جارودي وتاريخية أحكام القرآن الكريم

جارودي وتاريخية أحكام القرآن الكريم

(التاريخية.. والتاريخانية) هي نفي الخلود عن معاني وأحكام النصوص الدينية, والادعاء بأنها (نسبية), لاءمت زمان نزولها, فلما تطور الواقع, طويت صفحاتها مع طي صفحات التاريخ, ولقد عممت الوضعية الغربية هذه النزعة (التاريخية) على كل النصوص الدينية, دونما تمييز بين نصوص المبادئ والقواعد والأحكام التي جاءت في الثوابت, وبين تلك التي جاءت في (الفقه) ـ علم الفروع لمتغيرات المعاملات الدنيوية! أي دونما تمييز بين الوحي الإلهي وبين الاجتهاد البشري!

ولقد تبنى جارودي هذه النزعة التاريخانية, بل وهاجم الحركات الإسلامية ـ أو الأصولية الإسلامية, بتعبيره ـ لأنها رفضت (تاريخية, وتاريخانية) أحكام القرآن الكريم!

يقول جارودي: (إن الله, في القرآن كما في التوراة والأناجيل, يكلم الإنسان في التاريخ. إن كبار المفسرين الأوائل للقرآن, كالطبري, يذكرون بالظروف التاريخية التي نزلت فيها كل آية. والمقصود دائما هو جواب عيني من الله عن مسألة كانت أمة النبي تطرحها عليه. إن هذه (التاريخانية) لاتنقص شيئا من قيمة الرسالة الشمولية والأبدية. فكل تنزيل من تنزيلات الأزلي في التاريخ, يتضمن مبدأ عمل صالح لكل الشعوب وكل العصور, لكنه يرتدي شكلا خاصا, مرتبطا بظروف هذا العصر وهذا البلد.

إن كل آية من القرآن هي جواب إلهي عن مسألة ملموسة. وهذا لايلقي الشك إطلاقا على الطابع الإلهي للتنزيل هذا, بل يضعه في عصر من تاريخ شعب ومن ثقافته وحياته. فجواب مسألة تاريخية هو من وحي إلهي, هو (قدوة) وليس مادة في قانون مجرد, لايستلزم سوى استنتاج النتائج. إنه نقيض القانون الروماني, ولذلك, فالخليفة عمر بن الخطاب, لم يتردد في التصرف خلافا لآيات القرآن المحكمة, عندما يمكن لتطبيقها الحرفي أن يسير في عكس روحية الكتاب ـ وذلك في موضوع المؤلفة قلوبهم ـ وبالروحية ذاتها, حظر على المقاتلة, عندما ساد بلاد الشام, تطبيق الآية القرآنية حول تقاسم الفيء بين الغالبينسورة الحشر آية 7 ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كي لايكون دولة بين الأغنياء منكم, وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا, واتقوا الله إن الله شديد العقاب (سورة الحشر7) ودائما بالروحية ذاتها, علق عمر حد قطع السارق في زمن المجاعةسورة المائدة آية 83 والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله, والله عزيز حكيم (سورة المائدة 83).

تلك هي نصوص جارودي, حول دعوى (تاريخية.. وتاريخانية) الوحي الإلهي والأحكام والتشريع في القرآن الكريم, وهي الدعوى التي ترى (وقتية) الأحكام, واستمرار (القدوة) المستخلصة منها, لكن في أشكال مغايرة بأحكام متجددة, استنادا إلى (التاريخية) التي تنفي (الإطلاق), وبدعوى أن هذه الأحكام, بل وجميع آيات القرآن إنما نزلت (جوابا معينا) عن مسألة تاريخية معينة, فلهذه الآيات ـ وخاصة أحكامها ـ تاريخية المسائل والوقائع والظروف التاريخية التي نزلت جوابا عنها واستجابة لها.

النسبي والمطلق

ونحن, إذ نرفض هذه التطبيقات للمنهج التاريخي والتـاريخـاني ـ الذي هو صادق وخاص بـ (النسبي ـ البشري) ـ على (المطلق ـ الإلهي), ننبه على عدد من النقاط التي توجز حيثيات اعتراضنا على هذه التاريخانية ورفضنا لها.

