مساحة ود

مساحة ود

عـودة

مررت أمام البيت فقلت لنفسى أوه ، لقد تأخرت فهو ينتظرنى لنتعغدى معاً! ورأيته أمامي جالسا على الأرض مستندا للأريكة يشاهد التلفاز مرتديا ملابس البيت، سمعت صوته يناديني وأنا أفتح الباب، طربت لهذا الصوت وأسلوبه فى نطق اسمى ، اسرعت الخطى لألقى بنفسى بين ذراعية سرت فى الممر الطويل المظلم ، وصلت إلى حيث يجلس فوجدته مبتسما ويرفع يده ليمسح بها رأسه التى احتضتنها واحسست بها تملا ذراعى ، ثم أنزل يده ليمررها على معدته ويقول : تأخرت ، وأنا جائع ألن نتغدى ؟ لم أعرف بماذا أجيبه، فلم أكن أعتقد أنى سأجده "حقا" فى انتظارى، وخفت إن أجبته فقد يذهب لو عرف إننى لم أحضر شيئا لغدائه، فكبت عليه وقلت : وسنتغدى ولكن ليس الآن. اولا سنتحدث قليلا وأخبرك عما فعلت طيلة السنتين الماضيتين .. استوقفنى ليقول: أو تعتقدين أن أخبارك لا تصلني؟ وأننى لا أعرف ماذا فعلت؟ ولأى شيء وصلت؟!.

أذهلنى سؤاله، فهل هو حقا يعرف ما مررت به؟ أكمل كلامه بقوله أعرف إنك أكملت دراستك وحصلت على شهادتك. هنا استوقفته صارخة: حصلت عليها دونك. كنت تمنينى بوقوفك بجانبك يوم حصولى عليها ولكنك لم تفعل.

- أين أتيت بهذا؟ ألم تعرفى أننى كنت هناك؟ وباركت يوم تخرجك، وفرحت لك ، وحزنت عندما بكيت لشعورك بأنني لست معك ، كما أنني كنت معك يوم ذهبت تبحثين عن وظيفة لتكملى لى بأننى أراك فى ميدان العمل تخوضين معاركه وتعدوين لتحكى لى عما حدث لك فى يومك؟!

واشتغلت فعلا، وكثيرا ما احتجت إلى صدرك أبث إليه متاعبي ومشاكلي فى العمل، وكثيرا ما بحثت عن رأيك فى أمر استعصى على حله. سألت نفسى: ماذا ستفعل أنت لو كنت مكانى؟ ماذا سيكون رأيك؟ لكنك أبدا لم تجبنى ، بل تركتنى وحيدة.

ابتسم بهدوء أظهر جماله فسرت فى بدنى رجفة لا أدرى ما سببها سوى اشيتاقى لهذا الوجه وملامحه، ثم أعادني لثباتي صوته وهو يعاتبني:

- لا تلوميني على ذلك ، فقد تعمدت أن اتركك تتخذين قراراتك بنفسك ، فقد حان الوقت لتعتمدي عليها وتنفصلى عنى، أو أن تبحثي عن مصدرآخر للمشورة، ولكنى كنت أراقبك فى حال أخطأت القرار لأرشدك، وأمد أيدي لك.

صدقته ومددت يدي علىَّ ألمس يده لشفتى واشتم عبيرها الذى طالما أحسست به يملأ أنفى ورئتي ورأسي، وأحيانا أشتمه فى الجو فأبحث عن صاحبه فى المكان. تراجعت يدي فهو لم يبد أى محاولة للإمساك بها، بل هز رأسه آسفا ليقول لي: فات الأوان على ذلك، لم أعد قادرا على الإمساك بك أو الاقتراب منك ، فبيننا مسافات طويلة بالرغم من قربنا. آه، ضحكت على بالحديث واستغللت شوقى لك وأضعت على الغداء.

- لا، لا تذهب انتظر سأعد غداءك حالاً فأنا أعرف ما تحب.

نهضت من أمامه مسرعة لأنير الغرفة، واستدرت باتجاه المطبخ فلفت انتباهى عدم وجوده فى مكانه ، تلفت أبحث عنه، ناديته بأعلى صوت ، ناديته بأحب الأسماء إلى قلبه ، بحثت عنه، فى الغرف الأخرى ، فلم أجد ما يشير إلى وجوده ، فحزنت وانزلقت دموعى من بين جفونى لتحفر على وجنتى ممراً جديداً بين ما سبقها من دموع لترطب جفاف نفسي، سرت بتثاقل واتجهت إلى حيث اعتاد أن يجلس، فوجدت مكانه لا يزال دافئا يفوح بعبيره، وكأنه يقول لا أزل سيد هذا البيت وهذا هو مكانى!

أسندت رأسي الى الأريكة حيث أسند ظهره، فعاد إلىّ ذلك الشعور حين كنت اتخذ من صدره وسادة لي، وخيل إلى أنني أسمع دقات قلبه المتسارعة ، ولكن قد تكون على الأرجح دقات قلبي أنا التي تلهث خلفه وتبجث عنه. لملمت قتات نفسي واستجمعت قوتي وقوته. تركت المكان واتجهت لطفئ الأنوار فى عودته ، بل لأرحل بدوري، فقد انتهى لقاؤنا لذلك اليوم، ولكنني لم أشكره على وجوده معى ومساندته لى. عدت أسير فى ذلك الممر المظلم إلى أن وصلت للباب وحملت أغراضي.

فتحت الباب ونظرت لآخر الممر وهمست : شكراً. أخذت واحدة خارج الباب فسمعته يهمس: عفواً. أغلقت الباب ليغرق المكان فى عتنمة مطبقة، وودعت صاحبة فأنا أعرف أنه يعيش هناك وسيدعوني للقائه مرة أخرى متى يشاء، أما أنا فسأنتظر موعدنا الثاني.

 

 

سنابل المسلم