جمال العربية

جمال العربية

سطور من "أيام" طه حسين

وطه حسين في كتابه "الأيام "، وفي هذه السطور المنتزعة من ختام الجزء الأول من سيرته الذاتية، لايستوقفنا دوره التنويري الرائد: ناقدا ومؤرخا ومترجما ومفكرا، بقدر عكوفنا على تأمل مدرسته الأسلوبية بكل جمالياتها وصوتياتها وإيقاعاتها. وفي كتاب " الأيام " يقدم طه حسين أفضل نماذجه في الكتابة الأدبية، مطوراً- في وعي ومعاصرة- اللغة الأدبية التي اصطنعها المنفلوطي وحقق بها مزيدا من الشهرة والرواج والتأثير في الناشئة. وطه حسين- الحكاء، الذي يملي، وينغم ما يمليه ويوقعه، ويدير فكرته ويلتف من حولها مرة بعدة، ويجلو خاطرته من خلال لغة حسية تعنى بالمنظور والمسموع والمشموم والملموس- يملك الكثير من عناصر التأتير الجمالي والنفسي، ويقفز بلغة الكتابة الأدبية إلى أفق أرحب، وفضاء أكثر اتساعا وجدة ونضارة.

يقول طه حسين:

إنك يا ابنتي لساذجة سليمة القلب طيبة النفس، أنت في التاسعة من عمرك، في هذه السن التي يعجب فيها الأطفال بآبائهم وأمهاتهم، ويتخذونهم مثلاً عليا في الحياة: يتأثرونهم في القول والعمل، ويحاولون أن يكونوا مثلهم في كل شيء، ويفاخرون بهم إذا تحدثوا إلى أقرانهما أثناء اللعب، ويخيل إليهم أنهم كانوا أثناء طفولتهم كما هم الآن مثلا عليا يصلحون أن يكونوا قدوة حسنة وأسوة صالحة.

أليس الأمر كما أقول؟ ألست ترين أن أباك خير الرجال وأكرمهم؟ ألست ترين أنه قد كان كذلك خير الأطفال وأنبلهم؟ ألست مقتنعة أنه كان يعيش ا تعيشين أو خيرا مما تعيشين؟ ألست تحبين أن تعيشي الآن كما كان يعيش أبوك حين كان في الثامنة من عمره؟ ومع ذلك فإن أباك يبذل من الجهد ما يملك وما لايملك، ويتكلف من المشقة ما يطيق وما لا يطيق، ليجنبك حياته حين كان صبيا.

لقد عرفته يا ابنتي في هذا الطور من أطوار حياته. ولو أني حدثتك بما كان عليه حينئذ لكذبت كثيرا من ظنك، ولخيبت كثيرا من أملك، ولفتحت إلى قلبك الساذج ونفسك الحلوة باباً من أبواب الحزن، حرام أن يفتح إليها وأنت في هذا الطور اللذيذ من الحياة. ولكني لن أحدثك بشيء مما كان عليه أبوك في ذلك الطور الآن. لن أحدثك بشيء من هذا حتى تتقدم بك السن قليلا، فتستطيعي أن تقرئي وتفهمي وتحكمي، ويومئذ تستطيعين أن تعرفي أن أباك أحبك حقا، وجد في إسعادك حقا، ووفق بعض التوفيق لأن يجنبك طفولته وصباه.

نعم يا ابنتي! لقد عرفت أباك في هذا الطور من حياته. وإني لأعرف أن في قلبك رقة ولينا. وإني لأخشى لو حدثتك بما عرفت من أمر أبيك حينئذ أن يملكك الإشفاق وتأخذك الرأفة فتجهشي بالبكاء.

ثم يقول طه حسين في ختام الجزء الأول من كتاب "الأيام": فإن سألتني كيف انتهئ إلى حيث هو الآن، وكيف أصبح شكله مقبولا لا تقتحمه العين ولا تزدريه، وكيف أستطاع أن يهيئ لك ولأخيك ما أنتما فيه من حياة راضية، وكيف استطاع أن يثير في نفوس كثير من الناس ما يثير من حسد وحقد وضغينة، وأن يثير في نفوس ناس آخرين ما يثير من رضا عنه وإكرام له وتشجيع- إن سألت كيف انتقل من تلك الحال، فلست أستطيع أن أجيبك، وإنما هناك شخص آخر هو الذي يستطيع هذا الجواب. فسليه ينبئك.

