صفحة مطوية عن شاعر كويتي محمد حسن عبدالله

أما الشاعر فهو محمد الفايز. وقد رحل عن الدنيا في أعقاب تحرير الكويت بعد أن عاين أهوال الغزو وبعد حياة نيفت على الخمسين عاما (1938- 1991) أما الصفحة المطوية التي نتوقف عندها ونعرف بها فإنها تتصل بنشاطه الأدبي الذي لم يتوقف عند حدود الشعر.

أصدر الشاعر الراحل عددا من الدواوين، في مقدمتها ديوانه الشهير " النور من الداخل "، الذي تضمن قصيدته القصصية المطولة " مذكرات بحار "، وهي من عشرين لوحة قصصية، بدأ نشرها في الصحف تباعا عام 1964، ثم جمعت في ديوان صغير باسمها، لتستقر بعد ذلك في ديوان " النور من الداخل، الذي حمل شهادة الشاعر بدر شاكر السياب - وهو في قمة شهرته، وقبيل رحيله - للشاعر الفايز بأن " مذكرات بحار " تعتبر إنجازا فنيا متميزا، بالنسبة لحركة الشعر العربي في الستينيات. وهذه المذكرات - فيما نراه - كفيلة وحدها بأن ترفع عن الشعر الكويتي تهمة التقصير تجاه البحر، وحياة رجاله سنوات ما قبل النفط، لما فيها من جمال التصوير، وتدفق المشاعر العفوية، وسذاجة فلسفية، وقدرة على مزج الواقعي بالمتخيل. لقد استطردنا قليلا مع شعر محمد الفايز، ولنا العذر، فدواوينه، وشهرته، يحجبان ما سوى الشعر من نشاطه الأدبي، وبخاصة تلك الصفحة المطوية التي نؤثرها بالعناية لأسباب نذكرها وهي عن كتاباته القصصية.

مكانه بين كتاب القصة

لقد كتب محمد الفايز أربعا وثلاثين قصة قصيرة، نشرت جميعها في الصحف، ولم يجمعها كتاب إلى اليوم، وهي بمستواها الفني، وبغزارتها الواضحة قياسا إلى المدة التي أنجزت فيها، بقدر ما تنتمي في طبيعة مرحلتها في تطور فن القصة القصيرة الكويتية، فإنها تضمن للفايز مكانا لا يصح تجاهله بين كتاب هذا الفن، وإن كان لا يرتفع إلى مكانه في الشعر، وهذا متوقع على أية حال، فقد انحصر نتاجه القصصي في عدة أعوام، هي البداية، في حين استأثر الشعر بعمره الأدبي كاملا، على التقريب. أما الأسباب التي تجعلنا نهتم بهذه القصص، فوق أنها غير معروفة، ويمكن أن تندثر، وأنه من الضروري أن يتعرف عليها الذين سيهتمون بشعر الفايز مستقبلا، فهو ما نلاحظه أولا من تداخل زمني بين الفنين - القصة والشعر- لمدة وجيزة، ثم استصفاء الشعر لموهبته بشكل نهائي، إذ توقفت تماما محاولاته القصصية، ثم ما نلاحظه - ثانيا - من تمازج نسبي بين عناصر القصة، وعناصر الشعر، في تشكيله للقصة، ثم تشكيله للقصيدة بعد ذلك.

فيما يخص الملاحظة الأولى، كانت القصة أسبق بعدة أشهر، إذ نشرت محاولته القصصية الأولى ( قصة أم عبدالله ) بمجلة الرسالة في 10 فبراير 1963، في حين نشرت قصيدته الأولى ( يانار عينيك ) بالمجلة ذاتها في 20 أكتوبر 1963، وقد تدفقت القصص عبر عام 1963 ( 17 قصة ) وفي العام التالي ( 11 قصة ) وفي عام 1965 كتب ست قصص، ومضى العام التالي دون إضافة، ليكتب قصته الأخيرة بعنوان " السمكة "، وقد نشرت بصحيفة " الرأي العام " في 30/ 4/ 1967.

