أرقام

أرقام

مسيرة البشرية

هل نحن ـ بالفعل ـ أمام عالم جديد أكثر انفتاحا واندماجا وتفاعلا مع بعضه البعض؟

بعض المظاهر تقول: (نعم).

وبعض المظاهر تقول: (لا)

فالمسافة بين مواطن في باريس وآخر في الكونغو, بين سيدة من نيويورك وسيدة من الصومال مسافة كبيرة, وربما تزداد اتساعا ولاتضيق.

و.. مع ذلك فإن التداخل يحدث, والتقارب يتحقق, وأوجه الشبه في العادات الثقافية تتزايد. كثير من الأزياء أصبحت عالمية, كثير من الوجبات الغذائية أصبحت كذلك, وطغت على ذوق المستهلك ألوان من فنون الموسيقى والغناء والرقص, واكتسحت كل من الشاشتين الصغيرة والكبيرة الكثير مما هو وطني ومحلي تستبدله بثقافة وافدة يتم تعميمها!

إنه العالم الجديد الذي يريد أن يتكلم لغة واحدة, حتى في مجال الجريمة, حيث باتت أنواع الجرائم وفنونها خبرة مكتسبة يجري تناقلها, بل يجري استخدام مخترعات العصر ـ كالكمبيوتر والإنترنت ـ في ارتكابها!

السؤال: ما الذي صنع ذلك على وجه غير مسبوق؟

والجواب له رافدان: رافد ثقافي وآخر اقتصادي.

يقول تقرير التنمية البشرية الذي أصدره البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة عام 97: إن هناك ثقافة عالمية آخذة في الظهور, ومن خلال العديد من وسائط الإعلام ـ من الموسيقى والسينما إلى الكتاب ـ فالآراء والقيم الدولية تختلط بالهويات والوطنية وتلونها بطابعها, ويضيف التقرير أرقاما حول ما أسماها تطورات ثورية في مجال التلفزيون والفيديو ووسائل الاتصال الأخرى.

ففي العالم ـ وطبقا للتقرير ـ هناك (1.2) مليار جهاز تلفزيون أي أن كل خمسة أفراد في العالم لهم جهاز يتلقون من خلاله ألوان الثقافة والمعرفة. كذلك فإن التجارة العالمية في البرامج تنمو بمعدل (15%) سنويا, وحصة دولة واحدة كالولايات المتحدة الأمريكية من التصدير لبرامج التلفزيون إلى أوربا وحدها تصل إلى 120 ألف ساعة سنويا! أما حكاية (الإنترنت) فقد أصبح في العالم 50 مليون مستهلك.

بكل ما يعنيه ذلك من انتقال سريع للمعلومات!

اتصالات أرخص.. اتصالات أكثر

ولكن, هل كان يمكن أن يتم كل ذلك دون تطورات اقتصادية وتكنولوجية؟ الجواب طبعا بالنفي.

لقد شهد العالم تطورين رئيسيين: ثورة في الاتصالات, وانهيارا في الحواجز التجارية, وقد أدى الانخفاض الكبير في تكاليف النقل إلى سهولة اجتياز الحواجز الطبيعية فلم تعد الجبال والبحار عائقا, ولم تعد مشقة السفر البعيد حائلا, وخلال سبعين عاما تنحصر بين عامي 1920 و1990 انخفضت تكاليف النقل البحري بأكثر من الثلثين, وفيما بين عامي 1960 و1990 انخفضت تكاليف تشغيل شركات الطيران العالمية لكل ميل بنسبة 60%.

ووفقا للتقرير فإن تكلفة المكالمة الهاتفية الدولية قد انخفضت بنسبة 80% بين عامي 40 ـ 1970 ثم عادت فانخفضت بنسبة 90% خلال الفترة التالية وحتى بداية التسعينيات!

هكذا أصبح الانتقال أسهل وأقل تكلفة, وهو ما لعب دوره حين بدأ العالم يشهد سقوط الحواجز التجارية مثل: التعريفات الجمركية ونظم الحصص والقيود الإدارية.

ويقدم تقرير التنمية البشرية أرقاما بالغة الدلالة, فبينما كان متوسط التعرفة الجمركية على الواردات المصنعة 47% عام 1974 أصبح المتوسط 6% فقط عام 1980 ومن المتوقع أن يهبط إلى 3% عند التنفيذ التام لجولة أورجواي.

