هل يمكن الوصول إلى نوع من التضامن العربي- الإسلامي؟

هل يمكن الوصول إلى نوع من التضامن العربي- الإسلامي؟

لاشك أن الأمة العربية تحتاج في هذه الفترة التاريخية من حياتها إلى التماسك لا على مستوى الحكومات فقط، ولكن على المستوى الأهلي والمدني، أيضا. إن هناك محاولات جادة من هذا القبيل تهدف إلى الجمع بين الآراء والاتجاهات والتشكيلات المختلفة تحت عنوان كبير هو التضامن العربي- الإسلامي.

وتثير هذه المجهودات مناقشات في دوائر كثيرة. وينشط بالتنظير لها مثقفون ومفكرون ذوو نيات خالصة لوطنهم العربي الكبير. غير أن ما يخطر في بالغ كل مطلع على تاريخ هذه الأمة العربية، القديم والحديث، التخوف من الا يكون في هذه المساعي التنبه المطلوب لعنصر التراكم في جهود الفئات السياسية وغير السياسية الناشطة. والمقصود بالتراكم هو أن يفوت العامل حسن النية الهادف إلى تجميع قوى الأمة أن هذا الذي يقوم به الآن قد قام به غيره من قبل ووجد له حلاً وتقدم على صعيده خطوات.

فما الحاجة والحالة هذه إلى اعادة الانطلاق من نقطة سبق تجاوزها ومن أجل حل سبق إن وجد وأخذ به قوم كثيرون وأفلح بعضهم تحت رايته وإن لم يفلح بعض آخر.

من هذا الحرص على التراكم في عمل العاملين من أجل تماسك الأمة الأهلي والمدني قد يحسن استعراض الجو الذي ولدت فيه الفكرة العربية "فكرة القومية العربية" في مطلع القرن الذي نحن فيه.

كانت الأمة العربية في أغلبيتها الساحقة منتمية بكثير من الرضا إلى السلطنة العثمانية. وقد رأى العرب كما رأى غيرهم من المسلمين غير الاتراك في الدولة الإسلامية الجامعة صيغة تصلح قاعدة لضم كل فئات هذا المجتمع الكبير في السلطنة. وقد شجعهم على ذلك ان التاريخ التركي القديم لم يحمل ماضيا من التنافس على السلطة مع العنصر العربي.

فالمعروف على سبيل المفارقة أنه كانت لفارس دولة كبرى ووجود قوي سابق لدخول الإسلام إليها. والأعلام في تاريخ فارس يكثر منهم من لم يكن مسلما وعنوان ذلك الأكاسرة والساسانيون. فلما جاء الإسلام بدور خاص فيه للعرب، قامت حساسيات ونشأت عصبيات لم يكن غريبا أن تنشأ في مثل هذه الحال. فقد شعر بعض الفرس انهم إذ أقبلوا على الإسلام أقبلوا عليه كدين ولم يقبلوا عليه كدولة عربية. وهناك نشأ تنافر وتفاخر استغرق وقتا طويلا من عمر العرب والفرس لم يكونا بعيدين عما سمي بالمسألة الشعوبية. وكثيرا ما كان يبرز خطأ من جانب العربي يقابله خطأ آخر من جانب الفارسي، أو العكسي بالعكس، فتتضخم هذه المشكلة وتأخذ أبعادها على الصعد السياسية والاقتصادية والثقافية وأحيانا العسكرية.

الإسلام.. عا مل مشترك

هذا الشيء لم يحصل بين العرب والأتراك إذ لم يكن على هذه البقعة من الأرض المعروفة بالبلاد التي شملها الحكم العثماني في أيام الامبراطورية ملك تركي أو غير تركي أو مدنية تركية سابقة للإسلام. فكان الإسلام عامل جمع بين العرب والأتراك لم تشبه شائبة من أثر النزاعات والحساسيات الناشئة من حنين تركي إلى ما قبل الإسلام ولو في أوساط ضيقة جدا. وهذا ما كتب للدولة العثمانية عمرآ طويلأ وما اعطى الخلافة العثمانية طابع المشروعية في نظر العربي كما في نظر غيره باعتبار أن الموضوع هو اسلامي مشترك والراية فيه لمن يخلص للإسلام. وقد جاهد الأتراك ونجحوا في مقارعة الصليبية الغازية والمطامع الغربية في ديار الإسلام.

ولم يختلف العرب والترك إلا عندما تراجعت الدولة العثمانية وولدت النزعة التركية القومية المتطرفة المعروفة بالطورانية مستهدفة احتكار السلطة العنصر التركي وحده من عناصر المملكة. إذ ذاك وإذ ذاك فقط لجأ العربي إلى العروبة راية يدافع بها عن هويته أمام هوية أخرى تريد أن تتحكم بها.