وحين نضع هذا النشاط القصصي، الذي بدأ غامرا مندفعا، بإزاء النشاط الشعري الذي بدأ مترددا، نجد أن التوازن قد تحقق عقب البداية، ثم ما لبث الشعر أن سيطر تماما، وتوحد. ففي عام 1963 نشر قصيدتين فقط، غير أن العام التالي شهد سبعا وعشرين قصيدة، عشرون منها تشكل لوحات " مذكرات بحار "، كما نشر الفايز عام 1965 ستا وعشرين قصيدة، ( في مقابل ست قصص في العام نفسه ).. وهكذا حسمت قضية أي الشكلين الفنين سيكون أكثر استجابة لرؤية هذا الأديب واحتواء ثقافته.. لصالح الشعر، فعرفه جمهور المثقفين شاعرا، ورضي هو هذه الصفة وتعامل على أساسها، وأسدل ستارا من التجاهل على نشاطه القصصي، الذي نحاول أن نعرف به، ونضعه تحت ضوء الاهتمام، لتكتمل صورة محمد الفايز الفنية، بكل جوانبها.

مزج الواقعية والشاعرية

إن الجمع بين الواقعية والشاعرية في جديلة واحدة هو ما يميز قصص محمد الفايز، وهذه الخاصية تنتمي إلى " تشيكوف "، ولا نستبعد أنه اطلع على بعض قصصه، وإن لم يرد له ذكر في أثنائها، التي تضمنت الإشارة إلى قصاصين مثل ألبير كامي، وشعراء مثل بودلير، وتجربة الفايز القصصية لا ترتقي إلى النمط التشيكوفي المحكم، لكنها تذكر به في نزعتها الإنسانية، وجرأتها التحليلية، ودقة الرصد للخلجات الداخلية، مع الحرص على واقعية الحدث، واختزال الموقف في سماته الأساسية. في قصة، بقالة العم خليفة" نجد جوهر موقفه محددا منذ الأسطر الأولى: "بالرغم من انتقال العم خليفة مع غيره إلى الحارات الجديدة، فإن عالم الحارات القديمة لا يزال في ذاكرته. وقد علل ذلك بقوله لأحدهم:

" إننا لن نستطيع أن نتكيف بسرعة في هذا الواقع الجديد، لأنه لم يكن من صنع أيدينا ".

ثم نعرف أن العم خليفة (البقال) ضرير، يستخدم صبيا من المهرة، يسرقه أطفال الحارة بالتسلل إلى الدكان الصغير الدبق، وانتزاع الحلوى، وإذ يتململ العم خليفة في انتظار أن يأتي " التثمين " (تعويضات الدولة عن البيوت القديمة ) يحلم بعالمه المنطوي، حين كان سمسارا للحمير في " المسيل ". لقد انتهى عصر الحمير، وبدأ عصر البيوت والدكاكين. إن السمسرة - في رأيه - " مهنة تعتمد على التهريج والسرعة " وهي فن المماطلة، و " سأستعيد مهارتي الأولى " وحين يلمح في نبرات صوت صبيه المهري الخوف من أن يكون ضحية التطور المحتمل للعم خليفة، من بقال إلى سمسار، يطمئنه قائلا:

" لن أستغني عنك أيها المهري. سوف تكون معي إلى الأبد".

" وكانت الشمس قد ارتخت، أشبه ما تكون بفانوس كبير يعوزه الوقود الكافي".

وبمثل هذا الأسلوب تبدأ قصة " القصر "، فمع أن الحدث الأساسي فيها يرجع إلى معركة الجهراء ( والقصر المقصود هو قصر الشيخ سالم الصباح أمير الكويت في ذلك الحين، وقد احتمى به المدافعون حتى ردوا الهجوم) وقد دارت هذه المعركة قبل كتابة هذه القصة بأكثر من أربعين عاما، فإن الفايز يستخدم " الراوية، ولا بد أن يكون شيخا عجوزا خاض تلك المعركة في شبابه، وذلك ليبدأ معنا من الواقع، الراهن، ويقنعنا من خلاله بأهمية أن يرتكز على الماضي.

