الجرائد والمجلات.. التاريخ الحي

الجرائد والمجلات.. التاريخ الحي

لا تكتمل معرفة تاريخنا الثقافي إلا بإبراز الدور الذي قامت به الجريدة والمجلة في تشكيل الملامح الحديثة للمجتمع المدني.

تنتابني سعادة خاصة حين يعاد طبع مجلة قديمة توقفت عن الصدور منذ سنوات طويلة طويلة، أو يصدر كتاب عن جريدة قديمة، أو أسمع عن اكتمال تصوير هذه الجريدة العتيقة أو تلك من جرائد القرن التاسع عشر، ففي إعادة نشر المجلات والجرائد القديمة، أو على الأقل تيسير إمكان الاطلاع عليها وتوسيع نطاق المعرفة بها، ما يعود بأكبر الفائدة على كل من يرغب في الإلمام بتفاصيل التطور وسياقات التغير الثقافي في واقعها الحي الغني بالوقائع الدالة والأحداث الكاشفة والإرهاصات المتعاقبة أو البدايات الحاسمة.

والفارق كبير بين من يعرف زمنا من الأزمنة، حقبة أو فترة أو مرحلة أو عهدا، بواسطة استعادته في كتاب لمؤرخ من المؤرخين والنفاذ إلى ذلك الزمن مباشرة بواسطة جرائده ومجلاته. في الحالة الأولى، تختزل ملامح الزمن وتفاصيله في محاور عامة على قدر من التجريد بالضرورة بسبب الصياغة التصورية لرؤية المؤرخ التفسيرية، وهي رؤية تنطوي على قدر من التحيز يدفع إلى تصغير دلالة وقائع وتكبير أخرى بالقدر الذي يؤدي إلى إعادة بناء الأحداث بما يبرز مغزى الرؤية ومقصدها. وفي الحالة الثانية، يدلف القارئ بوسطة صفحات الجرائد والمجلات إلى الواقع الحي لتفاصيل المشهد التاريخي للزمن الذي يسترجعه، ويتحرك حركة حرة مابين الوقائع والأحداث بما يسمح له أن يرى أسبابها ونتائجها بأكثر من زاوية أو تفسير، وذلك في موازاة ما يتاح له من مراقبة علامات التحول البطيء الذي يتراكم دون أن يلفت الانتباه إلى أن يفرض نفسه فيغدو تغيرا حاسما.

ندرة المؤرخين المتميزين

ولا أهدف من وراء هذه الكلمات إلى التقليل من أهمية كتابة المؤرخ، فالحاجة إلى هذا النوغ من الكتابة حتمية في تعرف الماضي، وربما كانت بعض مشاكلنا الفكرية ترجع إلى قلة عدد المؤرخن المتميزين وقلة عدد الكتب التاريخية الكاشفة، ولكنني أهدف إلى شيء آخر هو تأكيد العيان المباشر الذي لابد أن يمارسه الدارس في علاقته بمعطيات مادته، وإمكان المقاربة الحرة التي تتيحها المجلات والجرائد للقارئ الذي يريد تعرف زمن من الأزمنة، أو يسعى إلى أن يصوغ لننسمه بنفسه رؤية تفسيرية خاصة به، بعيدا عن تحيزات الغير أو تفسيراتهم التي يسقطونها على الوقائع والأحداث.

شأن الجرائد والمجلات في ذلك شأن بقية الوثائق التي تتيح لعين القارىء مشاهدة تفاصيل التاريخ الحي كما لو كان يطالعه على شاشة دار عرض سينمائي، أوكما لوكان يعيش زمنه الخاص في دقائق أحداثه اليومية التي تعرضها الجرائد أو تفاصيل وقائعه الفعلية التي تتيحها المجلات. ويترتب على إيجابيات تجربة العيان المباشر الذي أتحدث عنه فوائد متعددة. أولها إضاءة جوانب المراحل التي تبدو معتمة في الذاكرة الثقافية العامة، أو أزاحها النسبان عن الحضور الفاعل واستبدل بها غيرها من المراحل، لأسباب سياسية أو اجتماعية أو فكرية طارئة. ومن الثابت أن كل زمن يبحث عن أشباهه في الماضي القريب والبعيد، ولاينعش ذاكرته إلا في اتجاه التيارات الغالبة عليه، وهي التيارات التي تسعى إلى تأكيد أهمية ما يدعمها في التراث القريب والبعيد. وتجربة العيان المباشر لمعطيات تراثنا الحديث الذي يتميز بغنى ما فيه من الجرائد والمجلات تنجي المثقف من سطوة تحيزات المرحلة التي يعيش فيها، وتتيح له إمكان الرؤية الحرة لكل تيارات الماضي واتجاهاته المتصارعة.

