إشكالية الثقافة العربية في زمن التسوية رضوان السيد

إشكالية الثقافة العربية في زمن التسوية

بعد أن عقد الكثير من التسويات مع إسرائيل لم يبق لنا إلا الحديث عن الصمود الثقافي.. وهو صمود - حتى الآن - سلبي باستثناءات قليلة، بمعنى أنه صمود لا يخلق عوامل إيجابية مثل فتح آفاق للتفكير وإعادة النظر وبلورة خيارات تتجاوز آليات الدفاع الذاتي.

كثر الحديث في أوساط المثقفين في الأعوام الأخيرة عن التأثيرات الثقافية الواقعة والمحتملة للوجود الإسرائيلي، والإعلام الإسرائيلي، والمجتمع الإسرائيلي، في الداخل العربي والإسلامي. والواقع أن حديثا كهذا ظل دائما عاما أو تهويليا أو مازجا ومماهيا بين الثقافة الإسرائيلية والثقافة الغربية. وقد شاع ذلك على الخصوص في الخطابين القومي والإسلامي، بحجة أن الكيان الصهيوني هو في الحقيقة كيان غربي استعماري استيطاني مزروع في الوطن العربي والعالم الإسلامي. ومن المعروف أن هناك فئات قوية ضمن البروتستانتية الأمريكية، ظلت طوال العقود الماضية تدعم الكيان الصهيوني بناء على تفسيرات حرفية لنصوص من العهدين القديم والجديد. بيد أن التضامن والدعم الأمريكيين والأوربيين لإسرائيل لا يعودان لأسباب دينية، بل لأسباب تاريخية وثقافية وسياسية/ استراتيجية. فالأسباب التاريخية تتصل بالتمييز الديني الأوربي القديم ضد اليهود والتمييز القومي والعنصري الحديث ضدهم أيضا وصولا إلى مذابح النازية المنظمة إبان الحرب الثانية وأثناءها. وقد نجم عن ذلك كله ضمن النخب السياسية والثقافية الغربية الليبرالية تضامن معهم، وقول حقهم كسائر الشعوب في وطن مستقل، يأمنون فيه، ولا يعانون التمييز والاضطهاد. وهذا عامل ثابت في الثقافة والسياسة في الغرب الحديث والمعاصر. فحتى في أوساط اليساريين الليبراليين، والكاثوليك، والبروتستانت، ذو النزعة الأخلاقية، حيث ظهر اهتمام نسبي بالحق الفلسطيني، كان هناك من قال إن الأمر في أحسن الحالات يصبح: حقا في مقابل حق! أي حق كل من الشعبين في وطن مستقل، أي دولتين على أرض فلسطين. أما والأمر على هذا النحو، فإن الوضع الإسرائيلي يتلاءم مع قيم الثقافة، الثقافة السياسية الغربية - الظاهرة في ميثاق الأمم المتحدة، أكثر من الوضع العربي المستند إلى الواقع التاريخي - الذي لم يعد الآن ظاهرا على الأرض. والواقع أن الكيانات القطرية العربية الحالية تستند في مشروعيتها على المستوى الدولي إلى الأسس نفسها التي يستند إليها الكيان الصهيوني. بيد أن هذا إن كان يدلُّ على شيء، فعلى أن العرب والمسلمين حاليا يعانون مشاكل قيمية وعلائقية ضخمة مع العالم المعاصر وقيمه التي نشأت وتطورت بمعزل عنهم، وهم الآن موضوع لها، وليسوا مشاركين فيها بفاعلية بل على سبيل التبعية لكن من جهة أخرى، إذا بدت إسرائيل من هذه الناحية جزءا من العالم المعاصر وقيمه، فإنها من ناحية ثانية تنتمي إلى الجزء الليبرالي من التراث الأوربي، أعني الوجه الآخر الذي تختلط فيه القومية بالدين والأرض، وهو الوجه الفاشي والعنصري الذي بدأ في العشرينات والثلاثينات من هذا القرن، وتظهر بقاياه في أوربا الشرقية اليوم، ويستميت الأوربيون والأمريكيون في محاولاتهم لتجاوزه حفظا للروح الحضارية الغربية كما يقولون. والتطورات الثقافية والسياسية الجارية في الغربين اليوم تشي بظواهر وتحركات ووقائع متناقضة، قد تغير أو تعدل من قيم إنسانية غربية اعتبرت من قبل خالدة وجزءا من القانون الطبيعي الذي جرى فرض فكرته على العالم من خلال ميثاق الأمم المتحدة، والإعلان العالمي لحقوق الإنسان. على أن التطورات المعاصرة في الرؤية الصهيونية، أعني التزحزح عن اعتبار الأرض الركيزة الأساسية للمشروع الصهيوني ربما عنت - ضمن عوامل أخرى - اتجاها من جانب الليبراليين الصهاينة للاستجابة لعناصر أساسية في الثقافة الغربية، كانت الصهيونية الرجعية بالغة الإعراض عنها.