في هذا المناخ ولدت القومية العربية أو العروبة بالمعنى الحديث. لكن هذه العروبة بقيت فترة مقصورة على النخب وليست لها عصبية قادرة على اثبات وجودها أمام حقيقتين كبيرتين فاعلتين راسختن في المجتمع واحدة اسمها الإسلام ومن يتمسك به راية في المجال السياسي وليس الديني فقط. وحقيقة أخرى هي الأفكارأو الجهات أو الأقاليم والأعراق غير العربية أيضا الموجودة في المجتمع وإن كانت اقليات كالأكراد وغيرهم.

وعملت الطلائع العربية التي نشأت في آخر الحكم التركي في اسطنبول نفسها وفي العواصم العربية وفي المهاجرعلى تقديم العروبة صيغة جديدة لخلق تماسك في المنطقة غير الرابطة الإسلامية السياسية.

وقد ناضلت هذه الطلائع لتجميع الناس تحت شعار العروبة في وجه نزعة التتريك الحاكمة لا من أجل تقويض السلطنة، بل من اجل اعطاء الولايات العربية استقلالا اداريا ومن أجل احلال اللغة العربية محلها في الدولة والمجتمع، وقام العرب بجعل العربية لغة الدولة العثمانية الرسمية باعتبار أن اللغة العربية هي اللغة الأوسع انتشارا في الإمبراطورية العثمانية وباعتبارها اللغة الطبيعية والرسمية للدين الإسلامي والتراث الإسلامي.

وعنداما زالت الدولة العثمانية برزت في البلاد العربية وفي كل مكان من الدولة العثمانية السابقة النزعات القطرية والجهوية بالإضافة إلى استمرار الإسلام كدين بطبيعة الحال وكشعار للعمل السياسي أيضا.

لكن الأيام زكت مسعى القائلين بالعروبة فأصبحت أكثر فأكثر مادة تماسك حضاري واجتماعي وسياسي في الأقطار العربية، كما أصبحت عنوانا للعمل السياسي الأفعل والأكثر مردودا في العالم العربي. فقامت الدول العربية على أساس العروبة ونشأت جامعة الدول العربية وخاض العرب مصاعب الحياة والحروب الدفاعية عن انفسهم تحت راية العروبة الجامعة.

لا ينكر أحد توالي النكسات على الأمة العربية ولاسيما قيام إسرائيل ثم توسعها مع الوقت على حساب عروبة فلسطين وحقوق العروبة في سائر الأقطار أيضا التي احتلت إسرائيل بعض أراضيهم.

أمام هذه النكسات حصل نوعان من رد الفعل على العروبة كخط سياسي جامع واحد تجسد في القول بالقطرية وبمبدأ استقلال كل بلد برسم سياسته وفقا لمصالحه الإقليمية الخالصة وهذا ظهر أكثر ما ظهر في الأوساط التي في يدها الحل والعقد. ورد فعل آخر ظهر في الأوساط نفسها حينا وفي قلب المجتمعات العربية نفسها يقول بالإسلام كراية للعمل السياسي وكمضمون أيضا.

وخوفا من التفسخ خرجت هنا وهناك دعوات في الوسط الأهلي والمدني تدعو إلى التوفيق بين الإسلاميين والعروبيين وإقامة جبهات مشتركة بينهم تعمل لغاية واحدة هي التفاف الجميع حول مبدأ الدفاع عن الأمة في وجه الهجمات عليها وعلى مصالحها، وخاصة في وجه الأطماع الصهيونية.

والموضوع المحتاج إلى البحث الطويل هو: هل ستنجح هذه المحاولات لجمع العروبيين والإسلاميين؟ وهل هي تشكل انطلاقة سليمة وطريقا سديدا للخروج من المأزق الذي تعيشه القوى العربية الحية؟

هنا لابد من التصحيح بالشك في ذلك. إن كل جمع بين قوة وأخرى في العالم العربي أمر مطلوب. ويا حبذا لو أمكن جمع العروبيين والإسلاميين وغيرهم أيضا على طريق صنع التماسك الذي تحتاج إليه الأمة في هذا الظرف.

بين الهوية والتسوية

غير أنه لابد من التذكير بحقيقة كبرى هي أن العروبة ما كانت بالأصل فوق ما هي تكريس لهوية، إلا عملية تسوية كذلك بين القطريات والإسلاميات، بين النزعات القطرية والنزعات الإسلامية.

بالتأكيد العروبة هي هوية وبالتأكيد هي حقيقة اجتماعية وقومية عريقة. ولكن هي أيضا تسوية وحيدة ممكنة بين شعار إسلامي وشعار قطري مع توجه إلى علاقة كريمة ومستنيرة وخلاقة مع العالم الحديث.

ان العروبة هي التسوية التي وصلت إليها اللأمة العربية بين الإسلام السياسي والقطريات على أنواعها، كما هي والعصر الحديث القائم على أساس الحكم المدنى والمبدأ القومى الذي تقوم عليه معظم الدول.