وفي قصة " أم عبد الله " نجد نموذج المرأة السليطة المتسلطة، تقدم " الوجه الآخر " الهجائي للتطور الاجتماعي، لكنه قبل أن يقدم هذه الصورة بعيني أم عبدالله، يقدم صورتها هي، كما تبدو في عيون الآخرين، هكذا تبدأ قصتها: " بين ليلة وأخرى كنا نسمع عياط أم عبد الله وهي تلعن الناس والحياة. كان البعض يقول عنها إنها مجنونة، وفي رأسها يسكن عفريت، والبعض يقول إنها ساحرة، إذ كثيرا ما سمعناها تتحدث عن أشياء مجهولة، أما البعض فكان يقول إنها من أهل الله، إذ كثير ما كانت تقرأ على مرضانا فيبرأون... " ثم تتجمع الاحتمالات حول صورتين متناقضتين، فهي في داخل بيتها غاية في القسوة، مع زوجة ابنها خاصة، وفي الحارة " رسول محبة " ، حتى إذا اختفت من بيتها أسباب الشحناء (طردت ابنها وزوجته) انقلب شرها على الناس جميعا، إذ توقع الناس العكس، فلم يعد يعجبها أحد، حين تمر بها سيدة ذات مظهر ثري تتساءل ساخرة " هل نسيت كوخها في المرقاب " ؟! وإذا عبرت سيارة تحمل أحد المرشحين، قالت: " لو أنني رجل لما انتخبته، إنه غير مستقيم وأنا أعرفه منذ مدة...".

حين ماتت أم عبد الله، وأخرجت من دارها لمثواها الأخير، قالت عنها امرأة من نوعها، كلمة واحدة: "إلى جهنم" !!

عالم الفقر والبساطة

إن البسطاء والفقراء والغرباء هم الموضوع الأساسي في قصص محمد الفايز، كما تطرقت تلك القصص في رصد آثار الطفرة الاجتماعية ما بين مجتمع الغوص والسفر، ومجتمع النفط والتجارة، على الأخلاق والعلاقات. ومجتمع الغرباء العاملين في الكويت يحتاج إلى عناية خاصة، فقد تجلت فيه إنسانيته المتعاطفة مع الطفولة والبراءة وضحايا الفقر، أما الغرباء فيما بينهم فلم يكونوا دائما على هذا القدر من الطيبة، فقد ينظر بعضهم إلى بعض باستعلاء وحذر وحقد (قصة الكلب).

وفي أكثر من قصة يقترب الفايز من عالم الطفولة، في " اللعبة " يتواجه قهر الحاجة، وقهر العاطفة: الصبي الغريب المتسول، والصبية (المواطنة) التي تملك لعبة جميلة. تختلف نسب العطاء، فقد جاءها والدها " الثري " باللعبة بعد مماطلة، لكنها وهبتها - لعبتها الوحيدة - للصبي البائس في لحظة، حين وقف ببابهم، وابتسم لها، فبدد من نفسها مخاوف غرسها الأهل عن الغرباء!!

اجتماع الطفولة والغربة معا في شخص واحد يفجر طاقة الشاعرية في قصص الفايز، هكذا نجده في " اللعبة " وفي " الأرض، والتفاح " وغيرهما- فإذا كانت النقطة الجاذبة في القصة خالصة للطفولة في ذاتها تصارعت البراءة والشيطنة، كما في قصة " الكلب "، وأخذت الشيطنة معنى آخر، حين تكون " أنوثة " مبكرة، كما في قصة " الفيلسوف ".