هل هي ديمقراطية ؟

وهناك أمر آخر ذو طبيعة دعائية عالية الوتيرة، لكنه في جوهره متصل بالثقافة والثقافة السياسية على الخصوص، أعني به: الطابع الديمقراطي الظاهر للنظام السياسي في الدولة الصهيونية. فعلى الرغم من الضغوط العسكرية والسياسية الخارجية التي تعرض لها الكيان منذ قيامه عام 1948، وعلى الرغم من الضغوط الداخلية المتمثلة في الأحزاب الدينية والقومية المتشددة، ما تخلت النخبة السياسية في ذاك الكيان عن مبدأ التداول السلمي للسلطة، وعن الاحتكام بانتظام إلى صناديق الاقتراع، من أجل اختيار القائمين على أمر السلطتين التشريعية والتنفيذية في الكيان. وهذه استجابة مهمة وذات دلالة لأوليات النظم السياسية الغربية في القرن العشرين؛ وهي إن لم تكن قد أسهمت في إقامة ذاك الكيان؛ فلا شك أنها أسهمت في استقطاب دعم العالم الغربي له، وفي الحفاظ على الاستقرار فيه.

أوجزت إذن عوامل وأسبابا وظواهر تاريخية وثقافية وثقافية / سياسية أسهمت في قيام الكيان الصهيوني واستمراره واستقراره. وهي عوامل وأسباب وظواهر واضحة التلاؤم مع - والانتماء إلى - عالم الثقافة السياسية المعاصرة، وهو العالم الثقافي الغربي، على أن هناك متغيرا آخر شديد الأهمية، وفي العقدين الأخيرين على الخصوص ، ترك ويترك آثاره على القيم الثقافية العربية، قيم الهوية والانتماء ، لغير صالح العرب، ولصالح الكيان الصهيوني: إنه الرؤية الاستراتيجية الغربية على العموم، والأمريكية على الخصوص، ولمنطقتنا. وهي رؤية ثقافية في الأساس، وصارت الآن ثقافية سياسية وثقافية استراتيجية - وأعني بذلك أيديولوجيا الشرق الأوسط. فقد احتار البريطانيون والفرنسيون منذ القرن الماضي في تسمية منطقتنا، تجنبا لتسميتها باسمها التاريخي: بلاد الشام، أو الثقافي المشرق العربي. فسموها تارة الهلال الخصيب (الشواطئ الشرقية للبحر المتوسط)، أو شرق البحر المتوسط، أو أرض التوراة، أو الشرق الأوسط مفرقين بين ثلاثة أنواع من المشارق في الموقع الجغرافي من قارة أوربا السيدة التي اعتبرت نفسها في القرن التاسع عشر "مركز العالم": الشرق الأدنى، والشرق الأوسط، والشرق الأقصى. وقد اعتاد الأمريكيون حتى الثلاثينات من هذا القرن على اتباع البريطانيين في المصطلح في المناطق التي لم تكن ذات أهمية حيوية بالنسبة لهم مثل منطقتنا، حتى إذا ظهر البترول، واستتب لهم الأمر فيها بعد الحرب الثانية، استغنوا عن مصطلح "الهلال الخصيب" لصالح مصطلح الشرق الأوسط، ضمن رؤية وتقسيم استراتيجيين أعرضوا بمقتضاه تدريجيا أيضا عن مصطلح "الشرق الأدنى" ليطوي مصطلح "الشرق الأوسط" بين جنباته المتوسعة عقدا بعد عقد كل المشرق تقريبا. وقد اختلفت التعديلات لدى المنظرين البريطانيين والأمريكيين لهذا المصطلح، الذي ظل ظهره جغرافيا: لكنه كان في الحقيقة منذ البداية ثقافيا، وهو الآن ثقافي استراتيجي. وقد أوضح برنارد لويس