المدافع.. لا تقرأ القرآن!
المدافع.. لا تقرأ القرآن!
في يوم السبت 6 مارس 1801 م اجتمع (ديوان القاهرة), وهو مؤسسة أهلية أنشأها الفرنسيون أثناء احتلالهم لمصر, لتساهم معهم في إدارة شئون البلاد وتنوب عنهم في الاتصال بأهليها, وحضر الاجتماع ـ الذي عقد ببيت رضوان بك بحارة عابدين ـ أعضاء الديوان التسعة من مشايخ الأزهر وكبار التجار, ورأسه الشيخ (عبدالله الشرقاوي) شيخ الأزهر. افتتح المسيو (فورييه) ـ القومسيير الفرنسي المشرف على الديوان ورئيسه الفعلي ـ الاجتماع مؤكدا أن الأسطول التركي الإنجليزي الذي وصل إلى ميناء الإسكندرية ليكرر محاولة إجلاء الفرنسيين عن مصر, سوف يهزم شر هزيمة وتحدث بفزع عن التوتر الذي يسود شوارع العاصمة بما يوحي بأن أهل القاهرة قد يكررون ما فعلوه قبل ذلك بعام, حيث انتهزوا ظرفا مشابهاً وثاروا ضد الفرنسيين. وبإشارة منه, شرع الترجمان الكبير (روفاييل) في قراءة منشور أصدره قائد الحملة, يدعو فيه المصريين لالتزام الهدوء والسكينة, ويحمل أعضاء الديوان المسئولية عن كل شغب يحدث في المدينة, ويهدد بعقوبات جماعية تطول الجميع: الثائر وغير الثائر والمفسد والمصلح والمذنب والبريء. ولم يكن مشايخ الديوان في حاجة إلى من يذكرهم بأشكال العقوبات الجماعية التي يتوعدهم بها الفرنسيون, ففضلاً عن أنهم كانوا قد خبروها على امتداد السنوات الثلاث السابقة, فقد كانت آثار ضرب القاهرة بالمدافع, وحرق الأحياء الآهلة بالسكان, لاتزال ماثلة للعيان في شوارع العاصمة, ولم يكن سكانها قد أتموا بعد جمع غرامة قدرها اثنا عشر مليون فرنك وعشرة آلاف طبنجة, وعشرين ألف بندقية, ومثلها من السيوف, فرض عليهم الفرنسيون أن يتضامنوا جميعاً في دفعها. وما كاد الترجمان (روفاييل) ينتهي من قراءة الإنذار, الذي أمضاه قائد الحملة بتوقيع (خالص الفؤاد: الجنرال عبد الله جاك منو), حتى قال أحد مشايخ الديوان:إن العقلاء لايسعون في الفساد, وإذا تحركت فتنة, لزموا بيوتهم. فقال المسيو (فورييه): ينبغي للعقلاء,, ولأمثالكم نصيحة المفسدين, فإن البلاء يعم المفسد وغيره. قال شيخ آخر من أعضاء الديوان: هذا ليس بجيد, بل العقاب لايكون إلا على المفسد, والله تعالى يقول: كل نفس بما كسبت رهينة. وأضاف شيخ ثالث: ويقول تعالى أيضا ولاتزر وازرة وزر أخرى! ولم يجد (المسيو فورييه) ما يرد به على منطق مشايخ الديوان, فحسم المناقشة قائلا: المفسدون فيما تقدم أهاجوا الفتنة, فعمت العقوبة, والمدافع لاعقل لها حتى تميز بين المفسد والمصلح, فإنها لا تقرأ القرآن. ذلك مشهد واحد من آلاف المشاهد ذات الدلالة في تاريخ الاحتلال الفرنسي لمصر, الذي انقلبت خلاله الأدوار, وتغيرت الأفكار, وتبادل فيه المتقدمون والمتخلفون المراكز. فقد كانت مصر حين وصلتها الحملة الفرنسية لاتزال تعيش في ظلمات العصور الوسطى بعد أن فقدت استقلالها على امتداد ثلاثة قرون من الحكم العثماني, وفقدت معه الأمن والاستقرار والازدهار, فجفت الترع وتعطلت الزراعة, وانتشرت الأمراض والأوبئة والفتن, واضمحلت الصناعات, وانقطعت صلتها بالعالم, فانحطت الآداب والفنون والأفكار وتفشى الجهل والخرافة. وكانت فرنسا ـ يوم خرجت منها الحملة إلى مصر ـ هي فرنسا الثورة الكبرى, التي لم يكن قد مضى على نشوبها سوى عشر سنوات, وهي الجمهورية الأولى التي لم يكن قد مضى على تأسيسها سوى سبع سنوات, وهي فرنسا (إعلان