أتعرفينه؟ انظري إليه! هو هذا الملك القائم الذي يحنو على سريرك إذا أمسيت لتستقبلي الليل في هدوء ونوم لذيذ، ويحنو على سريرك إذا أصبحت لتستقبلي النهار في سرور وابتهاج. ألست مدينة لهذا الملك بما أنت فيه من هدوء الليل وبهجة النهار؟

لقد حنا يا ابنتي هذا الملك على أبيك، فبدله من البؤس نعيما، ومن اليأس أملا، ومن الفقر غنى، ومن الشقاء سعادة وصفوا.

ليس دين أبيك لهذا الملك بأقل من دينك. فلتتعاونا يا ابنتي على أداء هذا الدين، وما أنتما ببالغين من ذلك بعض ما تريدان!

أبوالعلاء المعري.. يتغزل

عرف "المعري " بين كل شعراء تراثنا العربي بالشاعر "الفيلسوف "، وانخلعت هذه الصفة على شعره، فسبقت تذوق قرائه، وجعلتهم يتلقونه في إطار هذا التفلسف الذي صاحب قصائده خاصة في ديوان "اللزوميات " الذي يضم شعر النضج والاكتمال. ولو أنهم بدأوا من النص الشعري ذاته، واطرحوا ما خلعه النقاد والدارسون عليه من أوصاف ومسميات، إذن لأتيح لهم أن يستقبلوه استقبالا آخر. ولتوقفوا عند فيض شاعريته وأسرار صنعته الفنية بأكثر مما خاضوا في فكره وتأملاته وخروجه على المألوف وتمرده على السائد. ولما عناهم كثيرا- ما شغل به الباحثون أنفسهم- من إيمانه أو شكه، وتدينه أو مروقه، واستعلائه أو انعطافه.

وفي ديوان المعري "سقط الزند" الذي يضم شعر الصبا والشباب، أقباس من توهج هذه الشاعرية- التي سيطفئها الفكر والتأمل في مقبل العمر- عندما كان المعري أقرب إلى روح أستاذه. ومثله الأعلى في الشعر: "المتنبي "، غيره بعيد عن غنائية "البحتري " وجيشان موسيقاه، وهو الذي وقف على ديوانيهما جهده وأدبه شارحا ومفسرا في كتابيه: معجز أحمد وعبث الوليد. يومها كان شعر المعري يتزيا بلغة لم تثقلها صياغات التفلسف ولامفردات البحث والنظر والتقصي. وكانت تندلع فيه نيران الشباب الجياش بالرغبات والآمال والتطلعات، وحميا الإقبال على الدنيا ومحاولة اقتحامها، قبل أن يقترب النضج وينكسر سهم العمر والإرادة ويأوي أبو العلاء إلى سجونه الثلاثة وليس إلى محبسيه كما يظن كثيرون:

أراني في الثلاثة من سجوني

 

فلا تسأل عن الخبر النبيث

لفقدي ناظري، ولزوم بيتي

 

وكون النفس في الجسد الخبيث

في هذا العمر الجميل كان المعري- المقبل على الحياة- يصبو ويشتعل بنار المحبة ويعاني الفراق والنوى ويقول:

إلى كمْ أمني القلب، والقلب مولع

 

وأزجر طرف العين، والطرف يدمع

وحتى متى أشكو فراق أحبة

 

عفا بالنوى منهم مصيف ومربعُ

وأستعرض الركبان عنهم مسائلا

 

عسى خبر عنهم به الركب يرجعُ

تصبرت عنهم وانثنيت إليهمو

 

ولم يبق في قوس التصبر منزعُ

أراعي نجوم الليل أرقب طيفهم

 

وكيف يزور الطيف من ليس يهجعُ

ومازلت أبكي لؤلؤاً بعد بينهم

 