المستشرق الصهيوني المعروف أيضا وإيلي خضوري خبير السياسات والصهيوني المعروف أيضا وغيرهما، ومنذ الخمسينات الأبعاد الثقافية لهذا المصطلح. قال هؤلاء إن هذه منطقة الحضارات الرئيسية منذ أقدم العصور. لكنها بسبب خصوبتها وموقعها الاستراتيجي على حفاف الصحاري الكبرى، أو بين الصحاري والجبال والبحار، تصارعت شعوب كثيرة على سكانها والسيطرة عليها. وما أمكن لشعب واحد أن يستولى عليها، بل تقاسمتها إثنيات كثيرة، وكانت الصراعات دائمة الاشتعال فيها، بسبب طبيعتها الفسيفسائية. لكن نظرا لأهميتها للحضارة وللعالم، فإن الإمبراطوريات الكبرى كانت تضع يدها عليها من أجل فرض الاستقرار، وإبقائها مفتوحة لرفاه العالم وأمنه. فعل ذلك المصريون القدامى والبابليون والأشوريون واليونان، والرومان والفرس والبيزنطيون والعرب والعثمانيون والأوربيون والآن الأمريكيون. ليست للمنطقة هوية واحدة، وليست من حق فريق بمفرده. والإمبراطورية المسيطرة عليها من خارجها تفيد من ثرواتها وموقعها، لكنها بذلك تخدم العالم كله، وتلعب دور الحكم بين الشعوب الصغيرة المتوطنة فيها.. والعبرانيون شعب صغير في المنطقة، لكنه من أقدم شعوبها، ولذا فإن حقه في الوجود فيها - وفي فلسطين بالذات - لا يقل عن حق أي شعب آخر. ومن واجب السيد المسيطر فيها أني ضمن أمن ذلك الشعب، كما يضمن أمن سائر الشعوب الأخرى. ويرى خضوري أن هذه الرؤية الثقافية والاستراتيجية كانت وراء اتفاق العثمانية على تقاسمها، وإقامة كيانات منفصلة فيها، من ضمنها الكيان اليهودي، وعدم السماح بتوحيدها. صحيح أن أكثرية سكانها عربية اللسان، لكن اللسان لا ينفرد بصنع هوية قومية. ثم إن قيام دولة فيها كفيل بأن يحرم العالم من انفتاحها وثرواتها ووقعها الاستراتيجي؛ فضلا عن ذلك يعني سيطرة عربية على شعوب أخرى موجودة فيها منذ القديم. ولذا فقد أخذ ساسة بريطانيون وأمريكيون على إرنست بيفن وزير الخارجية البريطاني في الحرب العالمية الثانية، موافقته على قيام "الجامعة العربية" التي تعني اعترافا بهوية من نوع ما لهذه المنطقة الحيوية. وهكذا فإنه عندما تطوع شمعون بيريز وزير الخارجية الإسرائيلي أخيرا بطلب ضم إسرائيل إلى "الجامعة العربية" اشترط تغيير اسمها إلى "جامعة الشرق الأوسط" تبعا لرؤيته لذاك "الشرق" في كتابه المعروف باسم "الشرق الأوسط الجديد"قد ذكر ساسة إسرائيليون آخرون أسبابا أخرى لعدم جواز تسمية المنطقة الآن باسمها التاريخي أو الثقافي.فهي في المنظور الاستراتيجي الأمريكي اليوم تضم شعوبا كبرى غير عربية من بينها الإيرانيون والأتراك والباكستانيون وشعوب آسيا الوسطى، فلا أقل من ضم الشعوب الكبيرة إلى الجامعة الشرق أوسطية، وعندها لا معنى لتسميتها جامعة عربية. وقد و وجهت مصر في الخمسينات عند بروز مشروعها للدوائر الثلاث، بنظرية الفراغ الاستراتيجي، بسبب جلاء البريطانيين والفرنسيين.