حقوق الإنسان) والمواطن الذي قنن أفكار (فولتير) و(مونتسيكيو), و(روسو), فكفل حريات التملك والرأي والعقيدة باعتبارها حريات طبيعية, وضمن حق الشعوب في اختيار من يحكمها ومحاسبته, وحقها في مقاومة الاستبداد والظلم, وأقر مبدأ الفصل بين السلطات والمساواة أمام القانون وشخصية العقوبة, وحظر الاعتقال بلا محاكمة, والاتهام بلا قانون, والعقوبة بلا دفاع وأدان العقوبات الجماعية والتعذيب الوحشي. وكانت حملة مصر, تعبيراً عن إيمان الثوار الفرنسيين بأن الواجب الإنساني يفرض عليهم العمل على نشر مبادئ الثورة الفرنسية, خارج حدود بلادهم, حتى تسعد البشرية قاطبة. ويتحرر الإنسان من قيود الرق والعبودية, لذلك حرص قائدها (ساري عسكر بونابرته الكبير), على أن يؤكد للمصريين, في أول منشور يوجهه إليهم, أن بلادهم قد أصبحت جزءاً من (الجمهور الفرنساوي) ـ على حد تعبير (الجبرتي) ـ وعلى أنه (قادم إليهم من طرف الفرنساوية المبني على الحرية والتسوية) لكي (يخلص مصر من الظالمين) ولأنه يؤمن بأن جميع الناس متساوون عند الله لايفرقهم عن بعضهم إلا العقل والفضائل والعلوم فقط, فقد بشرهم بأنه (من الآن فصاعداً, لاييأس أحد من أهالي مصر قاطبة عن الدخول في المناصب السامية وعن اكتساب المراتب العالية فالعلماء والفضلاء والعقلاء من بينهم سيدبرون الأمور ـ أي يتولون الحكم ـ وبذلك يصلح حال الأمة كلها). بعد ثلاث سنوات من ذلك التاريخ, حدث ذلك المشهد من مشاهد المواجهة بين (خالص الفؤاد عبدالله جاك منو) خليفة (نابليون بونابرت), والقادم مثله من طرف الفرنساوية المبني على الحرية والتسوية, ومشايخ الديوان القادمين من ظلمات العصور الوسطى, فإذا به يهددهم بكل ما يحظره إعلان حقوق الإنسان والمواطن, أما هم فقد أحرجوا القومسيير (فورييه) ـ عالم الرياضيات الكبير ـ حين واجهه بأن ذلك ليس طيباً, لأن قرآنهم الكريم, قد أقر مبدأ شخصية العقوبة قبل أكثر من ألف عام, فلم يجد الثائر الليبرالي القادم من طرف الفرنساوية المبني على الحرية والتسوية, ما يرد به على منطقهم, إلا الاعتذار السخيف بأن المدافع لاتقرأ القرآن, ولو أنصف لأضاف: ولا إعلان حقوق الإنسان! فهل كانت الحملة الفرنسية على مصر (يونيو 1798/أكتوبر 1801) ـ في ضوء ذلك المشهد من مشاهد المواجهة بين الغرب والشرق, وبين الأوربيين والعرب, هي بوتقة التفاعل الصحيح بين أفكار الثورة الفرنسية والفكر العربي? وهل يمكن أن نعتبر تلك الحملة, هي البداية الصحيحة للتاريخ العربي الحديث فنعترف لها بالفضل الرئيسي في إنهاء القرون الوسطى العربية, وتحطيم النظام الإقطاعي العربي ودخول العرب إلى آفاق عصرالقومية والتقدم والتنوير والديمقراطية? ولو كان الأمر كذلك, فإلى أي وجه من وجوهها يعود هذا الفضل: إلى الفعل الذي هو الحملة, أم إلى رد الفعل الذي هو المقاومة? تلك أسئلة من النوع الذي تحتاج الإجابة عنه إلى بيان لايطيل فيلم ولا يقصر فيخل, لأنها تتعلق بأمور مشتبهات ليس الخير فيها بيناً, وليس الشر فيها واضحا, قد يغرقها الإطناب في مستنقع التفصيلات, التي لاتقول شيئا, وقد ينتهي بها الإيجاز إلى إصدار أحكام بلا حيثيات لاتضيف جديداً. دور الثورة الفرنسية الذين يرجحون الآثار الإيجابية للحملة الفرنسية على مصر, ينطلقون من تقدير بالغ للدور الذي لعبته الثورة الفرنسية الكبرى في تاريخ الإنسانية, ويتوقفون أمام التنظيمات السياسية