إنها من جهة نقطة تلاق وسطية بين نزعة إسلامية انفلاشية صعبةً التموضع جغرافيا، ونزعات قطرية شوفينية ضيقة لا تملك مشروعية وطنية جدية. ومن جهة ثانية هي نقطة تلاق بين أوضاع شرقية إسلامية ومستجدات العصر في إقامة الدولة على اساس الحكم المدني. ولذلك يصعب تصور صيغة أخرى غير العروبة تجمع البلاد العربية بعضها مع بعض وتقيم تماسكا داخل كل قطر.

إن العروبة تاريخيا هي التسوية التي ابتكرها العرب لجمع صفوفهم. فا لاسلام كدول أوسع وأكثر تقدما وبذلك ينتفي أن يكون للعرب إمكانية ادعائه لأنفسهم وحدهم. والقطرية أضيق من أن تجمع العرب. لذلك أمكن في الماضي انجاز رابطة عربية بواسطة العروبة ولم يكن انجاز هذه الرابطة بواسطة غيرها.

إن العروبة معتبرة بنظر الكثير من القطريين والإقليميين فكرة طموحا وفعالية في المثالية. فهل يمكن للاسلامية أن تكون مقبولة وقادرة على جمع العرب؟

إن الاقطار والأقليات والعناصر الموجودة في الأمة العربية، وهي قوى مهمة جدا مستعدة أن تلتقي مع الإسلاميين في نصف الطريق فتقبل بالعروبة كما قبلت من قبل. أما أن تقبل بالإسلام السياسي فهذا مستبعد جدا.

وقد برهنت الأحداث الجزائرية وبعض الظواهر الموجودة وان كانت غيرمعلنة في أكثر من بلد عربي على أنه يستحيل قبول الشعار الإسلامي السياسي قاعدة لجمع الناس والأقطار. كما برهنت الأحداث على أن الأقطار تتهاوى واحدا بعد آخر إذا هي اعتبرت نفسها الحقيقة الأولى والأخيرة في البلاد العربية. لذلك لا يبقى إلا التمسك بالعروبة واعتبارها هي التسوية التاريخية المطلوبة لإيجاد التماس في مجتمعاتنا وفي أمتنا. وإذا كانت هذه الأمة لا تلتقي على العروبة، فهي حتما لن تلتقي على غيرها. والموضوع ليس التسوية بين العروبة وسواها على قدم المساواة، بل الموضوع هو دعوة الجميع إلى التمسك بالعروبة كهوية بطبيعة الحال، وأيضا كتسوية مطلوبة بين الحقيقتين الأساسيتين الأخريين، وهما الأقطار على صعيد الدول، والإسلام على صعيد المجتمع الأهلى.

إن في العروبة كعروبة قدرا كافيا جدا من الإسلام جديرا بان يطمئن كل إسلامي. كما أن في العروبة أيضا قدرا من التأكيد على الهوية الحضارية كافيا لطمأنة كل عربي غير مسلم، بل كل عربي غير إسلامي، خاصة أنه أصبح هناك تمايز في مفهوم الكلمتين، كلمة مسلم وكلمة إسلامي. فالناس مسلمون، أما الإسلاميون فهم فريق من الناس لا أكثر ولا أقل.

من التعسف القول إن الفكرة العربية في شكلها العصري تشكو من بعد عن الإسلام، أو جهل به، أو صعوبة فهم وتبادل. فقد علمتنا التجربة اللبنانية مثلا، وغيرها أيضا، أنه حتى المسيحي العربي يحمل في طيات تراثه قدراً من المعرفة بالإسلام أو الألفة معه أو الاخبار لمشروعه التاريخي، ما يجعله على الأقل غير سلبي إزاء الإسلام. فكيف بالعروبة التي تؤكد على الحكم المدني والقوانين المدنية وتترك لكل دين حريته في المسائل الدينية؟

إيجابية الإسلام

يكفي أن يكون الإنسان عربيا حتى يكون في ذلك قدر من الإيجابية نحوالإسلام كاف للايحاء بالثقة للمسلم بان الصيغة القومية العربية هي بالضرورة وبشكل حتمي إيجابية وشقيقة لأي تجربة إسلامية تقوم في البلاد غير العربية.

وليس هناك من عاقل يتصور شيئا من المنطق في عدائية من بلد إسلامي، أيا كان، لحكم يقوم على أساس القومية العربية. وكلنا نذكر العلاقات الودية التي قامت بين دول الجامعة العربية وباكستان مثلا، بل العلاقات الودية التي قامت بين عبد الناصر صاحب المشروع القومي الأبرز والخميني المنفي في العراق الطامح إلى. اقامة مشروع إسلامي في إيران.

وإذا كانت هناك خلافات قائمة بين نظم عربية ونظم إسلامية، فليس التفسير هو في تناقض المشروع القومي مع المشروع الإسلامي، بل لابد من البحث عن أسباب أخرى للخلاف تتعلق بطبيعة الأنظمة لا بهويتها.

 

منح الصلح