على أن هناك أمرا آخر تكرر كثيرا في الأدبيات الاستراتيجية في السنوات الأخيرة، وهو يستند إلى القانون الدولي. فلذلك القانون لا يعرف من الكيانات السياسية في أكثر مناطق العالم غير الكيانات القومية، التي أقيمت على النمط الأوربي للدولة الأم عقب الحرب العالمية الأولى. فالكيانات العربية القائمة تتوافق وهذا التصور، وتزداد تباعدا وانعزالا بمقتضاه. بل وتنشب بينهما النزاعات والحروب كما تنشب بين القوميات المختلفة. والأمثلة على الهوية الثقافية العامة التي تمكنت من التغلب على الكيانية الانفصالية نادرة في عالم اليوم (فيتنام وألمانيا حتى الآن). ومن هنا فإن الكيان الصهيوني يتوافق ورؤية الغرب الاستراتيجية لمنطقتنا، كما أنه يتوافق والطابع القومي الغلاب للدول القائمة في العالم. وقبل هذا وبعد فإن "السوق الشرق الأوسطية" التي تطرح فكرتها الآن، تستند إلى هذا الأساس القومي للدول ذات السيادة، في القانون الدولي. فالمطروح سوق تشبه السوق الأوربية المشتركة، لكن المسافة ستكون هي نفسها في حال قيام السوق بين الدول الداخلة فيها مثل السعودية ومصر وتركيا وإيران وإسرائيل - مع وجود قطب أو عدة أقطاب من داخل المنطقة وخارجها، فيعود بنا الأمر إلى التصور الثقافي الاستراتيجي لمنطقة الشرق الأوسط، والقطب أو الأقطاب التي تحميها وتهيمن فيها.