الليبرالية, والإصلاحات الاقتصادية ذات الطابع الرأسمالي التي نفذتها خلال الشهور الأربعين التي كانت مصر خلالها إحدى ولايات الجمهورية الفرنسية. ويذهب هؤلاء إلى القول بأن الحملة الفرنسية كانت أول شعاع من ضوء يمزق أستار الظلام العثماني منذ أطبق على مصر, وأول من كسر عزلتها عن العالم الذي تنتمي إليه, وأول بؤرة للتفاعل بين العقل المصري وأفكار التنوير الأوربية, وإليها يعود الفضل في اكتشاف الحضارة المصرية عبر المجهود الذي قامت به بعثة العلماء والفنانين التي صحبتها, والذي لم يسفر فحسب عن فك رموز اللغة الهيروغليفية, بل وانتهى ـ كذلك ـ إلى أول مسح شامل لكل الظواهر المصرية الطبيعية والاقتصادية والاجتماعية مما أتاح للعالم فرصة للتعرف على مصر, كما أتاح لها فرصة التعرف عليه! أما الأهم من ذلك, فهو أن مصر ـ كما يقولون ـ قد شهدت خلال تلك الفترة أول تطبيق للأفكار الليبرالية الصاعدة, فسمع أهلها ـ لأول مرة ـ من يؤكد لهم أنهم ينتمون لقومية مستقلة عن المماليك والعثمانيين, وأنهم ورثة حضارة عريقة, وعرفوا خلالها أول معول في تفتيت بنية النظام الإقطاعي الشرقي الذي كان يقوم على ملكية السلطان للأرض الزراعية, بإقرار الملكية الفردية لها, وأول تنظيم عصري للضرائب, كما عرفوا أول مجلس للوزراء, وأول برلمان, أتاح كلاهما للمصريين المشاركة في حكم أنفسهم بأنفسهم, وأول نظام قضائي, فخضعت مصر لحكم ليبرالي دستوري يطبق مبادئ الثورة الفرنسية, ويسعى لإقامة دولة قومية ديمقراطية. تلك حقائق إذا كان لايجوز لأحد أن ينكرها, فلايجوز لأحد ـ كذلك ـ أن يقتطعها من سياقها التاريخي, لأن ذلك يغير من دلالتها, ويضفي على الذين قاموا بها فخراً لايستحقونه, وشرفاً لايدعونه, ذلك أن الحملة الفرنسية على مصر لم تكن ظاهرة منقطعة الصلة بالحروب التي شهدها العالم الأوربي في أعقاب انتصار الثورة الفرنسية, بين التحالف الأوربي الذي حاول إجهاض الثورة, والثوار الذين تصدوا لتلك المحاولة, وهي حروب رفعت جيوش الطرفين المتصارعين خلالها رايات المبادئ, فأعلن التحالف الأوربي أنه يخوض الحرب دفاعاً عن حق الملوك الإلهي في الحكم, ولكي يساعد ضحايا الثورة من الأشراف وأنصار الملكية ورجال الإكليروس على استرداد حقوقهم المسلوبة, ويحول دون انتشار أفكار الثورة الهادمة بين الشعوب الأوربية, وأعلن الثوار الفرنسيون أنهم يخوضونها دفاعاً عن حرية فرنسا واستقلالها ومبادئ ثورتها, ولايبغون منها فتحاً أو توسعاً أو استعماراً. وما لبثت الوقائع أن أثبتت أن رايات المبادئ التي رفعها الحلفاء الأوربيون كانت تخفي في ثناياها أطماعهم في استغلال الفوضى التي سادت فرنسا في أعقاب انهيار النظام القديم, للتخلص من منافستها لهم, واقتسام أراضيها وممتلكاتها فيما بينهم, ولم تلبث الانتصارات الأولى التي حققها الثوار الفرنسيون أن أغرتهم بالعودة إلى التقاليد الملكية التي ثاروا ضدها, فأقروا مبدأ ضم الأراضي المفتوحة, ولكن بذريعة جديدة, هي نشر المبادئ الثورية بين شعوب المستعمرات! ذلك هو الصراع الذي برز خلاله اسم الجنرال (نابليون بونابرت) كقائد عسكري وثوري, أسفرت انتصاراته في الحروب الإيطالية عن تشتيت شمل التحالف الأوربي, فلم يبق صامدا منهم إلا إنجلترا, أقوى أطرافه وأخطرها, فجاءت الحملة على مصر لتكون بديلاً عسكرياً مضموناً عن مشروع فرنسي لم تتيسر إمكاناته, للهجوم على البريطانيين في عقر دارهم, يبدأ بالاستيلاء علي مصر, لقطـع طريق التجـارة البريطانية مع الهـند, ويستـغل موقعها الجغـرافي الفريد بأن يجعل منها مركزاً فرنسيا لطرق التجارة الدولية, بحفر قناة تصل بين البحرين الأبيض والأحمر, وينتهي بالاستيلاء على الهند ذاتها, فتتحول من درة في جبين التاج البريطاني, إلى درة في جـبين الجمهورية الفرنسية. ولأن المشروع كان ينتمي إلى العصر الملكي الإقطاعي الذي بدأ يخطط له, قبل أكثر من قرن, وفي عهد لويس الرابع عشر, فقد أعيد طلاؤه بشعارات الثورة الفرنسية عبر تنظيرات (الأيديولوجيين) وهم الجيل الآخير من مفكري التنوير ممن شاركوا بنشاط في الثورة الفرنسية, وذهبوا إلى القول بأن أوربا التي ورثت مشعل الحضارة عن الشرق القديم, مدينة لشعوبه التي سلمتها هذا المشعل, وأن على فرنسا الثورة, التي تقود المشروع الحضاري المعاصر, أن تعمل على تحطيم حواجز العزلة والتخلف والاستبداد التي تحول بين شعوب الشرق وبين المشاركة في صنع هذا المشروع, ليس فقط اعترافا بفضلها على الحضارة الإنسانية, ولكن لأنها ـ كذلك ـ المؤهلة بحكم مشاركتها في تأسيس المشروع الحضاري القديم, في بناء الطبعة المعاصرة منه. قمة الهرم كانت أفكار الأيديولوجيين المثالية, بمنزلة قمة هرم تقبع في سفحه مصالح تجارية مبتذلة, تطرح لتحويل البحر المتوسط إلى بحيرة فرنسية, ومصالح سياسية تسعى لوراثة الإمبراطوية العثمانية, قبل أن تتفكك فتقع مستعمراتها في أيدي أعداء فرنسا الأوربيين. ولأن (بونابرت) ـ الحريص على وجود مؤثر في سجل التاريخ, لاتكفي البطولات العسكرية وحدها لتحقيقه ـ كان يطمح لكي يكون من صناع الحضارات, فقد وجد في أفكار الأيديولوجيين المثالية, ما يحقق له هذا الهدف, فاتخذ من إيطاليا معملاً لتجاربه الأولى في بعث الحضارة الرومانية القديمة, كطلاء لإصرار الثوار الفرنسيين على الاحتفاظ بحق الفتح بالمخالفة لمبادئ الثورة, وما كاد يعود منها حتى سعى لكي ينتخب عضوا في (المجمع العلمي الفرنسي) ـ وهو الاسم الذي حملته الأكاديمية الفرنسية بعد الثورة ـ وكان آنذاك مركزا لتجمع الأيديولوجيين, حيث كان البحث يدور في جلسات المجمع حول الفوائد التي يمكن أن تجنيها الثورة الفرنسية من الحصول على مستعمرات جديدة, لإنشاء أمة فرنسية عظمى ونظام عالمي ترفرف عليه رايات الحرية والإخاء والمساواة. في هذا السياق ـ وحده ـ نستطيع أن نفهم تاريخ الحملة الفرنسية على مصر وأن نجد تفسيرا لما يحفل به من تناقضات بين ما وعد به بونابرت ـ القادم من طرف الفرنساوية المبني على الحرية والتسوية ـ المصريين في منشوراته, وما عانوه من سياساته, وبين الدعايات التي أحاط بها ما أنشأه من مؤسسات, والدور الحقيقي الذي لعبته تلك المؤسسات, ونجد مبرراً لمقاومة المصريين له, وثورتهم ضده, على الرغم من أنه جاء ليحررهم من الظلم, ويعيد بعث حضارتهم القديمة, ويشركهم في حكم أنفسهم بأنفسهم, فقد أدركوا بالفطرة, ومن دون أن يعرفوا الكثير عن الصلة بين مشروع الحملة والصراع بين دول أوربا, أو يعرفوا شيئاً عن الصلة بين أفكار الأيديولوجيين وأطماع التجار, أنهم أمام شعارات ثورية تزين الوجه القبيح لمشرع استعماري تقليدي, تلك حقيقة اعترف بها (نابليون بونابرت) بعد ذلك بسنوات طويلة, إذ وصف المنشور الأول الذي وجهه إلى المصريين, بأنه كان (قطعة من الدجل, ولكنه دجل من أرفع طراز). ومع