكر, ويمكن تأريخ نقطة التحول الكبرى بمصادرة البيت الأموي للحياة الراشدية, بتعبير (عقيل بن أبي طالب): إن صلاتي خلف علي أقوم لديني وإن حياتي مع معاوية أقوم لمعاشي, فحصل هذا الفصام والطلاق النكد في روح المجتمع ومازال, وتاريخ الحكم بعد الحياة الراشدية هو مسلسل محموم لقنص السلطة بقوة السيف, وسكب الشرعية على محتواه الخارجي, وهكذا فالثقافة العربية الإسلامية تم اغتيالها بالسيف فهي تؤله القوة وتخضع لها, وتتحول إلى العبودية بين يديها, وخسرت لعبة تبادل السلطة السلمي دون أمل في استعادته, حتى تم بعث فكرته وتطبيقه في الغرب.

إشكالية مفهوم الجهاد

بعض تيارات العنف ترى أن الصدام مع الحكومات هو لون من الجهاد. وفريق ثان يرى أن الحكومات لا تترك متنفساً لأحد, فلابد من منازلتها بالقوة والقيام ببناء التنظيمات السرية المسلحة فهي الطريق الوحيد أمامها, عندما لا تمنح حرية الكلمة وتطارد, فليس لها ملجأ سوى النشاط تحت الأرض. وفريق ثالث يرى أن التاريخ كله بني على العنف.

لا الصدام مع الحكومات هو جهاد في سبيل الله. ولا بناء التنظيمات المسلحة تحت الأرض حل لإشكالية (حرية الكلمة) وفلسفة التعبير والنشاط الاجتماعي. ولا تاريخ الثورات الإنسانية كلها عنف, فأعظم ثورة في تاريخ الجنس البشري هي ثورة محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم كانت دون عنف, ولا يعني عنف بعضها تبرير العنف.

والجهاد بمعنى القتال المسلح يجب أن يفهم ضمن (شروطه) و(وظيفته) نظراً لخطورته بما يترتب عليه من سفك الدماء.

الجهاد لم يشرع لـ (نشر الإسلام) وهذا واضح في عشرات الآيات المتناثرة في القرآن, وحرر هذا المعنى قديما ابن تيمية. الجهاد كـ (وظيفة) مسلط ضد من يمارس (الظلم) على الإنسان على شكلين:إخراج الناس من (ديارهم) و(عقائدهم) بالقوة المسلحة سورة الممتحنة آية 9 إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم.

الجهاد كـ (وظيفة) لا يهدف الى دفع الناس بالقوة المسلحة لاعتناق الإسلام فهذا واضح ومؤكد. الجهاد هو أقرب إلى الدعوة لإقامة (حلف عالمي) لدفع الظلم عن الإنسان أين كان ومهما دان, ضد أي قوة تستخدم القوة المسلحة والإكراه ضد البشر, لاعتناق أو ترك مبدأ ما, أو ترك ديارهم, حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله, تمهيداً لإقامة (مجتمع اللا إكراه في الدين).

انتبه إلى ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم عن حلف (الفضول) فلو دعي له في الإسلام لأجاب, دفاعا عن المظلومين والمضطهدين في الأرض.

"شروط" الجهاد تقع ضمن حدين في (المجاهد) بالكسر و(المجاهد) ضده بالفتح فهو (آلة) ليست للاستعمال (الفردي) أو أن تتبناه (جماعة) أو (فرقة) أو (حزب) يدعي لنفسه الحق في استخدام هذه الآلة الخطيرة, التي يترتب عليها الفتنة وسفك الدم وإزهاق الأرواح.

هذه "الأداة" مسخرة وجاهزة ومسموح بها وتوضع فقط في يد (الدولة) لأن الدولة هي التي تحتكر العنف وتمارسه, ولكن ليس (كل) و(أي) دولة, فهي أداة خطيرة يجب أن تكون في يد من منح شرعية استخدامها, وهي حسب مصطلحات الإسلام (الدولة الراشدة) التي تصل إلى الحكم برضا الناس, فهي (أداة) تستعمل عند (الضرورة المطلقة) وحسب (السياسة الشرعية) ضد (الظالمين) أيا كانت صورهم وعقائدهم ولو كانوا مسلمين.

هذه المتحارجة الخطيرة فاتت الكثيرين, فأعلنوا العصيان المسلح ومنهم الخوارج قديماً, والحركات المعاصرة المسلحة السرية الإسلامية والعلمانية على حد سواء للإطاحة بالأنظمة, تحت شعار الجهاد في سبيل الله, أو العنف الثوري.

النموذجان التركي والجزائري

النموذج التركي لم ينفجر حتى الآن, فأربكان منذ عشرين سنة أدرك خطورة الانزلاق إلى العنف فقام بتحييده, وكما كانت تركيا الدولة الأولى التي ودعت الخلافة العثمانية, التي لم تكن راشدة, باتجاه القطب الأوربي العلماني, سابقة العالم الإسلامي نصف قرن باتجاه الحداثة, يبدو أنها ستكون الدولة الإسلامية الأولى التي ستنجح في بناء الخلافة الإسلامية, هذه المرة على شكل (راشدي) وغير بيزنطي, بوجود أربكان وعدمه.