خط الدفاع الأخير

وتشكل القيم الثقافية العربية والإسلامية خط الدفاع الأخير، وعامل الممانعة المستمرة. لكن العرب والمسلمين أسرفوا في استخدام هذه القيم، وتلك الثوابت وبطرائق متسرعة في العقود الأخيرة من السنين. فهناك ذلك الحذر والتوجس من اليهود، نتيجة التجربة التاريخية للمسلمين معهم عبر العصور. وفي عصر المواجهة الرسمية والشعبية مع الصهيونية، صدرت مئات الكتب، وآلاف المقالات التحشيدية ضد اليهود، التي هدفت إلى جعل القبول بالكيان الصهيوني، بل باليهود كجماعة سياسية في منطقتنا أمرا مستحيل التصور. بيد أن تصورات تهويلية وعنصرية خالطت هذا الركام الضخم، محولة أولئك الناس إلى كائنات خارقة، تستحيل هزيمتها؛ وكان ذلك عكس ما أردته من ورائها تلك الكتابات وهو أن تحول دون تقبل الأمر الواقع. وكانت تلك التصويرات تزداد هولا وبهلوانية بعد كل نكبة أو هزيمة. ومن أمثلة ذلك الانتشار الواسع للكتيب المعروف باسم "بروتوكولات حكماء صهيون" الذي كانت الشرطة القيصرية الروسية قد ابتدعته ونسبته للحاخامات، وهو يتضمن خططا شيطانية لتخريب العالم. وما نمت تلك التهويلات المنشورة على نطاق واسع عن رؤى عربية متعصبة وعنصرية بقدر ما نمت عن أمراض مستشرية في الثقافة العربية الحديثة والمعاصرة وعن خصام لدود مع الغرب وثقافة العصر. إذ أن ذلك التصور كله استخدم في النهاية لإدانة الغرب وثقافته مع بدأ التأزم في العلاقة بين المفكرين المسلمين والثقافة الغربية في الأربعينيات، فقد قيل إن الثقافة الغربية كلها هي نتاج اليهود عبر الثالوث الرهيب: الماسونية والماركسية والصهيونية! وفي موازاة المؤلفات ضد اليهودية والصهيونية، انتشرت الكتابات اللاعنة للغرب كله: ثقافة وسياسة واجتماعا. وبقدر ما كان الغرب وثقافته ينتشران في مجتمعاتنا، كان التهويل والإدانة يزدادان حتى بتنا في عصر "الصحوة الإسلامية" نعيش انفصاما مريعا وشنيعا: بين الواقع الغربي والعصري اللذين نعيش فيهما، والثقافة الإسلامية المكتوبة التي تعتبر الغرب كله مادية وجاهلية وكفرا صراحا. وفي النهاية فإن الحصيلة المعرفية لتلك الأدبيات التي تسمى كشفا أو فضحا أو نقدا ضئيلة أو معدومة، لاجتنابها للمعلومات ولجوئها للقصص والأساطير والادعاءات. على أن الجانب الطفيلي المتعملق من ثقافتنا الإسلامية المعاصرة سرعان ما أثبت هشاشته، وصرح ع ن تهافته مع بدء المفاوضات بين الدول العربية وإسرائيل. فعلى عكس آلاف الفتاوي الصادرة عن أفراد ومجامع فقهية في عصر المواجهة، بدأت فتاوي فقهية إسلامية تصدر مجيزة الصلح مع العدو الصهيوني. صحيح أنها تصدر موشحة ببعض الشروط والتحفظات، لكنها على أي حال تجعل الاعتراف بالكيان اليهودي على أرض فلسطين ممكنا، الآن على الأقل. تذكرنا هذه الفتاوي بعهود مهادنة وصلح بين أسلافنا وأعدائهم في الدين والدولة. وتعزينا بأن المسلمين انتصروا في النهاية بعد أن تغيرت الظروف. والنصوص المستخدمة من القرآن والسنة وكتب الفقه والفتوى صحيحة. لكن القياس الفقهي الضيق الأفق، والمتجاهل للسياقات والظروف التاريخية سرعان ما يكتف عن عجزه وقصوره، وتخلفه الثقافي والفكري والسياسي. إذ أن الفتاوي السابقة المحرمة للمهادنة والصلح كانت قد استندت إلى النصوص نفسها أو نصوص مشابهة مع التجاهل نفسه للظروف والسياقات، وقصور الأقيسة وخَطَلِها.

إن هذا كله هو ما قصدته عندما ذكرت فيما سبق أن صمودنا وممانعتنا الثقافيتين يتسمان في الأعم الأغلب حتى الآن بالسلبية والسكونية. ولذا يسهل التلاعب بهما في التأويل والتفسير وإعادة التأويل والتفسير. وهذا هو المعنى الحقيقي لمأزقنا على المستوى الثقافي وبالتالي على المستوى الاجتماعي والسياسي. فنحن لسنا مهددين في الحقيقة ثقافيا من جانب إسرائيل، مشكلاتنا الثقافية ليست إسرائيل سببها، بل إن مشكلاتنا الثقافية هي مع العصر وثقافته وعلى مستوى النخب قبل الجمهور. فصحيح ما يقال الآن من أن النضال هو الآن نضال ثقافي لكنه ليس النضال التحريضي الذي اعتدنا عليه في الحقبة الماضية، والذي أوصلنا إلى ما نحن عليه الآن من هلهلة في الثقافة والسياسة أو في الثقافة السياسية. والواقع أنه لكي نفهم أصول الفكر العربي المعاصر الذي يتميز بالاختلال والانكماش، وسوء العلاقة بالعالم من حوله، علينا أن نعود إلى تلك الحقبة الحاسمة من حقب تاريخنا الحديث، والواقعة في العشرينات والثلاثينات من هذا القرن. ففي تلك الفترة ألغى مصطفى كمال الخلافة، وتصاعدت الأفكار العربية الشاملة، وتكونت الدول القطرية المناقضة لتلك الأفكار. فبدأ ذلك الخلف الملعون بين الفكرة والواقع، وبين النخبة الإصلاحية الإسلامية ورجالات الدول القطرية، وبين الإصلاحيين والغرب. وكانت تلك اللحظة التي ولد فيها الفكر العربي الإسلامي المعاصر المأزوم، وقد نجمت أزمته عن الفشل في حل المسألة القومية والإسلامية (الأمة الواحدة) أو مسألة الدولة، وعدائه للغرب الصانع في نظرة للدولة القطرية، وانفصامه التدريجي عن الدولة القائمة. وقد ازداد الاختلال والإحساس بالفشل والغربة بعد أن فشلت المحاولة الثانية لحل المسألة القومية، مسألة الدولة، وترتيب علاقات جديدة مع الغرب في عهد دول العسكريين الاشتراكيين منذ الخمسينات.

