شعاع من التاريخ

شعاع من التاريخ

كيف قصفت مدفعية الفرنسيين دمشق؟!

كانت الساعة تشيرإلى السادسة من مساء يوم 29 مايو 1945 في العاصمة السورية دمشق. وفجأة دوت أصوأت رهيبة غطت السماء. وانتبه الناس فإذا هي مدفعية الجيش الفرنسي تقصف مبنى البرلمان بهدير من النيران التي كانت تسمع على بعد عشرات الأميال. في ذلك الوقت كانت المصادفة قد لعبت دورها لينجو نواب سوريا من الموت تحت الأنقاض. فقد كان رئيس المجلس النيابي قد رفع الجلسة قبل ساعة فقط من بدء العدوان الوحشي، بعد أن كلفهم ضرورة الوصول إلى مراكز انتخابهم في مختلف المحافظات لقيادة معركة المقاومة الشعبية ضد قوات الاحتلال الفرنسي وتوسيع نطاق المعركة في شتى أنحاء البلاد.

الوحيد من بين أعضاء المجلس النيابي الذي لم يكن قد غادر المبنى كان رئيسه سعد الله الجابري، وحين أسرع للخروج لم يكن أمامه إلا الالتجاء إلى فندق أورينت بالاس، حيث نجا منه أيضا بطريقة تكاد تكون بوليسية. فقد حدث أن ضربت المدفعية مبنى الفندق نفسه رغبة في القضاء على رئيس البرلمان السوري. ولم يكن مفر أمام نزلاء الفندق جميعا من الالتجاء إلى البدروم بينما كانت الطبقات العليا تنهار كلها تحت وابل القصف. وكان بين نزلاء الفندق بطريرك روسي كاد يصاب من جراء الطلقات المجنونة، لولا أن سارع في تلك اللحظة السفير الروسي في دمشق وطلب من المسئولين عن أوامر العدوان إيقاف القصف فترة تكفي لإنقاذ البطريرك الزائر وإخراجه من دمشق. وكانت هذه هي الفرصة ا لأخيرة للنجاة أمام رئيس مجلس النواب السوري، فقد خرج مع البطريرك وعلى رأسه قبعة أجنبية تخفي شخصيته العربية وركب عربة خاصة أقلته مع البطريرك الروسي إلى بيروت، بينما استمر ضرب القوات الفرنسية للفندق وللبرلمان ثم لدمشق كلها!

في ذلك اليوم كان شكري القوتلي رئيس الجمهورية يرقد في مستشفى خاص بدمشق تنزف من فمه الدماء نتيجة نزيف حاد أصابه في المعدة، ولم تكن طلقات المدفعية الفرنسية تهزه، ولكن أخبار انتصازات قوات المقاومة الشعبية هي التي كانت تهزه، وتوطد إيمانه بقوة الشعب. وخلال قمة النزيف الدموي الذي كان يعانيه، جاءه الجنرال الإنجليزي في السفارة الإنجليزية ينصحه بالاتفاق مع الفرنسيين على إيقاف القتال مقابل التوقف عن المطالبة بالاستقلال. وكان رد القوتلي: "إننا نقاومهم ولن نتفق معهم على شيء سبق الاتفاق عليه وهو إعلان الاستقلال. فليمعن السفاح "أوليفار روجيه " في تنفيذ خطته الوحشية التي أعلنها ضدنا.. أما نحن فسنظل نقاوم حتى آخر مواطن من شعبنا".

وصمة العار لفرنسا

والحق أن الخطة التي أتبعها القائد الفرنسي السفاح في ضرب دمشق وصمة عار في جبين فرنسا. وكانت الخطة التي أذاعها في بلاغ سرى على ضباطه قبل ذلك بأسبوع تنص على نقاط أربع قال فيها: " يقتضي واجب فرنسا العسكري إبادة جميع عناصر الشغب التي تريد إخراج فرنسا المنتصرة من هذه البلاد" ويجب احتلال دوائر الحكومة السورية ومؤسساتها الثقافية، كما يجب منع أي اتصال مع الدول العربية المجاورة، با لإضافة إلى تجريد جميع أفراد الشعب من الأدوات الجارحة خلال 24 ساعة، على أن تحكم سوريا من قبل حاكم عسكري وأن تفتح المحاكم الفرنسية العسكرية فورا".