تتمنى الآلة العسكرية التركية الصدام المسلح مع التوجه الإسلامي الجديد, فهي الحلبة التي تتقن فيها توجيه الضربة القاضية, وقطع رقبة الحركة إلى أجل غير مسمى. أربكان وبوعي متفرد يعرف أن المستنقع يخرج البعوض, فلا يرهق نفسه في حرب البعوض. هو يريد تجفيف المستنقعات الكثيرة في هضبة الأناضول. أربكان يعرف أن حرب البعوض خاسرة وهي أقرب إلى معارك دون كيشوت, فهو يراهن على تغيير وعي الأمة البطيء فلا يمكن اغتياله بآلة عسكرية, لأنه تحرر من القوة وتأليهها.

نموذج أربكان هو نوعية جديدة للصراع مع (شبه الديمقراطية) (PSEUDODEMOCRACY ) في آلية تحييد العنف, ونقل شكل العمل إلى كتلة هلامية لا يمكن كسرها أو بلورتها أو محاصرتها أو قطع رأسها, فلا حرج من إلغاء الحزب, أو تغيير الاسم, أو إيقاف النشاط, أو نقل صورته وطاقته إلى شكل مغاير, كما في تحولات أشكال الطاقة من الكهرباء إلى الحرارة والحركة وبالعكس, ففي جو المحنة يصبح المؤمن مثل خامة الزرع التي وصفها الحديث (تصرعها الريح تفيئها وتعدلها حتى تهيج وتنضج, وأما المنافق فمثل الأرزة المجذية يكون انجعافها مرة واحدة).

أما النموذج الأفغاني فهو يحمل شهادة عجيبة, على جدلية المشكلة الداخلية الثقافية في العالم الإسلامي, فالسوفييت انسحبوا منذ أمد بعيد, والصواريخ مازالت لغة التفاهم, وفي النموذج الصومالي تهدمت (البنية التحتية) بالكامل, وفي النموذج الجزائري رسمت خطوط الكتابة والتفاهم اليومية بالدم الأحمر, وبقتل نادر متميز لم ينج منه الأطفال والقطط.

آلية الانهيار داخلية بحتة

العنف والسيف لعبا الدور الحاسم في انهيارين خطيرين, كمل كل منهما الآخر في أحشاء الحضارة الإسلامية, كمرض عضال أسلمها إلى الاختفاء كقوة سياسية عالمية مهيمنة.

كانت الصدمة الأولى في مصادرة الحياة (الراشدية) وعجز المجتمع الإسلامي بعده عن آلية (نقل السلطة السلمي) ومازال, وكانت الكارثة الثانية عقلية عندما تم تأميم (الحركة العقلية) بإعلان إغلاق باب الاجتهاد, وترتب على هذا انطفاء وهج الحضارة الإسلامية.

الحضارة تتدهور بفعل انهيار الجهاز المناعي الداخلي, أكثر من أي هجوم خارجي مهما بلغ زخمه, فالانهيار العقلي في الشرق تم قبل الاجتياح الاستعماري بفترة طويلة تحت قباب القاهرة وقيروان ودمشق, في رحلة إفلاس وضمور وانكماش عقلي واسع النطاق. وهو ما انتبه له ابن خلدون حينما أرخ لهذا الانهيار الذي يلف العالم الإسلامي كله مع مطلع القرن التاسع الهجري.

هذه الحقيقة الصاعقة يجب أن نستوعبها, فما لم نعرف نحن أين لن نعرف التوجه إلى أين?? إننا بحاجة إلى إحداثيات تاريخية للتوجه كما نرى!

إن مرض العنف ليس سياسياً بالدرجة الأولى, وليس محصورا في منطقة بعينها, وليس فترة مؤقتة مر بها المجتمع. هذا المرض ثقافي بعمقه, والسياسي هو حفيد المثقف, وهو مرض مزمن ينخر في عمق الثقافة وأحشائها الداخلية, وتظن المعارضة أنها إذا قامت باغتيال ما تراه باطلا فسوف يسود الحق, وهذا وهم سقيم, وعدم إدراك الواقع, وسنة التاريخ, وقراءة الأحداث العالمية, وانتبه إلى ذلك ابن خلدون عندما تحدث عن العصيان المسلح الذي يقوم به البعض, ممن لا يدرك سنة التغيير فيقود إلى الفتن وسفك الدماء.

نفق مسدود

تعيش الثقافة العربية المعاصرة في معظمها حالة أزمة مستحكمة, بين عجز الأنظمة, ونقمة المعارضة, ووهم تيارات الإسلام السياسي, فكثير من الأنظمة يعاني من هزائم عسكرية وترد داخلي وغرق في الديون الخارجية, والمعارضة تتربص بالأنظمة وترى أن السيف أصدق إنباء من الكتب, وترى أن المراهنة على النجاة هي بإزاحة الأنظمة واحتلال مكانها, فتنتهي المشاكل بعصا سحرية ودفعة واحدة, وترى تيارات الإسلام السياسي أن كل الحل عندها. وجميع الأطراف في نفق مظلم لا يتبين أحد نهايته, وكل في فلك واحد من الثقافة يسبحون, فلا الأنظمة نجحت, ولا المعارضة كانت عاقلة, ولا تيارات الاسلام السياسي بيدها الحل.