ولذا فإن نخبنا الثقافية والسياسية تعني على اختلاف الأيدولوجيات التي تعتنقها من آثار الخصام مع ثقافة العالم وحضارة العصر أو سوء الفهم لهما. ويسود الانكماش والخوف والانقسام والتوجس سائر فئاتها. فالقوميون، الذين قادوا مشروع الدولة الوطنية في الحقبة الماضية، يقفون حائرين مترددين أمام الغرب السياسي الذي أثبت عدوانية واستخفافا بحيث صار يستحيل معه الفصل أو التمييز بين السياسي العدواني، والثقافي الحضاري، فيه. ولذا يلجئون لترقيع القومية الانعزالية السابقة بأوشية وأنسجة الإسلاميين الراديكالية التي تنجي من "الغزو الثقافي" وتحفظ الثقافة الأصلية. والإسلاميون يعرضون عن الغرب الجاهلي ثقافة وسياسة، وينفون في إدانة كل الموجود، سعيا وراء طهورية يحسبونها العدة الباقية للاستشهاد والنجاة من هول هذا العالم الغريب المفزع الذي يريدون التخلص منه ولو بعملية انتحارية. وتشيع بين القوميين والإسلاميين مقولة: "الغزو الثقافي" والمؤامرة الهائلة على العروبة والإسلام. وهما فكرتان متناقضتان. فالغزو عملية واضحة وصريحة خفية وسرية. لكن الفكرتين فيهما خطل كثير، فلا يخاف الغزو غير الضعيف، ولا غزو في الثقافة، بل إنك تستطيع في الثقافة تمييز الصحيح من الفاسد، والمفيد من المضر فلا يبقى هناك غزو ولا ثأر. أما فكرة المؤامرة فتعني جهلا مطبقا بالثقافة المعاصرة المفتوحة الآفاق التي لا أسرار فيها ولا مؤامرات، بل احتمالات وخيارات ومصالح. فكلتا الفكرتين تعني انعزالا وانكماشا وخوفا من الآخر. أما التقدميون الذين صاروا علمانيين راديكاليين فينحون بالأئمة على الجمهور المسلم المتخلف، الذي لن ينجو إلا بالانسلاخ من الإسلام، والدخول في "الحداثة" فردا فردا؛ وقد أعذر من أنذر؛ فهم في كل الأحوال خارج هذا الجمهور، وذاك الإسلام! والجميع من قوميين وإسلاميين وعلمانيين أسرى طليعية نخبوية تعتقد أنها تملك الحقيقة الثقافية كلها، وأن المشكلة تمكن في أن الجمهور لا ينقاد لها، ولو فعل لنجا ونجوا جميعا.