ويترتب على ذلك بالقطع، تصحيح جوانب صورة من صور المراحل الماضية أو الإضافة إلى أبعادها ما يميل بالوقائع إلى هذا التفسير دون ذاك، أو يضع التفسير الشائع في علاقة بالسياقات المتشابكة التي يضبط تعرفها بؤرة الرؤية. ويمكن أن تفضي هذه التجربة إلى اكتشاف موضوعات لم تنل حظها من الاهتمام المعاصر، أو أكتشاف مؤلفين لاينتبه إليهم المعاصرون لأن مقالاتهم تركت متناثرة لايضمها كتاب أو تجمعها كتب. كما أن تكشف عن جوانب مجهولة من يمكن أن تكشف عن جوانب مجهواة من إنجاز الأعلام المشهورين الذين يتركز الضوء على جانب أوجانبين أو حتى ثلاثة من جوانب إنجارهم وتجاهل بقية الجوانب بسبب عدم جمع مقالاتها في كتب.

والمثال الدال على الإمكان الأول موجود في القضابا التي أثيرت ودار حولها نقاش كبير شمل المجتمع كله. لكنها سزعان ما نسيت بعد أن حسم أمرها، وظلت دلالة النقاش نفسها في حاجة إلى مزيد من الكشاف. ونموذج ذلك النقاش حول زي المرأة ودلالاته التي شغلت الجرائد والمجلات منذ مطلع هذا القرن إلى مابعد ثورة 1919 المصرية. شأنها شأن قضية الاختيار بين العمامة والطربوش والبرنيطة التي احتلت من النقاش ما تدخلت فيه معاني الوطنية والقومية والمفاهيم الدينية في الوقت نفسه. والمثال الثاني هو مؤلفون من أمثال فخري أبوالسعود، ذلك الرائد المجهول في دراسات الأدب المقارن الذي لايكاد يعرفه أحد لأنه انتحر مبكرا، وترك ثروة من المقالات المتناثرة في الرسالة والثقافة وغيرهما من المجلات فضلا عن الجرائد. ولماذا نذهب بعيدا إلى المغمورين، وهناك الأعلام المشهورون من أمثال طه حسين الذي لايعرف المعاصرون عن كتاباته السياسية شيئا ذا بال، ذلك على الرغم من أن مقالاته السياسية والاجتماعية التي لم تضمها كتب قد تكون أكثر عددا وأكبر حجما من مقالاته الأدبية التي جمعها في كتب. وهي مقالات لايمكن اكتمال المعرفة بإنجاز طه حسين إلا بعد وضعها في الاعتبار وإتاحتها للقراء والدارسين.

وقد أكدت لي تجاربي المباشرة أن ما عرفته، بواسطة الجريدة والمجلة، من تفاصيل عصر الإحياء أو عصر الوجدان الفردي، أو غيرهما من عصور أدبنا العربي الحديث، لا يقارن بما عرفته بواسطة كتب التاريخ الأدبي التي تزعم أنها تكشف عدت كل شيء مع أنها في واقع الأمر لاتكشف إلا عن القليل الذي تراه عين هذا المؤرخ أو ذاك. وما عرفته من كتب تاريخ الأفكار عن مراحل تطورنا الفكري، من منظور تعاقب جهود الاستنارة وإنجازاتها، فقير بالقياس إلى الثراء المذهل لتفاصيل هذه المراحل نفسها في مظانها التي تقف على رأسها الجريدة والمجلة. وهل يمكن أن نشاهد إلا في جرائد العصر ومجلاته تفاصيل الصراع الأدبي في وقائعه اليومية أو الأسبوعية أو الشهرية ما بين أحمد شوقي وحافظ إبراهيم وأشباههما من شعراء الإحياء في جانب وعباس العقاد وإبراهيم المازني وعبد الرحمن شكري من شعراء جماعة الديوان، فضلا عن جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة وأقرانهما من شعراء المهجر في جانب ثان؟ وهل يمكن أن يتيح لنا كتاب عن تاريخ الفكر العربي الحديث التفاصيل الدقيقة والعلاقات المتواشجة لأبعاد المناظرة ثلاثية الأطراف التي دارت سنة 1903 بين فرح أنطون ومجلته "الجامعة" في جانب، والإمام محمد عبده مفتي الديار المصرية وتلميذه محمد رشيد رضا بمجلته "المنار" في جانب ثان؟ وقس على هذين المثالين غيرهما من الأمثلة التي إن دلت على شيء فإنما تدل على ضالة ما لدينا من كتب التارت الأدبي أو الفكري الكاشفة من ناحية، وأهمية أن نضيف إلى الرؤى التفسيرية المحدودة لهذه الكتب ثراء العيان المعرفي المباشر الذي تتيحه الجرائد والمجلات من ناحية مقابلة.