هكذا نشطت الاتصالات, وزالت القيود التجارية أو كادت, ثم زالت حواجز من نوع آخر هي الحواجز التي صنعتها الحرب الباردة, والنتيجة: زيادة حجم التجارة العالمية بمعدل 12 مرة في فترة ما بعد الحرب الباردة!

إنها ثورة في التدفقات والاندماج بين دول العالم, ولكن ليس في المجال الثقافي أو التجاري فقط وإنما في كل المجالات وفي مقدمتها: عالم المال.

في عام 95 بلغت تدفقات رءوس الأموال من خلال استثمار أجنبي مباشر ستة أضعاف ما كانت عليه في الفترة 1981 ـ 1985. أيضا, فقد زاد حجم التعامل في أسواق الصرف الأجنبي من نحو مليار دولار في منتصف السبعينيات إلى 1.2 تريليون دولار عام 1996 وهو ما يشير إلى هذه القفزة الهائلة في حجم التبادل العالمي.

وتغيرات أخرى

قفزت الأرقام, زادت الأحجام لكن ذلك, وكما يقول برنامج التنمية البشرية ليس هو التغير الحاسم, فقد شهدت فترات تاريخية سابقة مثل هذه التغيرات إذا قسناها كنسبة مئوية من الناتج.

الأحجام ليست كل شيء, والأهم هو نوعية هذه المبادلات, فإذا كان العالم أكثر اندماجا, وأكثر تفاعلا, ففي أي مجالات يندمج, وهل يتم تفاعله في المجالات التقليدية مثل الصناعة أو الزراعة أم أن آفاقا جديدة تميز هذا العصر؟

يلاحظ التقرير أن نسبة التجارة السلعية تتراجع, بل إن أسعار السلع الأساسية كالصناعات التحويلية في انخفاض, ولكن النمو في معظمه يتم في مجال الخدمات والتجارة بين الشركات حيث تلعب الشركات متعددة الجنسية دورا أساسيا في التحول الذي يجري.

الملاحظة الثانية تتعلق بأثر التقدم التكنولوجي على طبيعة الاستثمار والتبادل.

تاريخيا, كان إنتاج التكنولوجيا العالية مقصورا على البلدان الغنية ذات الأجور المرتفعة للمشتغلين, أما اليوم فإنه قد أصبح سهلا أن تنتقل التكنولوجيا إلى البلدان النامية حيث يمكن أن يقترن الإنتاج المتطور بالأجور المنخفضة نسبيا, صحيح أن الدول النامية لاتستفيد بنفس القدر فالعامل تزيد إنتاجيته نتيجة استخدام تكنولوجيا متقدمة, لكن أجره لاينمو بنفس القدر.

هل يعني ذلك ثورة على النظام القديم لتقسيم العمل الدولي.

الأكيد أن هناك تغيرات أساسية تحدث في هذا المجال, فلم تعد الصناعة تميز الشمال والزراعة وإنتاج المواد الأولية تخصص الجنوب, بل إن الصناعة المتقدمة لم تعد حكرا على أسواق الشمال, فيكفي دول الشمال أن تكون منتجة للتكنولوجيا وأن يكون الجنوب مجرد مستخدم لها. إنه تقسيم جديد للعمل لم نعرفه منذ ثلاثين عاما.

في كل الأحوال, فإن الخطوط الساخنة, التبادل السريع والهائل يزداد حجما ويتعمق نوعا. إنها العولمة في خطواتها الأولى, وهو الاندماج يزداد اتساعا عاما بعد عام.

الحواجز ترتفع, الشركات العملاقة تجند المنظمات والاتفاقات والنظم الدولية لكسر كل الحدود. يحاول العالم المتقدم خلق ثقافة واحدة قد لاتختلف في مضمونها عن أي حملة منظمة لفتح الأسواق وتوسيعها, ويظل السؤال قائما: هل نحن ماضون إلى عالم واحد حقيقة؟ وهل يمكن أن يتم ذلك في ظل الظاهرة التي تصاحب العولمة وهي ظاهرة تركز الثروة وانتشار الفقر بما يعنيه ذلك على مستوى الأمم والجماعات والأفراد من تقدم وتخلف؟

إنه سؤال حول مسيرة البشرية, وهل تزداد تقدما أم يزداد الضعفاء فيها تخلفا وفقرا وتبعية؟

شعار (العالم قرية صغيرة) مازال بحاجة إلى تأمل.

 

محمود المراغي