هذا هو المشهد الثقافي العربي اليوم. وقد يكون في التصوير بعض المبالغة، لكن المعالم الأساسية صحيحة فيما أحسب. وبدايات الإجابة عن التساؤل الكبير: أين نحن؟ وإلى أين نتجه؟ في أن نسعى، في فترة التقاط الأنفاس هذه للقيام بمراجعة ثقافية شاملة مفتوحة للخروج من هذا الانكماش، وهذا التوجس، وهذه الانعزالية، وهذه النخبوية الطليعية. فالتجربة التاريخية الزاخرة لأمتنا تجربة مفتوحة منفتحة. وذاتيتنا كانت تتحقق دائما بالانخراط في العالم ومشاركته، لا في التشكيك بأنفسنا وبالعالم. إسرائيل مشكلة كبيرة لكنها ليست مشكلتنا الوحيدة، ولا أهم المشاكل. أهم مشكلاتنا ذاك الانكماش والتقوقع في التفكير مما ولد انفصاما مريعا بين حياتنا الواقعية وعوالم الوهم التي تحتل المخيلة. قوميتنا، تلك الفكرة الاستراتيجية الرئيسية في هذا القرن، تحولت بفعل الانفصام بين الفكر والسلوك إلى عصبية متخلفة. والإسلام الذي تحمله حركات الإسلام السياسي تحول بفعل العجز الفكري إلى جهادية عنيفة داخل الجماعة متشبثا بنموذج "حرب الشعب الطويلة الأمد" لدى يساريي أواخر الستينيات ومطالع السبعينيات والعلمانية الليبرالية تحولت لدى علمانيينا الراديكاليين إلى سوداوية كارهة لأمتنا وتجربتها التاريخية التمرد على العصر على أمتنا وخيانة لها وإخراج لها من التاريخ والمستقبل كما أخرجت من حاضر العالم. لا بد من انخراط في العالم وقيمه، وبشكل جماعي. والآلام والجراح حاصلة في حالي الإقبال والإعراض لكن الفرق، أن مشكلات الإقبال مشكلات النجاح بينما آلام مشكلات الإعراض هي آلام الفشل.

علاقة تناقضية

إن خلاصة الأمر أن مفاوضات وأحداث التسوية أظهرت وجود مشكلات ثقافية طاحنة في عالمنا الثقافي. وهي مشكلات ما أحدثتها الثقافة الإسرائيلية؛ بل إن الهزائم التي أفضت إلى التسوية الجاري التفاوض حولها أبرزتها للعيان. إن ثقافتنا ثقافة مأزومة لعلاقتها التناقضية مع ثقافة الغرب والعصر. فأزمتها ليست من إسرائيل بل لخصامها مع العالم وثقافته. فالعرب ما شاركوا في ثقافة العصر، بينما جاء اليهود من أوربا أو أن نخبتهم المسيطرة جاءت من هناك. والباقون لا يزالون يشاركون ويؤثرون. ولذا فهم متلائمون مع ثقافة العصر في توجهاتهم الاجتماعية والسياسية والرئيسية في حين نصر نحن على القطيعة فنقفل على أنفسنا إمكانية الإفادة، لاجئين إلى "أصالة" مدعاة أبرز ما فيها أنها ضد عالمية الإسلام وتاريخيته، ومعادية للعالم، ولظواهر التفتح والتجديد في الحاضر. وبسبب الفقر الثقافي الذي نعانيه، فإن وسائلنا الثقافية لمواجهة إسرائيل والغرب، متخلفة وانكماشية وخائفة. والعاجز الخائف هو الذي يلجأ للتهويل تخويفا للذات والآخر. إن الاعتماد حتى الآن على ثقافتنا التاريخية؛ لكن بسبب عجزنا عن تجديدها تبدو سكونية مفيدة في الصمود لا أكثر. واختراقها ممكن بسبب تلك الهشاشة كما يبدو في الفتاوى المعادية لإسرائيل والأخرى المجيزة للصلح معها. وسيكون من السهل اختراق صمودنا الثقافي إن بقينا على هذه الحال. فلا حل إلا بالخروج من الأوكار، والانخراط في ثقافة العالم. والثقافة لا تحل مشكلاتنا العسكرية والسياسية والقومية مع الكيان الصهيوني ، لكن البيئيات الثقافية المزدهرة والمنفتحة تضعنا في مواضع المراجعة والنقد والتصحيح لتجاربنا بل ورؤانا على المستويات كلها، فتفتح المجال لإدراك جديد لعلل فشلنا في حل المسالة القومية، كما تفتح المجال لإدراك جديد لقضية فلسطين ولكيفيات مقاربتها، وتفتح المجال أخيرا للنظر في طموح الثقافة العربية الإسلامية التاريخية الأرقى، والتي ترى - كما ذكر جوزيف سماحة - أن بوسعها أن تقترح على اليهود حلا للخروج من الصهيونية!

 

رضوان السيد

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات