على هامش أزمة القدس أمين هويدي

على هامش أزمة القدس

دون تعليق تنشر "العربي" مقتطفات من ذلك الحوار التاريخي الذي دار بين الأبالروحي للمسيحية الغربية والأب الروحي لإسرائيل ، الذي يوضح موقف المسيحيةالأوربية من قضية القدس وهو الموقف الذي لم نستطع استثماره.

كان تيودور هرتزل يجوب العواصم الأوربية محاولا حصوله على التأييد لإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين فاتجه في يوليو1903 إلى روسيا للحصول على موافقة القيصر في التوسط لدى السلطان العثماني ليمنحهم فلسطين، وقابل وزير الداخلية بلافييه وحدد طلباته منه بأن تتوسط الحكومة القيصرية لدى السلطان لمنح اليهود امتياز استعمار فلسطين باستثناء الأماكن المقدسة على أن تبقى البلاد تحت حكم صاحب الجلالة السلطان.

ولم يغادر هرتزل روسيا إلا بعد أن أبلغه وزير الداخلية "بلافييه" رسميا بموافقة القيصر وحكومته على تأسيس دولة يهودية في فلسطين.. وفي أغسطس 1903 عزز وزير الداخلية الروسي موافقة حكومته كتابيا بإرسال خطاب إلى تيودور هرتزل مصرحا له بأن يعلن هذه الموافقة على الملأ. بعد تسلح تيودور هرتزل بخطاب بلافييه ذهب إلى روما لمقابلة البابا لأخذ موافقته أيضا، وفي يوم 1904 قابل ميري دي فال " وزير خارجية الفاتيكان وعرض عليه طلباته ودار بينهما الحوار الآتي:

- وزير الخارجية : لا أستطيع أن أحدد ماذا علينا أن نفعله إزاء هذه القضية، فما دام اليهود مستمرين في إنكارهم ألوهية المسيح فإنه يتعذر تأييدهم وبالرغم من أننا لا نحمل أي عداوة لليهود في قلوبنا فما زالوا على موقفهم من المسيح.. فكيف نستطيع إذن ودون أن نتخلى عن أسمى مبادئ إيماننا أن نوافق على أن يأخذوا الأرض المقدسة ؟

- هرتزل: إننا نطلب الأرض غير المقدسة فقط أما الأرض المقدسة فسوف تظل خارج دولتنا.

- وزير الخارجية: معنى ذلك أن الأماكن المقدسة سوف تصبح معزولة في الدولة الجديدة ولا يمكننا أن نتحمل رؤيتها على هذه الحال.

- هرتزل : ولكن هل يرضى العالم المسيحي يا صاحب النيافة على الوضع الراهن لهذه الأماكن المقدسة ؟ ألا تظن أن تصحيح هذا الوضع يرضي مشاعر الطوائف المسيحية على اختلاف نزعاتها ؟ إن إعلان الفاتيكان مناصرتنا أو على الأقل عدم معارضتنا لا يتناقض مع سياسة الكنيسة التي كنت وما زلت معجبا بتقاليدها العظيمة.

- وزير الخارجية إن اليهودي الذي يعمد نفسه عن إيمان والذي يعترف بالمسيح مثله مثل القديس بطرس والقديس بولس، وبالرغم من أن تراثنا بني على تاريخ بني إسرائيل فإنه لا يمكننا أن نقف موقف التأييد منهم إلا بعد اعتناقهم المسيحية ولا يمكن قبل ذلك أن نؤيدهم أو نساعدهم.

- هرتزل: لم يطلب أحد منكم المساعدة يا صاحب النيافة إذ ستقوم إحدى الدول الكبرى باتخاذ الخطوة الأولى وما عليكم إلا أن تباركوا هذه الخطوة فلدي رسالة (بلافيية) وكان يمكنني أن أكتفي بها إلا انه يهمني أن أحصل إلى جانب ذلك على التأثير المعنوي نتيجة لموافقتكم على مشروعنا باسم الكنيسة الكاثوليكية.