أن بعثة العلوم والفنون كانت الوجه الأكثر إشراقا في سجل الحملة الفرنسية, إلا أنها لم تكن بعيدة عن هذا الدجل رفيع الطراز, فقد اهتم (نابليون) ـ الذي كان حريصاً على تقديم صفته كعضو في الأكاديمية الفرنسية على صفته العسكرية ـ باختيار أعضائها بعناية لاتقل عن عنايته باختيار أركان حربه, فضمت متخصصين في كل العلوم والفنون من الهندسة إلى الموسيقى, ومن الجيولوجيا إلى التصوير, ومن الطب والصيدلة إلى الاقتصاد السياسي, ومن الكيمياء إلى الآثار, لتحقيق هدفه في إعادة توطين الحضارة, في البلد الذي كان مهداً لحضارات العالم القديم, والذي سيصبح جزءاً من أمة عظمى, هي الأمة الفرنسية, وكان هذا الحلم الحضاري, هو الذي اجتذب كثيرين من أعضاء البعثة لقبول عرضه بمصاحبة الحملة, سعيا وراء المعرفة المجردة, والمنزهة عن أي أغراض استعمارية مبتذلة. لكن آخرين من أعضاء البعثة كانوا يفكرون بالطريقة التي يفضل (بونابرت) أن يفكر بها أمثاله من الأكاديميين الذين يضعون علمهم في خدمة الوطن, ومنهم رئيسها عالم الرياضيات الشهير (مونج), الذي رأى أنه لو أمكن توطين عشرين ألف أسرة فرنسية في مصر ليشتغل أفرادها بالمشروعات التجارية والمؤسسات الصناعية, لأصبحت أجمل المستعمرات الفرنسية, وهو حلم استعماري أكاديمي وثوري, حال الحصار الإنجليزي لحملة بونابرت دون تحقيقه, ونفذ بعد ذلك في الجزائر. البعثة تصبح سلاحاً لكن بعثة العلوم والفنون, التي بدت تجديداً باعثا على الحيرة, وخارجاً عن السياق في كل تاريخ الفتوحات العسكرية, مالبثت أن اندمجت في السياق, وأصبحت أحد أسلحة الجيش. تحول كثيرون من العلماء والفنانين والأكاديميين إلى عسكريين لايحملون رتباً ولايشاركون بشكل مباشر في القتال, ولكنهم يقومون بدور مهم في خدمة المجهود الحربي, سواء كان يتصل بشكل مباشر بتخصصاتهم, كالمهندسين ورسامي الخرائط الذين كلفوا تصميم ثكنات للجيش وإقامة أفران لصنع القنابل, وابتكروا آلات لإطفاء الحرائق, أو كان لايتصل بها كالقيام بالأعمال المالية والإدارية, والإشراف على شئون التموين, ووضع الخطط لزيادة موارد الحكومة المالية, وابتكار الوسائل الملائمة لفرض الغرامات على أغنياء المصريين وللتوصل إلى كنوزهم المخبوءة لمصادرتها لمصلحة الجمهورية, وهو انقلاب في مكانة العلماء, جعلهم هدفا لسخرية جنود الحملة, فتعارفوا فيما بينهم على تسميتهم بالحمير, وأصبحوا يمضون أوقات فراغهم في ركوب (العلماء) ـ وهو الاسم الذي أطلقوه على الحمير ـ أو (أنصاف العلماء), وهو الاسم الذي أطلقوه على البغال. ولأن (بونابرت) لم يكن قد نسي بعد مشروعه لإحياء الحضارة على الطريقة الاستعمارية الثورية, فقد جمع خلاصة حمير البعثة ـ أي كبار علمائها ـ في مؤسسة شبيهة بـ (المجمع العلمي الفرنسي) الذي كان فخوراً بعضويته له, وهكذا تأسس المجمع العلمي المصري, لا ليكون بديلاً عن الدور الذي تقوم به البغال والحمير في دعم المجهود الحربي, بل لكي يكون إضافة وتنظيما لهذا الدور, لذلك لم يكتف بأن يضع في رئاسته عالما من النوع الأكاديمي الثوري الذي يشاطره الإيمان بوضع العلم في خدمة الوطن, وهو عالم الرياضيات الشهيرة المسيو مونج, أو بأن يضم إلى عضويته ثلاثة من الجنرالات المهتمين بالعلوم, بل واحتفظ لنفسه بمنصب نائب الرئيس. ومع أن قرار تأسيس المجمع المصري قد نص على أن يكون على رأس أهدافه (ترقية ونشر الأنوار في مصر), فإن (بونابرت) ـ الذي حمل القرار توقيعه ـ كان حريصا على حضور جلساته, لكي يوجه أبحاثه لتحقيق الهدف الثالث والمهم بالنسبة له, وهو أن يكون المجمع بمنزلة هيئة استشارية للحكومة, تتداول في أمور نفعية, من البحث عن وسيلة لتحسين الأفران التي يستخدمها الجيش, إلى إيجاد بديل لحشيشة الدينار في صنع البيرة, ومن دراسة المواد التي تنتج البارود, إلى دراسة حالة المياه الجوفية في الصحارى المصرية. وهكذا اقتصرت الأنوار التي نشرها المجمع العلمي المصري, على ما يضيء الطريق أمام الغزاة, وظلت المشروعات القليلة التي وضعها أعضاؤه لكي يستفيد منها المصريون, كإصلاح التعليم وتصنيع الأدوية اعتماداً على الوصفات الشعبية, وإنشاء المستشفيات, حبراً على ورق, وظل كتاب (وصف مصر), هو الإنجاز الأهم لبعثة العلماء والفنانين, لكن فائدته الأساسية اقتصرت على المؤرخين, إذ كان الهدف من تأليفه ـ كما جاء في قرار تشكيل اللجنة التي وضعته ـ هو (إعفاء مؤرخي الأجيال القادمة من البحث عما كانت عليه مصر في الزمن الذي انتقل فيه الفرنسيون من الملكية إلى الحكم الجمهوري)!! واجهات لحكم العسكر في هذا السياق نفسه جاءت المؤسسات الدستورية التي أنشأها (بونابرت) في مصر لتكون مجرد واجهة لحكم عسكري فرنسي, تحمل عن كاهل قادة الجيش مسئولية البت في بعض المسائل التفصيلية, والمشاكل المحلية التي لايفهمونها, وليس لديهم الوقت الكافي أو العدد اللازم من المعاونين للإشراف على تنفيذها وتقوم ـ فضلاً عن ذلك ـ بدور الوساطة بين سلطات الاحتلال وأهالي البلاد, فتنقل إلى المحتلين شكاوى المصريين, وتنقل إلى المصريين تعليمات المحتلين ودعايتهم, وتتيح فرصة لمنح مشايخ الأزهر ـ وهم القادة الطبيعيون للبلاد ـ مناصب شرفية تضمن ولاءهم, أو على الأقل صمتهم, وبذلك تضفي على الاحتلال مشروعية, وتتخذ من مشاركة المصريين الوهمية في إدارة البلاد, دليلا على ترحيبهم به, وترضي الضمير الثوري للقادمين من طرف الفرنساوية المبني على الحرية والتسوية, الذي دفعهم قبل ذلك لإجراء استفتاءات بين شعوب البلاد المفتوحة, تنتهي بقبولهم ـ اختياريا ـ الانضمام إلى فرنسا لكي يوائموا بين شرههم للاستعمار, وبين إعلان حقوق الإنسان. وفضلاً عن أن سلطة (ديوان القاهرة), لم تتعد حدود العاصمة, فقد كان كل ما يتعلق بالسيادة, أو بالسياسة العامة للدولة, خارجاً عن نطاق اختصاصاته, واختصاصات دواوين الأقاليم التي شكلت على النسق نفسه, إذ احتفظ الفرنسيون لأنفسهم بالإضافة للسلطة العسكرية, بكل المناصب الرئيسية والحاكمة في الإدارة المصرية, بما في ذلك الشئون المالية والأمن العام وخاصة السياسي منه, وهو ما يجعل تشبيه (ديوان القاهرة) بمجلس وزراء يمارس السلطة التنفيذية المعروفة في النظم الدستورية, مبالغة مذمومة, ليس فقط لأن سلطاته كانت تقتصر على بعض شئون الخدمات, مما يجعله أقرب ما يكون لمجلس محلي, ولكن ـ كذلك ـ لأن مداولاته كانت تجري تحت الرقابة المباشرة لقومسيير فرنسي, يحضر جلساته ويرفع تقارير عن أعماله, ويملك سلطة الاعتراض على قراراته. وقد تبدو مفارقة لافتة للنظر, أن قومسيير الديوان كان يختار عادة من أعضاء (المجمع العلمي المصري), ربما لأن (صاري عسكر بونابرته الكبير) كان يعتبر الديوان, كالمجمع, أحد فيالق جيشه, وإحدى المؤسسات التي أنشأها لكي تضيء أمامه طريق السيطرة الاستعمارية على مصر. تلك قاعدة تنطبق على (ديوان القاهرة) كما تنطبق على (الديوان العام) فكما أن الأول لم يكن ـ بالمصطلح الدستوري ـ مجلساً للوزراء, فإن الثاني لم يكن برلمانا أو سلطة تشريعية على الرغم من أن مرسوم (بونابرت) بتشكيله ينص على أن الهدف من ذلك هو (تعويد الأعيان المصريين على نظم المجالس النيابية والحكم), وعلى الرغم من أنه قد طلب من هذا (البرلمان) ـ في دورة انعقاده الأولى والأخيرة ـ أن يبدي رأيه في أمور مما يدخل ـ عادة ـ في اختصاصات المجالس النيابية, مثل النظم الملائمة لتشكيل المجالس المحلية في الأقاليم, ولترتيب القضاء المدني والجنائي, وللضرائب, ذلك أن (بونابرت) قد ضرب عرض الحائط بتحفظات النواب على سياسته الضريبية, ونفذ ما يريده على الرغم من اعتراضهم. ولو أسعفته ذاكرته الليبرالية لما نسي أنه أسس هذا الديوان لكي يقود أعيان المصريين على نظم المجالس النيابية, التي نشأت في الأصل, لكي تحول دون فرض ضريبة لايوافق عليها ممثلون عن الشعب. ولأن بونابرت كان يعتقد ـ كما اعترف فيما بعد ـ أن على الإنسان أن يصطنع الدجل في هذه الدنيا, لأنه السبيل الوحيد للنجاح, فمن الحكمة أن تقرأ نصوص القرارات والبيانات التي صدرت عنه في افتتاح الدورة الأولى والأخيرة للديوان العام, دستوراً أو شبه دستور, كما ذهب إلى ذلك الدكتور (لويس عوض) إذ هو لايعدو أن يكون (مجرد رطانة دعائية تعكس جانبا من أفكار الأيديولوجيين, وتستهدف إقناع أعضاء الديوان بأن الحملة الفرنسية, جاءت لتدافع عن مصالح مصر, لا عن مصالح فرنسا, وقد بدأه بالإشارة إلى حضارة مصر القديمة التي علمت الدنيا القراءة والكتابة والعلوم والصنائع, مما أغرى الغزاة بتملكها, إلى أن وقعت بين براثن دولة الأتراك فشددوا في خرابها, فاشتاقت نفس طائفة الفرنساوية ـ بعد أن تمهد أمرهم وبعد صيتهم ـ لاستخلاص مصر مما هي فيه, وإراحة أهلها من تغلب هذه الدولة المفعمة جهلاً وغباوة). وأنه (لا غرض لهم إلا تنظيم أمورها وإجراء خلجانها التي دثرت فيصير لها طريقان: طريق إلى البحر الأبيض, وطريق إلى البحر الأحمر فيزداد خصبها وريعها, ومنع القوي من ظلم الضعيف), وهي تفعل ذلك (استجلابا لخواطر الرعية وإبقاء للذكر الحسن). وبوضوح لا لبس فيه, حدد الخطاب (المحك) الذي اختير على أساسه أعضاء هذا الديوان, باعتبارهم (أهل خبرة وعقل) وبنفس الوضوح, حصر الدور المنوط بأعضاء هذا الذي يسمى (برلمانا) فقال إنهم (سوف يسألون عن أمور ضرورية ويجيبون عنها فيتيح لصاري عسكر من ذلك ما يليق صنعه). صاري عسكر هو وحده الذي يقرر ما يليق صنعه, وكل المؤسسات التي أنشأها من المجمع العلمي إلى ديوان القاهرة, ومن دواوين الأقاليم إلى الديوان العام, هي مجرد هيئات استشارية مهمتها أن تجمع له المعلومات التي تساعده في اتخاذ قراره, أو تجس له نبض الرأي العام, أو تطرح أمامه البدائل الممكنة ليختار من بينها مايريد! أهداف استعمارية وحتى لو كان صاري عسكر قد جاء ولا هدف له إلا بعث الحضارة المصرية القديمة بأفكار الثورة الفرنسية, تنزها عن كل غرض, إلا استجلاب خواطر الرعية, واستبقاء الذكر الحسن, فإننا لانجد دليلا واحدا على أن أحداً من الرعايا المصريين, قد فهم قليلاً مما كان يكتبه بمنشوراته, بصرف النظر عن التناقض الظاهر بين النصوص الفرنسية لتلك المنشورات, التي كانت تحفل بمصطلحات سياسية لايعرف المصريون مدلولها, والترجمة