ما يحدث في الجزائر اليوم ليس جهاداً في سبيل الله, بل هو أقرب إلى إحياء الصراع المشئوم (الخارجي ـ الأموي) فلا الحكومة الجزائرية هي خلافة إسلامية تدار من أمير المؤمنين عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) ولا الجماعات الإسلامية تجاهد في سبيل الله, وما يحدث هو (الفتنة) التي تحدثت فيها الأحاديث النبوية, ويتوجب في مثل هذه الحالة أن نحطم الأسلحة التي بحوزتنا, والاستعداد للموت على أن نقتل الآخرين, فهذا هو مفتاح لجم حرائق الحرب الأهلية.

الخروج من المأزق

ثلاث قضايا يجب تقريرها: كانت جبهة الإنقاذ على وشك الفوز بالانتخابات فهذه واحدة, والجيش قطع عليها الطريق وهذه حقيقة ثانية, ولجأ الطرفان إلى حل المشكلة بخطوط دموية. الطبيب الذي يعالج مريضه بقتله يتحول إلى مجرم يرتدي معطفاً أبيض.

ليس الوصول إلى السلطة إلا أول التحدي, والعبرة هي بامتحان الجلوس على كرسي السلطة اللذيذ, التي اعتبرها الحديث أنها (ستكون ندامة يوم القيامة) فالإصرار على دخول مصيدة الحكم كان ومازال مقتل الحركات السياسية.

كان مخرج الأمة هو الوعي الحاد والتدريب على ممارسة (العصيان المشروع) من خلال استراتيجية ذات أربعة مفاصل: عدم ممارسة العنف بكل أشكاله, وتقبل العنف الذي يصدر من الآخرين بصدور مفتوحة, وجعلهم يملون من ممارسة العنف بالصبر على تحمله, وعدم مقابلة العنف بأي عنف سورة إبراهيم آية 12 ولنصبرن على ما آذيتمونا.

كان ينبغي ارتكاب (المخالفة المحددة) بوعي وإصرار وعدم تراجع.. لا يضربون ولا يهربون ولا يطالبون بالإفراج عن المسجونين, بل يطالبون بأخذهم إلى السجن في حملة جماعية تتناول عشرات الآلاف وهم يحملون العلم الجزائري, تفجر الخوف من السجن ومن داخله, وبأيديهم الورود يضعونها في فوهات بنادق الجنود ويقولون: أيها الجندي المسلم لا تقتل أخاك.. ويقولون لرجال الأمن: لا حاجة لأن تأخذونا بسيارتكم دلونا على المكان ونحن قادمون بالتهليل والتكبير??

إن أي نظام لا يمكن أن يعتقل ربع الأمة ولا عشرها, ولا التورط باعتقال عشرات الآلاف فكيف إذا كانت مقاومة سلمية تشترك فيها كل شرائح الأمة من الجنسين.

هذا الأسلوب يجب اتباعه لبناء الديمقراطية والتعددية واحترام الآخر والاعتراف به في بناء السلطة والمحافظة عليها, فعندما يصل المسلمون إلى السلطة ويتحولون إلى هرقل جديد, يقاومون بنفس الطريقة من تدشين (العصيان المشروع) وتحمل الأذى في سبيل ذلك ليس الصيام آخر أسلحته.

طريق أكثر ضمانة, وأعظم بركة, وأقل تكليفا, تولد فيه الأمة ولادة جديدة, ويخرج نموذج جديد للإنسان رحماني القلب, تفتح لقلبه مغاليق أسرار الملكوت, إنساني القسمات, ديمقراطي الممارسة, يعف عن الدم الحرام وتعذيب الإنسان, محرر من غرور القوة ووهم السلطة.

تكتيك أبي ذر في المقاومة

كان الرسول صلى الله عليه وسلم يتأمل أبا ذر يوما وهو قادم ثم قال: رحم الله أبا ذر يمشي وحده ويموت وحده ويبعث يوم القيامة وحده. ما المثير في شخصية أبي ذر? كان موقفه في الانحراف السياسي هو التكتيك الذي طرحناه: يعترض على الانحراف فلا يستعمل سلاح الخوارج, ولا انتـهـازية الأمويين, ولا التنظيم الشيعي المسلح المتربص للانـقـلاب العسكري.

ولكنها طريقة تحتاج إلى ثلاثة عناصر: شخصية كارزيمائية قيـاديـة, ووعي حاد وتثقيف جماهيري, وممارسـة ميدانية.. وكل هذه العناصر كان يمكن توفيرها في الصـراع الجزائري ومازال لتحييد العنف, قبل الانزلاق في أتون حرب أهلية تكلف أكثر من الثـورة القديمة ضد المستعمر الفرنسي.

إن ما هو أعظم من الاستقلال هو تحرير الذات من الذات.

 

خالص جلبي