لقد تجلت شاعرية الفايز في قصصه في جرأته اللغوية ، حين يستخدم عبارات حادة مكثفة ، وأيضا في إيثاره للوصف، واعتماده على المجاز بكثرة أحيانا. من النوع الأول، تقول " طيبة "- في قصة هذا عنوانها - عن أصدقاء طفولتها في الحي القديم: " فرقتنا لجنة التثمين "، وتجمل تجربتها في إكراه أهلها لها أن تتزوج عجوزا قبيحا، وخضوعها في جملة واحدة: " بعد أن ألقوا علي العظات والذهب "، أما موقفها من نصائح " الكبار " وما بين النصائح والسلوك من مفارقة فإنها تكثفه في عبارة واحدة أيضا: " إنهم يطعنوننا، ويعظوننا".

وفي قصة " الفنان شعيب " يصور مجلس بعض الفتيان المراهقين على شاطئ الخليج، ومن بينهم هذا الفتى " شعيب " الذي يحب العزف، ويحمل عوده أينما ذهب، كان اليوم عاصفا أو يكاد، فحمل الهواء العود وألقاه في مياه الخليج. في تصوير محمد الفايز لهذه الحركة يتولد " الشعري " من " القصصي " بتدافع السياق وطموح الموهبة:

" قفز العود من جانب شعيب، ارتفع قليلا إلى الأعلى كأرنبة مذعورة، ثم هبط في البحر، وشاهدناه يغطس ويطفو في أعماق موجة متجهة إلى الداخل... من خلال ذرات الرمل كنت ألمح خرطوم العود متأرجحا، متعبا، ككف ضارعة، كقلب يتشنج، كنهار يحترق"!!

قد يكون استخدام الاستعارة " خرطوم العود " طريفا، مقبولا، وكذلك إحالة الاستعارة إلى تشبيه "ككف ضارعة " له ما يبرره، أو يجمله، ولكن الإيغال في سلسلة التشبيهات (كقلب، كنهار) هو من خواص الشعر، فضلا عن أن " وجه الشبه " ليس مما يهدف إلى تجسيد صورة ذهنية، بقدر ما هو كشف عن حالة شعورية.. وهذا مما يختص به فن الصورة الشعرية.

إن الفايز يندفع إلى مثل هذه التراكمات التصويرية، لأدنى ملابسة، كما يقال، تسوقه إليها حاسته الشعرية، ورغبته في تكثيف اللحظة العاطفية وجلائها من كل جوانبها، في قصة " طيبة "، يتصاعد هذا "المونولوج "، الشعري، بصوره وكثافته:

" آه.. طيبة.. أيتها الساحرة يانار موقدي، يادفء عروقي، يا حرارة تربة وطني... يا ذات الشعر المخيف، والعينين الوهاجتين، إنني أرتعش وأنا أتحدث عنك، وأنصهر بلذة تحت وهج الذكريات العابرة ".

لغة الشعر وروح القصة

إننا لا نتعسف حين نفسر اتجاه محمد الفايز إلى الشعر بعد بدايته القصصية الموفقة بميله إلى الاستغراق في اللحظة، وقدرته على توليد الصور، واهتمامه بالحالات الشعورية أكثر من عنايته بالأوصاف الخارجية. ويمكن - بوجه عام - اعتبار مطولته "مذكرات بحار " العمل المتوازن الذي اندمجت فيه عناصر القص، وخصائص الشعر في بنية متميزة. وليس مستغربا أن نجد عبارات وأوصافا في قصصه أخذت أماكنها في سياق قصائده، بل في مذكرات بحار المواكبة للفترة نفسها، وفيها تجلت الشاعرية والواقعية على وفاق، والتقى التجريد والتصوير، وانبثق الحس الإنساني من صميم الانتماء الوطني، وهذه السمات موجودة في قصص الفايز، ولا نستطيع أن نتخذها أساسا لتصور شعره، فيما بعد مذكرات بحار، ولهذا يمكن أن نقول بكثير من الاطمئنان إن شعر الفايز مدين في أقوى عناصره تميزا وإيجابية إلى موهبته التي نمت في رعاية طموحه القصصي.