1 ـ فالجانب التشريعي في القرآن الكريم, عندما جاء بالأحكام في الأمور الثوابت, ووقف في المتغيرات عند الأطر والكليات وفلسفات التشريع, ومبادئ وقواعد ومقاصد التشريع, قد نأى بنفسه عن المجالات التي تستدعي التاريخية والتاريخانية, كحل لتناقض (التغير) مع (الثبات), لقد فصل التشريع القرآني في الثوابت, وفتح باب الفقه المتجدد في المتغيرات, مع وضع هذا الفقه في الإطار الإسلامي, عندما يلتزم مبادئ وقواعد ومقاصد التشريع في القرآن الكريم, فليست هناك حاجة أصلا, تستدعي التاريخية والتاريخانية إلى الجانب التشريعي في القرآن الكريم, أما الجانب العقدي, فلا أظن أن مؤمنا يتوهم خضوعه لهذه التاريخية, التي تنفي الثبات عن عقائد مثل الألوهية والتوحيد والنبوة والرسالة والغيب والحساب والجزاء, إلخ..إلخ.

2 ـ ثم إن القاعدة الأصولية التي اعتمدها وأجمع عليها أئمة الإسلام, والقائلة عن ألفاظ القرآن وآياته وأحكامه: (إن العبرة بعموم اللفظ لابخصوص السبب), قد جمعت بين (العموم والإطلاق) اللذين تفيدهما معاني الألفاظ, مع مراعاة (التاريخية) التي تفيدها ملابسات أسباب نزول الآيات ـ التي روي لها سبب نزول ـ فهي ـ القاعدة ـ لاتهدر (التاريخية) بتجاهل دلالات أسباب النزول, ولاتجعل هذه (التاريخية) إلغاء للعموم والإطلاق بتخصيص الحكم العام بسبب النزول دون سواه, ومن ثم فهي تنفي, بهذا الجمع بين (العموم) وبين (التاريخية) ـ بهذا المعنى الخاص للتاريخية ـ جعلهما نقيضين وضدين, ومن ثم يتسق هذا الجمع مع طبيعة النص القرآني, كشريعة خاتمة, ومن ثم خالدة, وكمصدر دائم للتشريع في المستجدات والمتغيرات.

3 ـ إن التطبيقات النبوية للأحكام التي كان لآياتها أسباب نزول, شاهدة على صدق هذا المنهاج الإسلامي الجامع بين (عموم اللفظ) وبين (دلالات سبب النزول) (فالسبب) هو مناسبة لنزول الحكم, وليس علة له حتى يدور الحكم معه وجودا وعدما, والتطبيقات النبوية للأحكام التي رويت لآياتها أسباب نزول عممت هذه الأحكام في الأمة, ولم تخصصها بالأشخاص الذين نزلت فيهم ولهم هذه الآيات. والأحاديث النبوية, التي روت هذه السنة العملية والتطبيقات النبوية لهذه الأحكام القرآنية كثيرة وشهيرة, ولقد أوردنا في كتابنا (سقوط الغلو العلماني) ـ في معرض الرد على من قال مثل هذا الذي يقول به جارودي ـ عشرات التطبيقات العامة لأحكام كان لآياتها أسباب نزول.

وهذه الحقيقة من حقائق التشريع الإسلامي, هي التي جعلت العلماء الذين بلوروا, في تراثنا, (علم أسباب النزول), هم أنفسهم الذين تحدثوا عن هذه (الأسباب) باعتبارها (مناسبات النزول) و(أزمان النزول), وليس باعتبارها (علة التشريع للأحكام), وبعبارة الزركشي (745 ـ 794 هـ 1344 ـ 1392م): فإنه (قد عرف من عادة الصحابة والتابعين أن أحدهم إذا قال: نزلت هذه الآية في كذا, فإنه يريد بذلك: أنها تتضمن هذا الحكم, لا أن هذا كان سبب نزولها), وبعبارة السيوطي (849 ـ 911هـ 1445 ـ 1505): (.. والذي يتحرر في سبب النزول: أنه ما نزلت الآية أيام وقوعه).. وبعبارة ابن تيمية (166 ـ 827 هـ 3621 ـ 8231م): فإن القائلين بأسباب النزول (لم يقصدوا أن حكم الآية يختص بأولئك الأعيان ـ الذين نزلت فيهم ـ دون غيرهم, فإن هذا لا يقوله مسلم ولا عاقل على الإطلاق, فلم يقل أحد إن عمومات الكتاب والسنةتختص بالشخص المعين, وإنما غاية مايقال أنها تختص بنوع ذلك الشخص, فتعم مايشبهه).