إلى أن بدا مرجان دمعي يهمعُ

وما كان تبكي العين لولا فراقهم

 

عقيقا، ولايشفي الفؤاد طويلع

فلا حاجر بين الأحبة حاجر

 

ولا لعلع مذ فارق الحي لعلع

غربن شموساً في بدور أكلة

 

فليس لها إلا من الخدر فطلع

وشابهن غزلان النقا في نفارها

 

ولكنها بين الترائب ترتع

لها من مهات الرمل عين مريضة

 

وجيد كجيد الظبي أغيد أتلع

ومن قضب البان الرطاب معاطف

 

تكاد عليها الورق تشدو وتسجع

وتغدو سيوف الهند لما تشبهت

 

بألحاظها في الحرب تفري وتقطع

ذكرتهمو والقلب بالهم طافح

 

لبينهمو، والبحر كالليل أسفع

وما تنفع الذكرى لمن حبهم قلى

 

ووصلهمو قطع، وفيه تمنع

ولا عجب فالبخل في الغيد والدمى

 

طبيعة نفس ليست فيها تطبع!

إن المعري في هذا النص الشعري ينسج على منوال الشعراء الذين استوقفوه إعجابا ومتابعة، ويقدم نموذجا للغة الشعرية الجميلة- كما عرفها شعراء زمانه- ولم يسلم من بعض الحلى البديعية يزين بها شعره، وإن كان حرصه على رقة العبارة وسلاسة الصياغة وتخير المفردات يجعله قريبا من أنفاس البحتري ومهيار وأبي الطيب.

بعض الأسرار من جمال العربية:

يستعمل الكثيرون كلمة "الكهل" ويريدون بها الطاعن في السن، وهم في هذا الاستعمال مسوقون بما يجري على أقلام كثير من الكتاب، إذ يستعملون " الكهولة" لهذا المعنى.

والصحيح أن الكهولة هي اكتمال الرجولة. وهي العصر الذي يلي عصر الشباب. واللغويون يختلفون في تحديد عمر الكهل، فمنهم من يقول إنه من الثلاثين إلى الأربعين ومنهم من يمده إلى سن الخمسين.

إذن فالكهولة دون الشيخوخة والهرم، ولكن عامة الناس يظنون أن الكهل أسن من الشيخ وهو وهم لغوي تأباه وضاحة التعبير.

ويتحرز بعض الكتاب والأدباء ممن يؤثرون التعبير الصحيح الفصيح- من استعمال كلمة "العائلة" ويضعون مكانها كلمة " الأسرة".

والطريف أن كلمة الأسرة مستعملة منذ عصور قديمة. وممن استعملها ابن الجوزي- من علماء القرن السادس الهجري في كتابه "صيد الخاطر" كما استعملها لسان الدين بن الخطيب الأندلسي في كتابه "الإحاطة".

ويرى أستاذ الجيل أحمد لطفي السيد أننا محتاجون- في تعبيرنا اللغوي- إلى كلمتي " الأسرة" و"العائلة" معا على أن يكون لكل منهما مدلول خاص.

فـ " العائلة" تشمل الزوجن وأولادهما فقط، فلا تدخل فيها أخوة الرجل وعمومته وخئولته، فالوحدة الاجتماعية- وهي الرجل وزوجه وأولاده- ينبغي أن تقابلها في اللغة وحدة لغوية.

وأما "الأسرة" فتشمل الأهل من الإخوة والأعمام والأخوال وما يتفرع عنهم جميعا.

وكلمة "العائلة" تناسب الوحدة الاجتماعية التي تعول نفسها. وفي اللغة عيل وعيال وعائل. فكلمة عائلة إذن صحيحة، كما قلنا: بارجة وباخرة وطائرة.

فـ "العائلة" إذن وحدة ذات عيال تعول نفسها.

ويختلف الناس في أي الأسلوبين يدل على التواضع وعدم الاعتداد بالنفس: أن تقول وأنت تتحدث عن نفسك: أنا أرى كذا وأنا أطالب بكذا مستعملا ضمير المفرد، أو أن تقول: نحن نرى كذا ونحن نطالب بكذا، مستعملا ضمير الجمع؟

والشائع في تعبيرنا اللغوي أن استعمال المتكلم لضمير الجمع في التعبير عن نفسه يتضمن تعظيما للنفس. ولذا فنحن نجد هذا اللون من التعبير شائعا على ألسنة الملوك والحكام وفي أحاديث العظماء.