كانت حكومة فرنسا تحاول بهذه المعركة التي فتحتها في سوريا خلال تلك الأيام أن تعاود نشاطها وتستأنف وجودها في المستعمرات التي اضطرت للتخلي عنها عندما أنهزمت واستسلمت أمام قوات المحور. فقد أرادت بعد عودتها مباشرة من منفاها في الجزائر واستقرارها في العاصمة الفرنسية بمساعدة حلفائهـا الإنجليز أن تستعيد نفوذ فرنسا الضائع وسلطتها الممزقة في سوريا ولبنان. ووضعت نصب عينيها هدف تجديد معاهدة 1936 التي كانت قد مزقتها بنفسها، وراحت تتصل بواسطة أذنابها وأنصارها بجميع المحافل الرسمية وغير الرسمية، وبواسطة مندوبيها من ضباط مخابراتها بالأفراد والجماعات من الهيئات السورية لإقناعهم بأن فرنسا اليوم غير فرنسا التي عرفوها، وأنها تتقدم هذه المرة للشعب السوري بنوايا حسنة، وأنها ستدشن عهدا جديدا من الصداقة والمودة مع مسوريا بحيث يستفيد منها كلا الطرفين، ولكن كل هذه التقلبات لم يتأثر بها واحد من رجال سوريا الذين عرفوا فرنسا من خلال أعمالها الإجرامية في الجزائر وتونس وفي المغرب، وأخيراً في سوريا. وتناست فرنسا أنها كانت قد ركعت على قدميها وخضعت ذليلة لحكم النازيين، وأنها تريد الآن من السوريين أن يسدلوا ستارا على مآثمهم.

الخديعة والخطة السرية

كان الجنرال كاترو في الثامن من يونيو 1941 قد وجه نداء في الراديو خاطب فيه السوريين واللبنانيين بقوله: "إني قادم إليكم لإنهاء عهد الانتداب وإعلان حريتكم واستقلالكم. وستصبحون من الآن فصاعدا شعبا حرا ذا سيادة. وستتمكنون من أن تؤلفوا دولا منفردة أو تتحدوا في دولة واحدة وفي الحالتين سيكفل استقلالكم وتكفل سيادتكم "!

واعترفت الدول با لاستقلال الذي مارسه السوريون بحق، وأخذوا بعد أن تألفت الحكومة الشرعية بتسليم الصلاحيات، وتسلم السوريون جميع المرافق التي كان يسيطر عليها الفرنسيون سوى الجيش. وطالت المفاوضات بشأنه. وإذا فرنسا المستعمرة- التي مازالت تعيش بعقلية جورو ساراي وجميع عمال الانتداب- تعود فتريد أن تفرض سيطرتها من جديد وتعود بسوريا إلى أيام الاحتلال.

ورفضت الحكومة السورية مطالب الفرنسيين التي تمس سيادة البلاد واستقلالها، ثم طلبت من فرنسا أن تسحب جميع القوات الأجنبية من أراضيها. ورفعت فرنسا عن وجهها البرقع الذي كانت تستر وراءه كل تصرفاتها، فكانت هذه الخطة السرية التي أعلنتها بين أفراد قوتها لضرب دمشق وبقية المدن السورية التي تعرضت للتدمير والقذف من الطائرات والفتك با لأرواح وحرق الدور والسلب والنهب، إلى غير ذلك مما يسجل في تاريخ فرنسا صفحة سوداء ووصمة عار لاتمحى.

وبرغم كل ذلك فقد نجحت المقاومة الشعبية في سوريا في الوقوف في وجه العدوان. ومع ثورة العالم العربي والعالم المتمدين ضد الموقف الفرنسي الكائن كان لابد أن تخرج فرنسا مدحورة من سوريا إلى غير عودة.

 

سليمان مظهر

 
  




شكري القوتلي