4 ـ إن حديث جارودي عن وجود (ظروف تاريخية نزلت فيها كل آية) من آيات القرآن, وعن (أن كل آية من القرآن هي جواب إلهي عن مسألة ملموسة, وهي جواب عيني من الله عن مسألة كانت أمة النبي تطرحها عليه).هو حديث غريب, وادعاء لا علاقة له بالعلم بأسـباب النزول في القرآن الكريم.

فمن قال إن كل آيات القرآن لها أسباب نزول? وأن جميع الآيات هي أجوبة عينية عن أسئلة طرحتها الأمة على النبي?!

إن السيوطي, الذي توسع (فجمع) كل الروايات في أسباب النزول ـ وجميعها أحاديث آحاد: قد بلغت الآيات التي روى فيها سبب نزول عنده 888 آية, من جملة آيات القرآن, البالغة 6236 آية, أي أن نسبتها إلى آيات القرآن لاتتعدى 14%.

أما الواحدي النيسابوري (468 هـ 1075م) ـ وهو الذي تحرى في رواية أحاديث أسباب النزول ـ فإن عدد الآيات التي ثبت عنده أن لها أسباب نزول هي 472 آية, أي 7.5% من جملة آيات القرآن الكريم!

فادعاء جارودي عن وجود سبب نزول لكل آية, وأن كل آية قد جاءت جوابا معينا لسؤال مطروح, هو ادعاء غريب على مفكر وفيلسوف مثل جارودي, وأغلب الظن أن (علم) الرجل هو ضحية للنقل عن غير العلماء!

5 ـ وهذا الذي صنعه عمر بن الخطاب ـ مع سهم المؤلفة قلوبهم, وتوزيع أرض الشام ومصر والعراق, وحد السرقة في عام المجاعة ـ لم يخالف فيه وبه آيات القرآن المحكمة, كما قال جارودي.

فعمر (أوقف) تطبيق الحكم عندما فقه الواقع فلم يجد شروط تطبيق الحكم وإعماله متوافرة في هذا الواقع, وظل الحكم خالدا ودائما, ككل تشريع إلهي, مع تعلق تطبيقه أو وقف تطبيقه بتوافر شروط التطبيق في الواقع أو تخلفها.

فعمر, أوقف إعمال وتطبيق حكم سهم المؤلفة قلوبهم, عندما خلا الواقع من علة التأليف للقلوب, بعد أن قوي الإسلام وانتصر المسلمون, لكن هذا الحكم ظل تشريعا إلهيا خالدا, في مصارف الزكاة, طبقه المسلمون ـ بعد عصر عمر ـ في ظروف ضعف الدولة بسبب المنازعات الداخلية, على عهد عبد الملك بن مروان (26 ـ 86 هـ 646 ـ 705م) في العلاقة بالدولة البيزنطية, وتكرر تطبيقه في معاهدات ومعاملات إسلامية مع شعوب ومدن جاورت الدولة البيزنطية إبان الصراع بينهما.

وهو أوقف إعمال وتطبيق حد السرقة, في عام الرمادة, وإزاء ملابسات واقعية محددة, وفي جزء بعينه من البلاد ـ حيث عمت واشتدت المجاعة ـ لكن حكم حد السرقة بقي قائما, يطبق في البلاد التي لم تصبها المجاعة ـ حتى في عام الرمادة ـ وفي سائر البلاد بعد انقشـاع ضائقة المجاعة, وعلى مر تاريخ الإسلام.

اجتهادات عمر

أما إشارة جارودي إلى اجتهاد عمر بن الخطاب في جعل الأرض المفتوحة ـ بالعراق والشام ومصر ـ وقفا على الأمة, ورفضه توزيع أربعة أخماسها على الجند الفاتحين, كما فعل رسول الله, صلى الله عليه وسلم, مع أرض (خيبر) وتوهمه ـ مع الذين نقل عنهم ـ مخالفة اجتهاد عمر لنص الآية القرآنية سورة الحشر آية 7 ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كي لايكون دولة بين الأغنياء منكم, وما آتاكم الرسول فخذوه ومانهاكم عنه فانتهوا, واتقوا الله إن الله شديد العقاب (الحشر7).

فهو وهم, لاعلاقة لهم بفقه النص القرآني, ولابفقه وقائع التاريخ!

فعمر لم يخالف النص القرآني, لأن الآية تتحدث عن قسمة الفيء على النحو الذي لايؤدي إلى أن يصبح المال دولة بين الأغنياء, فيتركز الغنى في جانب والفقر في جانب آخر, ولقد قسم رسول الله, صلى الله عليه وسلم أرض خيبر على النحو الذي حقق مقاصد التشريع في قسمة الفيء, فلما كان فتح أرض أودية الأنهار الكبرى ـ النيل, ودجلة والفرات, وبردى ـ وأراد نفر من الفاتحين أن توزع عليهم هذه الأرض كما وزعت أرض خيبر على فاتحيها, رفض عمر ذلك, وكان في رفضه هذا منحازا للنص القرآني, فأنصار توزيع أربعة أخماس هذه الأرض, على الفاتحين لم تكن حجتهم الآية القرآنية, وإنما كانوا يقيسون أرض العراق والشام ومصر على أرض (خيبر), بينما رأي عمر أن هذه الأرض, التي تمثل معظم مصادر الثروة في الدولة الإسلامية, إذا أعطيت لقلة من الجند الفاتحين, كان في ذلك جعل المال ـ معظم المال ـ دولة بين قلة من الأغنياء, وهو ماتنهى عنه الآية, وتعتبره المحظور في أي تعاملات في قضية الفيء سورة الحشر آية 7كي لايكون دولة بين الأغنياء منكم فخصوم عمر كانوا مع (القياس على سنة نبوية), هي من (تصرفات الإمام) في المتغيرات الدنيوية, أي أنها ليست بلاغا قرآنيا ودينا متبعا, بينما كان عمر مع البلاغ القرآني, الذي يحذر من أن يصبح المال دولة بين الأغنياء دون الفقراء ولذلك, قال عمر وهو يحاور أنصار توزيع الأرض على الفاتحين: (ما هذا برأي, ولست أرى ذلك, والله لايفتح بعدي بلد يكون فيه كبير نيل ـ (أي كبير نفع) ـ بل عسى أن يكون كلاً (عبئا) على المسلمين, فإذا قسمت أرض العراق بعلوجها (فلاحيها) وأرض الشام بعلوجها, فما يسد به الثغور? وما يكون للذرية والأرامل بهذا البلد وبغيره من أرض الشام والعراق? لقد أشرك الله الذين يأتون من بعدكم في هذا الفيء سورة الحشر آية 10والذين جاءوا من بعدهم..(الحشر8) فلو قسمته لم يبق لمن بعدكم شيء, ولو قسمته بينكم إذن أترك من بعدكم من المسلمين لاشيء لهم, فكيف أقسمه لكم, وأدع من يأتي بغير قسم?! لولا آخر الناس ما فتحت قرية إلا قسمتها كما قسم رسول الله خيبر).

فعمر كان مع النص القرآني, الذي يحظر ـ في كل المعاملات المالية ـ أن يصبح المال دولة بين الأغنياء, ومع النص القرآني الذي يجعل الأمة, بأجيالها المتعاقبة, مستخلفة في مال الله وأرض اللهسورة الحديد آية 7وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه(الحديد 7) سورة الرحمن آية 10 والأرض وضعها للأنام(الرحمن 10) ولم يكن, كما قال جارودي, مخالفا لحكم آيات القرآن!

فالشريعة الإسلامية ـ أحكاما ومبادئ وقواعد ومقاصد ـ هي المصدر لكل التقنيات الفقهية والتطبيقات الحقوقية, كفلت ذلك على مر تاريخها, وهي جديرة به اليوم وغدا, مادام هيأ الله لها العقول المجددة والمجتهدة, التي تفقه الأحكام وتفقه الواقع, وتعقد القرآن بينهما, وإذا كان (للتاريخية, والتاريخانية) مكان ـ وهو قائم ـ فإن مكانها هو في فقه الواقع التاريخي المتجدد, وليس في تجاوز ثوابت التنزيل, فمتغيرات الواقع التاريخي قد تقتضي (إيقاف إعمال الحكم), عندما لاتتوافر شروط إعماله, لكنها (لاتعدم الحكم) ولا (تتجاوزه), وإنما يظل الحكم الشرعي قائما, يعود إلى العمل والإعمال عندما تتوافر له شروط التطبيق, فالتاريخية واردة في (فقه الواقع) وليست واردة في (ثوابت أحكام الشريعة), ناهيك عن القواعد والمبادئ والمقاصد, التي هي المساحة الأعظم في شريعة الإسلام.

تلك هي حقائق الموقف الإسلامي من السنة النبوية, ومن علاقة الشريعة الإلهية بالفقه والقانون, ومن تاريخية وتاريخانية الأحكام, وهي حقائق أخطأ في فهمها جارودي, ولم يخطئ فيها أو يختلف عليها أحد من الإسلاميين!

 

محمد عمارة

 
  




روجيه جارودي