وفى نهاية المقابلة.. أطلع هرتزل وزير الخارجية على رسالة بلافيية ورجاه وهو يودعه أن يرفع أسمى احتراماته إلى قداسة البابا بل يضعها تحت قدميه كما سجلها في مذكراته وفي 25-1-1904 قابل هرتزل البابا ووصف المقابلة في يومياته فقال: استقبلني واقفا ومد لي يده لا قبلها ولكني لم أفعل رغما عن نصيحة ليباي - وهو أحد الرسامين الذين ساعدوه في مقابلة البابا - وأظنني أثرت غضبه بذلك لأنه اعتاد من زائريه أن يركعوا تحت قدميه، قبلوا يده على أقل تقدير".

- قداسة البابا: ليس في استطاعتنا أن نعترف بحركتكم وفي الوقت نفسه فإنه ليس في مقدورنا منع اليهود من الذهاب إلى القدس ولكن كل ما في استطاعتنا إلا نكسب ذهابكم هذا صفة شرعية، فتراب القدس من قدسته روح المسيح الذي عاش فوقه.. وكرئيس للكنيسة أقول لك أن اليهود لم يعترفوا بسيدنا ولذلك فإننا بدورنا لا نستطيع الاعتراف بهم.

ويقول هرتزل في مذكراته أنه علق في نفسه وفي حضرة البابا بأن "النزاع يبدأ للمرة الثانية بين روما التي يمثلها البابا وبين القدس التي أمثلها أنا، وحاولت في البداية أن أكون مسالما وتلوت عليه مقطوعتي بخصوص إخراج بيت المقدس والأماكن الدينية من نطاق الدولة ولكنه لم يتأثر أو يقتنع بما أقول".

- قداسة البابا: من المستحيل أن تكون القدس بأيدي اليهود.

- هرتزل: ولكن حالتها الراهنة يا قداسة البابا...

قداسة البابا: (مقاطعا) أعرف سوء حالتها وهي في حوزة الأتراك وهو أمر يجب علينا أن نتحمله ولكن لا يمكن أبدا أن نساعد اليهود على الاستيلاء على أماكننا المقدسة.

- هرتزل: هدفنا بعيد كل البعد عن النواحي الدينية فكل ما نريده هو تخفيف الآلام التي يعاني منها شعبنا اليهودي.

- قداسة البابا: بصفتي رئيسا للكنيسة أرفض ذلك بصفة قاطعة فإنكم خارجون عن تعاليم المسيح حتى اليوم.

- هرتزل : ربما كان ذلك بسبب الاضطهاد الذي تعرض له اليهود والاضطهاد ليس الوسيلة المثلى للهداية.

- قداسة البابا: ولكن إلهنا جاء دون قوة أو ضغط وكان فقيرا مسالما ولم يضطهد أحدا بل عانى كثيرا من الضغط الذي وقع عليه، وقد مرت ثلاثة قرون قبل أن تتأسس الكنيسة ونعمق جذورها الأمر الذي ترك لليهود فسحة من الوقت لكي يعترفوا بالمسيح دون ضغط أو إرهاب ولكنهم لم يفعلوا حتى اليوم وعلى ذلك فنحن لا نستطيع.. لا نستطيع. وكتب هرتزل بعد ذلك: "انصرفت دون أن أقبل يده شددت عليها بشيء من الحرارة وانحنيت انحناءة حقيقية وأنا أغادر المكان.. وفي الغرفة المجاورة لغرفة البابا قضيت بعض الوقت، رأيت في الحجرة صورة أحد الأباطرة راكعا أمام أحد الباباوات وهو يضع على رأس الإمبراطور تاجا... وهذا بعينه ما تريده روما بالنسبة لنا". ومات هرتزل في 3 يوليو 1904 ودفن في فيينا حتى عام 1949، ثم نقلت رفاته لتدفن في قبره بجبل هرتزل بالقرب من القدس ولعل روحه الآن ترى في رضاء ما يحدث في القدس وبها...

 

أمين هويدي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




موقف المسيحية الأوروبية من قضية القدس لم يستطع العرب استثماره