العربية لتلك المنشورات التي كانت تحذف كل ما يمكن أن يفضح الأهداف الاستعمارية للحملة, وتضيف عبارات, لاتبدأ بقوله: (إن الله قدر في الأزل تحطيم الصلبان وهلاك أعداء الإسلام على يدي) ولاتنتهي بادعائه أن كل ما يفعله هو (حكم إلهي لايرد) وهو مايدل على أن مستوى الدجل, الذي كان في بداية الحملة, من أعلى طراز, قد أصبح ـ بعد قليل ـ من أدنى طراز. وكان هذا الدجل هو وكل أفكار التنوير التي وصلت إلى المصريين, من منشورات (بونابرت), فلم يتوقف أحد منهم أمام تركيزه على أنهم ورثة حضارة قديمة, وأبناء ركيزة قومية مستقلة عن العثمانين والمماليك, من حقهم أن يحكموا أنفسهم بأنفسهم, ولم يشعر أحد من أعضاء دواوينه المتعددة, أنه قد أصبح وزيراً, أو نائباً في برلمان, أو عضواً في مجلس محلي, يشارك في حكم بلده, إذ كان أهم ما تفعله هذه الدواوين هو إصدار البيانات التي تدعو الشعب للهدوء وتحذره من الثورة وتنقل إليه تهديدات صاري عسكر ـ سواء كان (بونابرت) أو (كليبر) أو (منو)ـ بأن الإبادة الجماعية هي العقاب الذي تستحقه كل مدينة أو قرية تبدر عنها أي بادرة بالثورة! والحقيقة أننا لانجد دليلاً واحداً على أن أحداً من الرعايا المصريين من معاصري الحملة قد تنور بمناقشات المجمع العلمي, مع أن (الجبرتي) قد زار مقر المجمع أكثر من مرة, وتفقد مكتبته وأشاد باهتمام الفرنسيين بالعلم, وشاهد بعض التجارب الكيماوية, وتعرض لتيار كهربي محدود القوة, واعترف ـ بتواضع ـ أن لهم في العلم, أحوالا وتراكيب لاتسعها عقول أمثاله, لكنه لم ينسحق أمام ذلك كله, وقد شعر العلماء الفرنسيون بالأسف, لأن المصريين لم يذهلوا أمام أعاجيب العلم الحديث, التي عرضوها عليهم, بل وعبروا عن شماتتهم عندما فشلوا مرتين في تطيير منطاد. ولعلهم قد أدركوا ـ كما أدرك (الجبرتي) ـ أن تطيير المنطاد, هو نوع من التحايل على العقول, فنظروا إلى العلم الذي جاءت به الحملة باعتباره سحراً يهدف إلى إخافتهم وإرهابهم ويسعى لتأكيد ادعاء (صاري عسكر بونابرته) في المنشور الذي وجهه إليهم, بعد إجهاض ثورة القاهرة الأولى, بأنه يعلم (خائنة الأعين وما تخفي الصدور). بداية اليقظة القومية ولاينفي ذلك كله أن الحملة الفرنسية على مصر, كانت بداية اليقظة القومية المصرية, ولكن فضل الحملة في ذلك, كان فضل (التحدي) الذي استدعى (الاستجابة), و(الفعل) الذي استدعى (رد الفعل), فقد هرب المماليك الذين كانوا يحتكرون لأنفسهم حق حمل السلاح, وحق الدفاع عن البلاد, فتقدم المصريون لكي يدافعوا عن بلادهم, ليكتشفوا عبر المقاومة, ومن دون أن يقرأوا منشورات نابليون, أو يشتركوا في مؤسسات, أنهم أصحاب البلاد, وأن من حقهم أن يختاروا حاكمهم, وكان ذلك ما فعلوه عام 1855 وبعد أربع سنوات من رحيل الحملة الفرنسية عن مصر. ولو أنصف الذين يشيعون أن الحملة الفرنسية, كانت بوتقة التفاعل بين أفكار الثورة الفرنسية,والفكر العربي, لتذكروا أن ذلك لم يحدث إلا حين دفع الصراع الأوربي فرنسا إلى تأييد محاولة (محمد علي الكبير) لإنشاء دولة عربية مستقلة, فاستقامت العلاقات بين الثقافتين, ولأدركوا أن تفاعلاً من هذ النوع, ما كان ممكناً أن يتم في ظلال المدافع, لأن الاستقلال والندية والاحترام المتبادل شروط أساسية لايمكن من دونها أن يحدث تفاعل صحي بين الثقافات والحضارات! ذلك أن المدافع لاتقرأ القرآن.. ولا إعلان حقوق الإنسان!
|
|