وليس أدل على ذلك، إذا شئنا المضي في تقديم الأمثلة، من الإشارة إلى بعض وقائع ما حدث في سنتي 1925 و 1926 على وجه الخصوص، فهما سنتان حاسمتان في تطورنا الثقافي، من حيث ما دار فيهما من وقائع الحوار العاصف حول كتاب على عبد الرازق "الإسلام وأصول الحكم " سنة 1925، وكتاب طه حسين "في الشعر الجاهلي" سنة 1926.

ومهما يقرأ المرء عن أسباب هذا الحوار ونتائجه في الكتب التي تتعرض لهاتين السنتين، من منظور التاريخ السياسي أو الاجتماعي أو الفكري أو حتى الاعتقادي، فإن مايخرج به هو أقل القليل بالقياس إلى ماهو موجود بالفعل في الجرائد والمجلات التي تواصل صدورها طوال العشرينيات، وظلت منشغلة بقضية حرية الفكر لسنوات سابقة ولاحقة على هاتين السنتين. ولذلك فإن التفاصيل الدالة والوقائع اليومية والتحركات المستمرة والتحرشات المتصلة وألوان الدفاع والهجوم في هذا الحوار العاصف، والصلة بين ذلك والتيارات المتصارعة سياسيا واجتماعيا ودينيا وثقافيا، فضلا عن الاستجابات المتباينة لطوائف المجتمع المدني وشرائحه في مواجهة المجموعات المحافظة أو المتزمتة دينيا، كان ذلك وغيره لايمكن أن يعثر عليه قارئ في كتاب تاريخي يوجز ويختصر فلا يقدم إلا أقل القليل من تفاصيل المشهد التاريخي الذي لاتفارق هاتان السنتان ثراء تعقده الفعلي. وهو الثراء الذي لايمكن إدراك تشابكاته البالغة إلا حين نضع في اعتبارنا الأدوار التي اختلط فيها السياسي بالثقافي والديني بالاجتماعي، والتي أسهمت فيها الجرائد والمجلات المؤيدة لحرية الفكر والإبداع أو المعارضة له، ومن ثم الجرائد والمجلات التي فرض عليها تحيزها السياسي تحيزا فكريا وإبداعيا، أو التي فرض عليها الموقف الطبقي لأصحابها نظرة تتناسب والموقع الطبقى الذي صاغ فكر كتابها.

منار الشيخ رضا

ونمادج ذلك متاحه دى صفحات الدولة الدينية التى كانت رأس الحربة في الهجوم على الجامعة المدنية الناهضة، وعلى المرتبطين بقيمها وآفاقها الواعدة من. مثقفى الأحرار الدستوريين الليبراليين أمثال لطفي السيد وطه حسين وعلي عبدالرازق. وكانت "المنار" لصاحبها الشيخ محمد رشيد رضا تؤدي دورها الفكري في الاتجاه الذي سرعان ما دعمتها فيه مجلة "الزهراء" لمحب الدين الخطيب صاحب المطبعة السلفية ومكتبتها. وهو الاتجاه المحافظ الذفي وازى لأسباب سياسية، في أزمة الحوار العاصف لهاتين السنتين، المسار الذي مضت فيه جرائد الوفد ومجلاته، سوأء في سنة 1925 التي شهدت سقوط التحالف المضاد للوفد بين الأحرار الدستوريين وحزب الاتحاد "حزب السراي " واستقالة ا لأحرار الدستوريين من حكومة التحالف بسبب ما ترتب على مشكلة كتاب علي عبد الرازق، أو في سنة 1926 حين أخذت صحافة الوفد بالثأر السياسي القديم لسعد زغلول زعيم الوفد من طه حسين الذي كتب أقسى المقالات عن ديكتاتورية زعيم الأغلبية، وذلك هو السبب في حدة الهجوم الذي شنته الصحافة الوفدية على غريمها السياسي طه حسين في جبهات متعددة، ضمت صحيفة "كوكب الشرق " وصحيفة "البلاع " ومجلة "الأمل "، وذلك في اتفاق دال مع جريدة "الاتحاد" التي انقلبت على طه حسين بعد سقوط التحالف المؤقت بين الأحرار الدستوريين والملك فؤاد. وطبيعي أنه لايمكن فهم التجمع غير المتجانس فكريا، لكن المنسجم في نبرة العداء والهجوم على كتاب طه حسين، إلا بوضعه في علاقة تضاد سياسي مع الجبهة التي تمترس فيها حزب الأحرار الدستوريين والمثقفون الملتفون حوله أو المتعاطفون معه "ولم يكن طه حسين عضوا عاملا في الحزب أو منتسبا إليه انتسابا رسميا". وهي الجبهة التي نطقت صوتها جريدتا "السياسة" اليومية و"السياسية الأسبوعية" اللتان رأس تحريرهما محمد حسين هيكل. والجريدة الثانية هي التي نظرت في عددها الأول الصادر في الثالث عشر من مارس سنة 1926 مقدمة كتاب "في الشعر الجاهلي " قبل أسبوع من فراغ مطبعة دار الكتب الأميرية من طباعة الكتاب الذي أقام الحياة الثقافية ولم يقعدها في ذلك الوقت. أما الجريدة الأولى فهي التي تولت الدفاع اليومي عن علي عبد الرازق وحرية الفكر طوال سنة 1925، واستبدلت بالدفاع عنه الدفاع عن طه حسين في السنة اللاحقة. وكانت في ذلك متسقة مع توجهها الليبرالي، وملتزمة بحماية اثنين من المنتسبين إلى هذا التوجه الذي وجد ما يدعمه، ضمنا أو صراحة، في مجلات " الهلال" و"المقتطف" و"العصور" التي أكملت مهمتها بعد الجرائد والمجلات.. التاريخ الحي توقفها بسنوأت قليلة مجلة "الحديث".

ولاشك أن قضية كتابي "الإسلام وأصول الحكم " و"في الشعر الجاهلي " معروفة على نحو من الأنحاء في إطارها العام على الأقل. لكن ماذا عن قضايا أخرى أقل بكثير في الشهرة مع أنها ليست أقل دلالة؟ حسبي أن أشير إلى قضية لم تجد من يهتم بها من المؤرخين المهتمين بتحولات الفكر في علاقته ببعض المظاهر المادية، ومنها مسألة تغيير الزي. وهي مسألة تحولت إلى معركة حقا في كلية دار العلوم في الفترة نفسها التي انشغل فيها المثقفون بكتابي علي عبدالرازق وطه حسين. وما حدث هو أن طلاب "دار العلوم " مضوا على ما تعودوه من زي من وقت تأسيس الدار، وهو زي الشيوخ: الجبة والقباء والعمامة. وكان اللقب الرسمي لطلبتها والمتخرجن فيها هو: "الشيخ ". وبلغ حرص وزارة المعاوف العمومية في ذلك الزمان على الزي واللقب درجة التشدد والتعنت، وبخاصة في عهد مستشارها الإنجليزي. ولكن مع مناخ التمرد العام الذي أشاعته ثورة 1919، وفي سياق التمرد الفكري الذي بلغ ذروته مع كتابي علي عبدالرازق وطه حسين أصبح الموقف مختلفا، وانسربت نزعات التجديد إلى عقول ونفوس طلاب دار العلوم وظهرت آثارها على علاقتهم بزيهم ولقبهم التقليديين، فثاروا عليهما، واستبدلوا بالجبة والقباء والعمامة الحلة "البدلة" العصرية، كما استبدلوا بلقب الشيخ لقب الأفندي، وشجعهم على ذلك ما كان يلقاه كثير منهم من السخرية وعدم الاحترام، وما إن حلت سنة 1925 حتى ارتفعت درجة تقلص العمائم في دار العلوم، وأخذ الطلاب يتنادون فيما بينهم بطرح زي المشايخ حتى جاء شهر يناير 1926 فعقدوا مؤتمرا بمدرج المدرسة، قرروا فيه أن يبعثوا إلي جميع أولياء الأمور يدعونهم إلى تأييد حركة تغيير الزي. ولم يكد ينتهي امتحان نصف العام حتى خرج الطلاب متعاهدين على أن يحضروا جميعا بزيهم الجديد، زي الأفندية، إلى فناء الدار في يوم الجمعة الخامس من فبراير سنة 1926. وقد شجعهم على ذلك أن حركتهم جذبت انتباه الصحف والمجلات التي أفردت الصفحات لمناقشة الموضوع، وتحاور المتحاورون واختلف المختلفون في مسألة تغيير الزي. وحاربت المدرسة الحركة، ووقفت وزارة المعارف المحافظة إلى جانب إدارة المدرسة، وعارض تغيير الزي الكثير من أولياء الآمور فيما تحكي جرائد العصر ومجلاته. ولكن جاء الطلاب بزيهم الجديد إلى مدرستهم يوم السبت السادس من فبراير، بعد أن وضعوا حراسا منهم على مفارق الطرق لمنع الخائفين من الدخول بالزي القديم، فوجدوا الشرطة على الأبواب، تمنع عساكرها غير الشيوخ من الدخول، ودارت معركة لأيام بين المشايخ الذين أرادوا أن يكونوا أفندية والشرطة من ناحية، وبين المشايخ المتمردين والمشايخ الذين يريدون إبقاء الأوضاع على ما هي عليه من ناحية ثانية. وتصاعدت الأزمة التي شغلت المجتمع كله، وشدت انتباهه إلى تعارضات دار العلوم الداخلية، بعد أن هدأت الضجة حول كتاب طه حسين بصدور قرار النيابة، ودخل في الأزمة الجديدة اعتبار التأويلات الدينية لمن رأوا في تغيير الزي بدعة، وكل بدعة ضلالة،! وكل ضلالة في النار. كما دخل الاعتبار السياسي القومي الذي وصل زي الأفندية بزي المستعمر، ورأى أن زي الشيخ هو الزي العربي الذي يؤكد الهوية القومية والدينية فى مواجهة المستعمر. ظلت الأزمة باقية إلى سقوط وزارة زيور المعروفة بميولها الرجعية وعودة الوزارة الدستورية، وتولي علي الشمسي الوفدي نظارة المعارف. وبدأ الرأي العام يتمثل أفكار المتمردين ويتقبلها تدريجيا بمضي الأشهر، وتعاطف الوزير الوفدي المستنيرعلي الشمسي الذي وقف إلى جانب حرية الرأي في أزمة الشعر الجاهلي مع حركة المشايخ المتمردين، فزار دار العلوم واستمع إلى قادة التمرد الذين فرضوا على الجميع حريتهم في تغيير زيهم، وتأثر بما سمع من نثرهم ونظمهم، وانتهى الأمر إلى إصدار قرار وزاري في منتصف ديسمبر سنة 1927 بتلقيب طلبة وخريجي د ار العلوم بلقب "أفندي" الذي أصبح علامة على وعى جديد .

عصارة الحياة المتدفقة

إن الجريدة والمجلة مدخلنا الوحيد إلى معرفة السياقات الحية وتفاصيلها الحميمة فالوقائع والأحداث التى نجدها في المجلة والجريدة نسغ الحيوية التي تتجسد بها عصارة الحياة المتذفقة في شرايين وأوردة السياقات التاريخية التى تظهرها كتب التاريخ الأدبي أو الفكري المتاحة إلى الآن في الأغلب الأعم وتلك نتيجة لايقدرها حق قدرها إلا من يكابد مراجعة تاريخنا الثقافي، أو يحاول تكوين صور دقيقة الملامح لمراحل هذا التاريخ في صعوده وانحداره، مده وجذره، واتصاله وانقطاعه منذ مطلع النهضه الى اليوم.

وأحسب أن اتساع دائرة الوعي بهذه النتيجة هو السبب في إقبال الكثير من الدارسين والمثقفين وطوائف متعدده من القراء على ماتقوم به دور النشر، واحدة إثر أخرى، من إعادة طبع الدوريات القديمة أو إصدار فهارس دقيقه لبعض هذه الدوريات، على نحو ما حدث من إصدار فهارس كامله لمجلة "المقتطف " 1878- 1952 التي هي واحدة من إن لم تكن الأهم بالفعل- المجلات التي امتدت من الثلث الأخير للقرن التاسع عشر الى منتصف القرن العشرين، وذلك في موازاة إعادة دار الكتب المصرية لنشر مجلة "روضة المدارس" وقد قامت دور نشر متعددة بإعادة طباعة مجلات "الأستاذ" و"التنكيت والتبكيت " و" البيان" و "الضياء" "الجامعة " و" المنار" و" أبوللو" و"الرسالة" و"المجلة الجديدة " وغيرها من المجلات التى يدفعنا صدورها في طبعات جديدة إلى إعادة النظر فيما نعرفه من تاريخنا الثقافي الذي يجهل الكثير من تفاصيل وعلاقات تحولاته ومتغيراته.

 

جابر عصفور