لكن الطريف أن هناك من يرى أن أستعمال المتكلم المفرد لضمير الجماعة في حديثه يشعر بالتواضع خلافا للمعهود من أنه يكون لتعظيم النفس، وأن إفراد الضمير هو الذي يتضمن تأكيدا للذات وتعظيما للنفس عندما يقول القائل مثلا: أنا أرى كذا وأنا أطالب بكذا.

ويرى هؤلاء أن هذا هو ما جرت عليه أساليب العرب الفصيحة، فهم يقولون مثلا: تجيء عندنا ونزورك فيكون التعبير مقبولا أكثر من: تجيء عندي وأزورك. كأنهم يستشعرون أن المتكلم لما استعان بغيره وأشركه معه في ضمير الجماعة أصبح بريئا من الأثرة والأنانية.

ثم إن لهذا التفسير منطقاً آخر. ذلك أن استعمال ضمير الجمع للمتكلم مكان ضمير المفرد المتكلم يدل على إظهار التعاطف مع المخاطب تخفيفا لقسوة الكلام عن النفس. فعندما يتجه المتكلم إلى الجماهير بالخطاب ويقول: نحن نرى كذا فهو لايتواضع فقط، بل هو يشرك سامعيه معه في الرأي بدلا من فرضه عليهم.

فأنت إذن تشرك المستمع معك في الموضوع عندما تقول له: نحن نرى كذا، وتجانب التواضع عندما تقول: أنا أرى كذا!

ونختتم هذه الأسرار من جمال العربية بهذه السطور من كتاب "اللغة الشاعرة" لعباس محمود العقاد، يقول فيها:

من ألوان الجمال في لغتنا العربية اتساعها للمعاني المجردة والمعاني المحسوسة، وتطور هذه المعاني جيلا بعد جيل، من أصولها اللغوية إلى دلالاتها ومعانيها الجديدة، وطريقها لتحقيق ذلك هو المجاز.

ثم يقول العقاد:

والمجاز هو الأداة الكبرى من أدوات التعبير الشعري، لأنه تشبيهات وأخيلة وصور وإشارات ترمز إلى الحقيقة المجردة، وتشترك معها في صفة أو علامة.

فمثلا كلمات: الواجب، الفريضة، الفضيلة، الحكمة، العظمة، الأنفة، النبل، الشرف، الرحمة، الجمال، العلم، الثقة، الوفاء.. كلها كلمات مجازية تجمع بين المعاني المجردة والمعاني المحسوسة.

فالفضيلة: هي في الأصل اللغوي كل بقية أو زيادة، هذا هو المعنى المحسوس، أما الفضيلة في استعمالنا فهي الخلق الذي يدل على فضل أو زيادة عند صاحبه، وهذا هو المعنى المجرد أو المجازي.. والفاضك هو الذي عنده زيادة.. أي الذي يتفضل بعطائه على غيره.

والعظمة: هي صفة العظيم، والعظيم هو في الأصل اللغوي الكبير العظام. والكلمة تعني في استعمالنا الآن. الكبير الأخلاق والصفات والمزايا.

والعزة: يوصف بها المكان المنيع، وهذا هو المعنى المحسوس، ونستعملها الآن للتعبير عن الرجل المنيع، وهذا هو المعنى المجرد.

والنبل: هو في الأصل ما ارتفع من مكان. ونستعمله الآن لارتفاع الشأن، وكذلك الشرف.

والفريضة: هي في الأصل اللغوي المساحة من الشيء حزت وفرضت وبينت فيها العلامات، فأصبح معناها المجازي الحدود المبينة الواضحة وهكذا تجمع الكلمات في لغتنا العربية بين المعنى المحسوس والمعنى المجرد، بين المعنى اللغوي والمعنى المجازي.

وهي بعض أسرار لغتنا الشاعرة!

 

فاروق شوشة